دراسات شرعية (3)
تحديد الأسماء والمسميات والمصطلحات
رضوان محمود نموس
أولاً أهمية الاتفاق على المعنى والمصطلح:
حتى نضع أقدامنا على أرض ثابتة ولا يكون حوارنا غير مسموع لبعضنا ينبغي لنا الاتفاق على الأسماء والمعاني ولطالما كان هذا الموضوع سبباً رئيساً في الاتفاق أو الخلاف.
قال في اللسان: واسم الشيء سمه سماه علامته التهذيب.
وقال محمد علي التهاوني:
الاسم هو اللفظ المفرد الموضوع للمعنى وهو يعم جميع أنواع الكلمة, والمسمى هو المعنى الذي وضع الاسم بإزائه والتسمية هي وضع الاسم للمعنى موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم 1/181.
ولقد اهتم القرآن الكريم والسنة المطهرة بهذا الموضوع حتى لا يطلق من شاء أسماءً على مايشاء تغييرًا وتزويرًا وتضليلاً.
َ)قال الله تعالى: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ) (الأعراف: 71)
وقال الله تعالى: ِإنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى (النجم 23)
وعَنْ شُعْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ حَفْصٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ مُحَيْرِيزٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا) النسائي 5658( وفي الحديث: (وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ الأشْعَرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا) (أبو داود 3688)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ وَلا تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ * البخاري6182
ولقد دخلت مفاهيم ومصطلحات جديدة في جسم الثقافة الإسلامية وفكرها وبدأت تزحزح المفاهيم الأصلية عن مكانها ولا يجرؤ أصحاب هذه المفاهيم الأصيلة الدفاع عنها أو استخدامها خشية الاتهام بالرجعية والتخلف والظلامية والانغلاق والإرهاب...الخ
وتشهد الساحة الفكرية وخاصة في مجال السياسة الشرعية انحسارًا للأسماء والمصطلحات الإسلامية لتتمدد على حسابها المصطلحات الوافدة بكل خلفياتها العقدية والموضوعية والبيئية الكفرية التي نبتت بها هذه المصطلحات وبدأ بعض أبنائنا وإخواننا يجعجعون بالمصطلحات الحديثة نابذين المصطلحات الشرعية وراءهم ظهريا.
وهذا أدى بدوره إلى خلاف بين الناس على معاني هذه المصطلحات فبين حرفي وآخر تحريفي وثالث يعبد الله على حرف ورابع تأويلي تضيع الحقيقة.
والطريق السليم للوصول إلى الحق هو عدم العبث بالمصطلح الشرعي أو استبداله بالوافد الغريب وإن كان لابد من الاستيراد فلا بد من تحديد دقيق لهذا الجديد.وغالباً ما يكون العبث بالأسماء والمسميات هو القنطرة التي يعبر عليها المضللون والمخربون والمفسدون.
ولا بد من التأصيل الشرعي لهذا الموضوع لنتجنب القطيعة الفكرية بيننا وبين العقيدة الإسلامية والدين الإسلامي والتراث الإسلامي والفكر الإسلامي والفقه الإسلامي والثقافة الإسلامية بل بين العاملين للإسلام ولنتمكن من دوام التواصل.
وربما يختلف الناس ويتخاصمون من أجل مصطلح بل ربما تسير الجموع ويموت البعض من أجل مصطلح لا يدرك كثير ممن يرفعه ويردده معناه.
وقد اهتم العلماء بهذا الموضوع وأعطوه ما يستحق من رعاية. قال الإمام ابن تيمية:
[ومعرفة حدود الأسماء واجبة لأنه بها تقوم مصلحة بني آدم في النطق الذي جعله الله رحمة لهم لا سيما حدود ما أنزل الله في كتبه من الأسماء كالخمر والربا فهذه الحدود هي الفاصلة المميزة بين ما يدخل في المسمى ويتناوله ذلك الاسم وما دل عليه من الصفات وبين ما ليس كذلك ولهذا ذم الله من سمى الأشياء بأسماء ما انزل الله بها من سلطان فأنه اثبت للشيء صفة باطلة كإلهية الأوثان فالأسماء النطقية سمعية وأما نفس تصور المعاني ففطري يحصل بالحس الباطن والظاهر وبادراك الحس وشهوده ببصر الإنسان بباطنه وبظاهره وبسمعه يعلم أسماءها وبفؤاده بعقل الصفات المشتركة والمختصة والله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة فأما الحدود المتكلفة فليس فيها فائدة لا في العقل ولا في الحس ولا في السمع إلا ما هو كالأسماء مع التطويل أو ما هو كالتمييز كسائر الصفات ولهذا لما رأوا ذلك جعلوا الحد نوعين نوعا بحسب الاسم وهو بيان ما يدخل فيه ونوعا بحسب الصفة أو الحقيقة أو المسمى] مجموع الفتاوى 9/59
وقال [فالنبي قد بين المراد بهذه الألفاظ بيانا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله فإنه شاف كاف] مجموع الفتاوى 7/287
وقال: [وقد قيل إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء] مجموع الفتاوى 5/217
وقال: [لم نحتج إلى ألفاظ مبتدعة في الشرع محرفة في اللغة ومعانيها متناقضة في العقل فيفسد الشرع واللغة والعقل كما فعل أهل البدع من أهل الكلام الباطل المخالف للكتاب والسنة ] مجموع الفتاوى 5/430
وقال ابن القيم: [نهى عن أن يهجر اسم العشاء وهو الاسم الذي سماها الله به في كتابه ويغلب عليها اسم العتمة... وهذا محافظة منه على الأسماء التي سمى الله بها العبادات فلا تهجر ويؤثر عليها غيرها كما فعله المتأخرون في هجران ألفاظ النصوص وإيثار المصطلحات الحادثة عليها ونشأ هذا من الجهل والفساد ما الله به عليم] زاد المعاد 2/350
وقال: [والتحقيق في هذا الباب أنه لا ينظر إلى الألفاظ المحدثة بل ينظر إلى ما جاء به الكتاب والسنة من الأسماء والمعاني] عدة الصابرين 1/151
وقال الإمام ابن تيمية:[ فأما الألفاظ التي أنزل الله بها القرآن الذي تلاه رسول الله على المسلمين وأخذوا عنه لفظه ومعناه وتناقل ذلك أهل العلم بالكتاب والسنة بينهم خلف عن سلف فهذه لا يجوز أن يرجع في معانيها إلى مجرد أوضاعهم ولا ريب أن القوم أخذوا العبارات الإسلامية القرآنية والسنية فجعلوا يضعون لها معاني توافق معتقدهم ثم يخاطبون بها ويجعلون مراد الله تعالى ورسوله من جنس ما أرادوا فحصل بهذا من التلبيس على كثير من أهل الملة ومن تحريف الكلم عن مواضعه ومن الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته ما الله به عليم ولهذا قد يوافقون المسلمين في الظاهر ولكنهم في الباطن زنادقة منافقون] بغية المرتاد 1/235
وقال: [وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلى ما لم يبينه الله ورسوله لم يكن الله قد أكمل للأمة دينهم ولا أتم عليهم نعمته فنحن نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لا بد أن يكون مما بينه الرسول إذ كانت فروع الدين لا تقوم إلا بأصوله فكيف يجوز أن يترك الرسول أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبينها للناس] الدرء 1/233
وقال: [ومع هذا كله فالأسماء التي تعلق بها الشريعة المدح والذم والحب والبغض والموالات والمعادات والطاعة والمعصية والبر والفجور والعدالة والفسق والإيمان والكفر هي الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة فأما سوى ذلك من الأسماء فإنما تذكر للتعريف كأسماء الشعوب والقبائل فلا يجوز تعليق الأحكام الشرعية بها بل ذلك كله من فعل أهل الأهواء والتفرق والاختلاف الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كحال من يعلق الموالات والمعاداة بأسماء القبائل أو البلدان أو المذاهب المتبوعة في الإسلام ] بيان تلبيس الجهمية 1/109 فكيف الآن من يعلق الموالات والحب والبغض في أسماء ومعان مخترعة كالوطنية والقومية والديمقراطية والدولة المدنية وووو...الخ
وقال أبو حامد الغزالي في المقصد: [فإن كل علم تصديقي أعني علم ما يتطرق إليه التصديق أو التكذيب فإنه لا محالة لفظه قضية تشتمل على موصوف وصفة ونسبة لتلك الصفة إلى الموصوف فلا بد أن تتقدم عليه المعرفة بالموصوف وحده على سبيل التصور لحده وحقيقته ثم المعرفة بالصفة وحدها على سبيل التصور لحدها وحقيقتها ثم النظر في نسبة تلك الصفة إلى الموصوف أنها موجودة له أو منفية عنه فمن أراد مثلا أن يعلم أن الملك قديم أو حادث فلا بد أن يعرف أولا معنى لفظ الملك ثم معنى القديم والحادث ثم ينظر في إثبات أحد الوصفين للملك أو نفيه عنه فلذلك لا بد من معرفة معنى الاسم ومعنى المسمى ومعنى التسمية ومعرفة معنى الهوية والغيرية ] المقصد الأسنى ج: 1 ص: 25-26
وقال الشيخ محمد أبو زهرة شارحاً فلسفة كونفوشيوس:
[وأما الناحية الأولى فهي قوام فلسفته؛ وهي الجزء النظري منها , وقد ابتدأ نظراته الفلسفية بنظرية تعيين "المعنى" و "اللفظ" ,وتعيين "الأسماء والمسميات", وهي النظرية التي ابتدأ بها أيضاً سقراط من بعد " كونفوشيوس" وذلك لما تشابهت فيه أحوال العصرين الذين عاش فيهما الفيلسوفان: فكونفوشيوس جاء في وسط اضطراب خلقي, وتلاعب في نظام الحكم, وعبث بمصالح الدولة, واللعب بالألفاظ لتوهين الأخلاق فكان لا بد من العمل على تعيين المعاني الدالة على الألفاظ ليثبت المعنى مستقيماً, لكي لا يمكن التلاعب به, وإفساد الاستدلال من طريق ذلك التلاعب, وكذلك سقراط وجد السوفسطائيين قد اتخذوا من اللعب بالألفاظ طريقاً لحل أخلاق الشباب الأثيني وإفساد اعتقاده والعبث بكل ما هو فاضل لديه ولذا كان أول ما دعا إليه سقراط تعيين المعاني الدالة عليها الألفاظ؛ حتى لا يتخذ المفسدون من بريق اللفظ ما يفسد الاستدلال والتفكير.
دعا كونفوشيوس إلى العناية بمعاني الأسماء, والألفاظ الدالة على المسميات, وألحف في تلك الدعوة ليقطع على المضللين سبيل التضليل, ويفتح الباب ليستقيم طريق المعرفة من غير تمويه؛ ولذا جاء في كتاب الحوار لكونفوشيوس أن أحد تلاميذه سأله: (بأي شيء يبتدئ سياسته إن تولى حكم الإمارة؟) فقال: (لا بد من تصحيح الأسماء) فدهش التلميذ من هذا الجواب, ووقع من نفسه موقع العجب. فقال كونفوشيوس: (إذا لم تكن الأسماء صحيحة لا يوافق الكلام حقائق الأشياء, وإذا لم يكن الكلام موافقاً للحقائق وقع الخلط في اللغة وفسدت الأمور فلا تزهر الآداب .. ويضطرب التفكير, ولا تنزل العقوبات على من يستحقها, وإذا لم تنزل العقوبات على من يستحقها لا تعرف الرعية كيف يحركون أيديهم وأرجلهم ولذلك يرى الرجل الكامل أن من الضروري أن توافق الأسماء مسمياتها ليمكن أن يتكلم بها وأن يعمل بما يتكلم, والرجل الكامل الخلق لا يستهين بكلامه, ولا يهمل في تعبيره.
وعنايته بتعيين الألفاظ جزء من عنايته بأن يكون الشخص الكامل على تمام المعرفة بنفسه وبحقائق الأشياء فهو يحث على المعرفة الصحيحة ويعتبرها جزءاً غير قابل للانفصام من منهاجه الخلقي فيعتبر من كمال الفضيلة للرجل حسن إدراكه للأمور وقدرته على فهم ما يلقى بين يديه من المسائل من غير أن يدفعه الغرور إلى الضلال] مقارنة الأديان _الديانات القديمة, محمد أبو زهرة ص 95/96.
0 التعليقات:
إرسال تعليق