دراسات حول سوريا(6)
محمد علي باشا ودوره في التمكين للكفار في مصر والشام
رضوان محمود نموس
هاجرت أسرته المجهولة النسب من (قونيا) في الأناضول إلى (قولة) بمقدونيا حيث ولد محمد علي في عام 1770م وقيل 1769م وتوفي1849م في مصر.عن عمر يناهز 80 عاما. ([1])
ولد لأسرة متوسطة الحال , في (قولة) التي كانت تخضع وقتئذ - شأنها شأن مصر للدولة العثمانية - والتي تقع اليوم في شمال شرقي اليونان. توفي والداه في حادث غامض وهو في الرابعة من عمره كان له 17 أخا وأختا توفوا جميعهم ولم يبق إلا هو !, كفله عمه طوسون الذي ما لبث أن أعدمته الحكومة العثمانية لجرائمه فكفله صديق والده الشوربجي الذي اعتنى به وأدخله في سلك الجندية وزوجه من قريبة له مطلقة ولها ابن هو إبراهيم الذي أصبح باشا فيما بعد([2]), فكفله محمد علي وكانت زوجته ذات ثروة واسعة شجعته على ترك عمله الذي كان يعمل فيه حيث كان مراسلاً ثم دلالاً "سمساراً" في شركة "ليون" التجارية ([3])، انتقل لتجارة الدخان والتبغ فحقق أرباحًا جديدة وظهرت مواهبه وطموحاته الواسعة ونهمه الشديد للأموال والسيطرة غير أنه قد بقى جنديًا من جنود الدولة العثمانية([4]), أنجبت له زوجته طوسون وإسماعيل. كان ابنه طوسون أحب أبنائه إليه وهو ابنه البكر على أغلب الأقوال وقد توفي بالطاعون وله من العمر 22 عاما([5]).
ورغم قلة المعلومات عن حياة محمد علي قبل مجيئه إلى مصر، إلا أن ثمة ما يُشير إلى وجود علاقات مبكرة له ببعض الأرمن أدت إلى حبه لهم، فالأرمن كانوا على رأس العناصر التي صعَّدها محمد علي باشا إلى جواره، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا احتل الأرمن أيام محمد علي هذه المكانة التي جعلتهم على حد قول الجبرتي "أصحاب الرأي والمشورة"، ويتوغلون في كل مكان حسب قول هامون مدير مدرسة الطب البيطري آنذاك؟..([6])
كما أنه هناك معلومات تفيد أنه انتسب إلى الماسونية المحفل الفرنسي.
كان له صديق أرمني يُسمى "قره قهيا يراميان" والذي والذي كان شريكه في تجارة فعندما أصبح محمد علي حاكماً على مصر، ردَّ الجميل له جاعلاً إياه صرافه في الأستانة أيضا، ثم استدعاه إلى مصر وعينه "صراف باشي" الخزينة المصرية أي "كبير الصيارفة"([7]).
مما يذكر عنه قبل مجيئه إلى مصر أنه كان شخصية سيئة السمعة معروفًا بالقسوة وغلظة الكبد ترسله الدولة العثمانية لتأديب القرى التي تتأخر في دفع الضرائب فيعسكر هو وحملته التأديبية حول القرية ينهبون ويسلبون ويفزعون الآمنين حتى يرى أهل القرية أن الأفضل لهم دفع الضرائب مهما كانت باهظة.([8])
يعد محمد علي أول علماني في العصر الحديث يخرج عن النموذج الإسلامي و تراثه و يتجه مباشرة إلى أوروبا ويطبق العلمانية. وقد وجدت أفكار الفرنسيين مكانها في إجراءاته من حيث مستوى الوقائع و الأفكار و من الانجازات([9]) : سن القوانين الوضعية و المساواة الدينية ، وجعل الأوقاف تحت سيطرته بدلاً من الأزهر وألغى دور الأزهر وجعله تابعاً له وليس مستقلاً.
أعاد تنظيم أجهزة الدولة،على أساس فصل الدين عن الدولة , و قرب الأقباط واليهود.([10])
أما عن صفاته الشخصية فقد سطرها معاصروه كالمؤرخ عبد الرحمن الجبرتي و الذي كان معاصرًا له، وخبيرًا بالكثير من صفاته ، و فاضحًا لمخططاته مما دعا محمد علي أن يغتال ولده الوحيد خليل سنة 1825 هـ مما أحزن الجبرتي كثيرًا حتى فقد بصره، وكان يصفه بأنه (مخادع وكذاب يحلف الأيمان الكاذبة ظالم لا عهد له ولا ذمة له ، يضمر السوء واستخدام العسف والجور في نفس الوقت الذي يعد فيه بالعدل ولا يخفف من عسفه وظلمه واستبداده شيء).([11])
كان محمد علي ميكافيليًا لأقصى درجة، فالغاية عنده تبرر الوسيلة كلّف يومًا أحد النصارى المحيطين به وقد اعتاد أن يكون معظم حاشيته منهم واسمه أرتين بترجمة كتاب "الأمير" لميكافللي فلما وصل إلى الصفحة العاشرة أوقف المترجم عن المواصلة قائلاً بأنه: "يمتلك من الحيل ما لم يخطر لميكافللي على بال"([12])
نجح محمد علي في توطيد نفسه في الحكم أحاط نفسه ببطانة ومساعدين من نصارى الأروام والأرمن وكتبة من الأقباط واليهود، واستجلب لنفسه مماليك جعلهم حكاماً للأقاليم، وكان في كل ذلك مستنفراً لجموع المسلمين المصريين ومعبراً عن عدم الاهتمام أو الاكتراث بهم وبخاصة أن هؤلاء المساعدين قد أعانوه على سياسته الاستبدادية بين الفلاحين وصف الجبرتي ذلك بقوله: ( فتح بابه للنصارى من الأروام والأرمن فترأسوا بذلك وعلت أسافلهم، كما أنه كان يحب السيطرة والتسلط ولا يأنس لمن يعارضه).([13])
وكانت الأعمال المالية يتولاها الأرمن والصيارفة كانوا من الأقباط.([14]) وبمجرد ما استقرت له الأمور بدأ يقرب غير المسلمين وازداد عدد الكنائس بشكل ملحوظ ولعله من المفيد أن ننقل هنا جزء من تقرير الدكتور سير جون بورنج محفوظ في وزارة الخارجية البريطانية تحت رقم 78 مجلد381) والذي قدم إلى مجلس العموم البريطاني سنة 1840 يقول فيه: "لا ريب أن نفوذ القبط آخذ في الازدياد وقد يكون لهم في قابل الأيام أثر غير ضئيل في تاريخ مصر."([15])
كما أنه سلّم القضايا المالية للمعلم غالي القبطي وأعوانه وألبسه منصبه في رئاسة الأقباط وغدا جميع المترجمين الخاصين والمستشارين من الأرمن والأقباط واليهود واستفاد منه الأرمن في بناء كنائس مثل كنيسة "سورب اسدفادزادزين" (العذراء) للأرمن الأرثوذكس في بين الصورين عام 1839، وكنيسة "سورب كريكور لوسافوريتش" (المنوّر) للأرمن الكاثوليك بدرب الجنينة عام 1841.
كما استفاد الأرمن من وجود "بوغوص بك يوسفيان" ناظر التجارة والأموال الإفرنجية وثقة محمد علي الشديدة به في النزوح إلى مصر ، فقد استدعى "بوغوص" وكان بوغص بك بمثابة رئيس وزرائه وهو نصراني أرمني ([16])عدداً من الأسر الأرمنية مثل أسر "يوسفيان، ونوباريان، وابرويان، وتشراكيان، وحكيكيان"، وغيرهم، وهي الأسر التي ظلت تخدم في الإدارة المصرية خلال القرن التاسع عشر، وقدَّم بوغوص نصائحه وتوجيهاته إلى الأرمن ومنح بعضهم امتيازات، وأقنع محمد علي بمنح امتيازات أخرى لبعضهم، وأتاح لبعضهم فرصاً في التعليم والوظائف ووفر لهم الأمان والحماية، وهكذا دعمَّ بوغوص تواجد الجالية الأرمنية وطموحاتها في مصر مستفيداً من وضعيته لدى محمد علي، ولهذا كله ازداد عدد الأرمن في مصر خلال حكم محمد علي وارتفع شأنهم في خدمة مختلف مجالات الإدارة والاقتصاد، وارتبط الباشا والأرمن على نحو وثيق فتمسك بهم الوالي لأنهم أدوات مرنة في تنفيذ سياساته، وارتبط الأرمن بالباشا لأنه وفر لهم الحماية وقلدهم أعلى المناصب وحقق لهم طموحاتهم في الإثراء، وبذا عاش الأرمن كطبقة فوق الممتازة في حكم محمد علي لأن حكمه المطلق أسكت صوت المستاء. وقد مارس الأرمن في بلاط محمد علي مهاماً متعددة، فقد كان "يغيازار أميرا بدروسيان" صرافه الخاص، وكان "لابان ماماس باش" ممون الباشا حتى عام 1831، ثم خلفه ابن أخته "هوفهانيس" حتى عام 1841، وكان "ماييس وهوفهانيس وكيفورك بك" حداديه على التوالي، وكذا الطبيبان "جيوفاني بوزاري واستيبان كيفوركيان"، ولا شك في أن مثل هذه الأعمال قد جعلت الأرمن على مقربة من الباشا وأدت إلى توثيق الصلة به، بيد أن أهم وظيفة مارسها الأرمن في بلاط الباشا، بل وأخطرها قاطبة هي وظيفة "الترجمان" الخاص به، وتكمن خطورة هذه الوظيفة في جهل محمد علي باللغات الأوربية، ومن ثم وقوف المترجمين على أسرار الدولة كلها، وبالتالي غدا على الباشا انتقاء أخلص العناصر لتقلد هذه "المهمة".([17])
ومن الأرمن الذين عملوا مترجمين خصوصيين لمحمد علي نذكر منهم: "مكرديتش حكيكيان – والد المهندس يوسف حكيكيان – بوغوص بك يوسيفيان – كره بيت نوباريان – ميناس ميكائيليان – اريستاجيس الطونيان دُرَّى – استيبان دميرجيان – أرتين تشراكيان – خسروف تشراكيان – اسكندر بك بوزاري – نوبار نوباريان – أراكيل نوباريان".
ويؤكد الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في أكثر من موضع في كتابه "الآثار في التراجم والأخبار" أن الأرمن قد صاروا "أخصاء الدولة وجلساء الحضرة وندماء الصحبة".([18])
وتكشف مذكرات "نوبار باشا" الأرمني الذي أصبح رئيساً للوزراء عن نجاح المترجمين في التسلل إلى معرفة ما وراء دهاليز بلاط الباشا، فمثلاً، عندما توترت العلاقات بين محمد علي وربيبه إبراهيم أفصح الأخير لمترجمه وسكرتيره "نوبار" عن تخوفه من أن يُخطط محمد علي لاغتياله، ويؤكد "نوبار" أن إبراهيم كان على يقين من أن محمد علي كان يُخطط لاغتياله، لذلك ظل مستعداً لقتل محمد علي([19])
يقول عنه د/ جمال عبد الهادي : لقد كان محمد علي مخلبا وخنجرا مسموما استعمله الأعداء في تنفيذ مخططاتهم ولذلك وقفوا في نهضته ، الاقتصادية ، العسكرية, بعد أن أيقنوا بضعف الجانب العقدي الإسلامي لديه ولدي أعوانه وجنده.([20])
تعاطف محمد علي بشكل كبير مع اليهود وألغى عنهم الجزية, واستغل اليهود تعاطف " محمد علي " معهم فزاد نشاطهم الاقتصادي والصناعي والمالي والثقافي, واستعان بهم " محمد علي " في وظائف كثيرة كما أسس مجالس بلديات وعين بعض اليهود أعضاء فيها وأقام المحاكم المدنية ومكن اليهود من التقاضي أمامها... كل ذلك شجع يهود اليونان وبولندا من الهجرة إلى مصر حتى ازداد عددهم بشكل كبير كما وأنه استعان بعدد غير قليل من اليهود الفرنسيين من أتباع " سان سيمون " لتنظيم مرافق الدولة في جميع النواحي التعليمية واالهندسية والطبية والاجتماعية.([21])
وجراء تأثر محمد على بالبكتاشية والماسونية،, وتعاطفه مع اليهود في دمشق, وفلسطين وكانوا أعوانه وعيونه على أبناء البلد وأمر ربيبه إبراهيم باستخدام النصارى واليهود بل واستقدمهم إلى مصر سابقا والنُّصيرية في جبل اللُّكام، والنصارى في لبنان من خلال تعاونه مع الْمُُرتدّ عن الإسلام الأمير بشير الشهابي([22]). وعندما اختلف إبراهيم باشا مع الدروز بسبب عدم قبولهم دفع الضريبة سحب منهم السلاح الذي لم يكن مسموحا في سورية كلها إلا لهم وأحضر أمرا من محمد علي إلى الأمير بشير بنقل السلاح إلى النصارى وأصدر هذا أمرا وهذه صدوره مضمونة :إلى العسكر العيسوية القاطنين جبل لبنان بوجه العموم تحيطون علما أنه بحيث تحقق حبكم وطاعتكم إلى هذه الدولة السعيدة فقد صدر لنا أمر كريم من سعادة ولي النعم الخديوي الأعظم مضمونه السامي بأنه أنعم عليكم بستة عشر ألف بندقية مع جباخانة لأجل حفظ مالكم ولكي تفتخروا بها على أقرانكم طائفة الدروز الخائنة الكافرة الناكرين وجود الله وأنبيائه وإن شاء الله تعالى يكونوا غنيمة لكم هم وأملاكهم ونقلكم السلاح(يكون ) دائما سرمدا لكم وإلى أولاد أولادكم.([23])
وعندما وقعت ثورة اليونان الصليبية على حكم العثمانيين أراد أن يظهر بصورة الناصر والمتعاطف مع تلك الثورة فسمح لليونانيين الذين يقيمون في مصر بالسفر إلى اليونان والانضمام للثورة كما حرر مماليكه الذين من أصل يوناني وأرسلهم هناك للغرض نفسه.
كما قام ولأول مرة في تاريخ الجيوش الإسلامية بإدخال عناصر غير مسلمة مثل الأقباط واليهود في الجيوش المصرية مما ترتب عليه إضعاف الجيوش.
ومن شدة حبه وتقريبه لأعداء الإسلام من كل ملة ونحلة اكتسب محمد علي دعاية واسعة وكبيرة لدى الشعوب الأوربية حيث يُعرف بأنه يعطف على النصارى في بلاده ([24])
[1] - موسوعة المعرفة وانظر الموسوعة التاريخية منتديات جامعة الإسكندرية وانظر محمد علي باشا من وجهة نظر عثمانية للدكتور محمد السيد دغيم
[2] - الموسوعة التاريخية منتديات جامعة الإسكندرية
[3] - محمد علي باشا من وجهة نظر عثمانية للدكتور الدغيم
[4] - دراسة بعنوان صناعة العملاء موقع مفكرة الإسلام
[5] - الموسوعة التاريخية منتديات جامعة الإسكندرية.
[8] - باختصار عن دراسة بعنوان رفع الستار عن الثعلب المكار نشرت في مندى فرسان الحق نقلا عن :محمد قطب, واقعنا المعاصر, ط2, السعودية, 1988، مؤسسة المدينة المنورة
[10] - منتديات شبكة فلسطين للحوار دراسة لكتاب" النشاط الماسوني من عهد محمد علي وحتى جمال عبد الناصر " للسيد كمال الشرقاوي
[11] - دراسة بعنوان رفع الستار عن الثعلب المكار نقلا عن :د/ زكريا سليمان بيومي, قراءة جديدة في تاريخ العثمانين, ط1، 1991، عالم المعرفة, ص159.
[12] دراسة بعنوان صناعة العملاء محمد علي نموذجا موقع مفكرة الإسلام في فبراير 2008
[13] -الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)لماذا محمد بن حسن المبارك
[14] - موسوعة المعرفة
[15] - الموسوعة التاريخية منتديات جامعة الإسكندرية
[16] - الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)لماذا محمد بن حسن المبارك
[20] -دراسة رفع الأستار عن الثعلب المكار نقلا عن : د/ جمال عبد الهادي، د/ وفاء محمد رفعت, الدولة العثمانيه أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ, ط1، المنصورة,1994م، دار الوفاء,ص102،103
[21] - منديات شبكة فلسطين للحوار نقلا عن كتاب النشاط الماسوني من عهد محمد علي وحتى جمال عبد الناصر للكاتب كمال الشرقاوي
[22] - دراسة الدكتور الدغيم محمد علي باشا من وجهة نظر عثمانية نقلا عن حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، عبد الرزاق البيطار، الصفحة: 8:وافترق أهل جبل الدروز وتلك النواحي فرقتين فالنصارى منهم تابعوا الأمير بشير المتوافق مع إبراهيم باشا"
[23] - كتاب مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سوريا تحقيق وتقديم المحامي أحمد غسان سبانو
[24] - الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)لماذا محمد بن حسن المبارك
0 التعليقات:
إرسال تعليق