دراسات حول سوريا(10)
رضوان محمود نموس
الطوائف المرتدة والمداخلات الأجنبية
عندما غادر إبراهيم باشا ترك حملاً ثقيلاً على الدولة العثمانية فالدروز مرتبطون بالإنجليز ومدعومين منهم والنصارى مرتبطون بفرنسا ومدعومون منها وتعتبرهم رعاياها لا يحق للدولة العثمانية التدخل بهم والنصيريون ارتبطوا بفرنسا أيضاً وتحالفوا مع النصارى وتحدثنا كتب التاريخ عن هذه الفترة فتقول:
1- الدروز: تكاد تكون الصفة المميزة للواء حوران في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين ثورات الدروز فيه، فقد استهل الدروز النصف الثاني من القرن التاسع عشر بثورة في (1851م) إذ امتنع الدروز عن دفع الضرائب لوالي الشام، وحاول إجبارهم على دفع الأموال المترتبة عليهم، لكنه هزم واستولى الدروز على ذخيرته ومدافعه ([1]) واستطاع الدروز أن يهزموا كتائب الولاية في معظم المناوشات التي جرت بين الطرفين أثناء سنة (1852م)
وثار الدروز مرة ثانية في عهد الوالي مدحت باشا، وعندما جهز الأخير حملة لتأديبهم توسطت إنجلترا لدى الباب العالي، وصدرت الأوامر من الأستانة بحل المشكلة الدرزية سلماً([2]). وجاء في برقية الصدر الأعظم الموجهة إلى مدحت باشا بهذا الصدد "إن الإنكليز لا يسرون بما تتخذه من التدابير لتأديبهم" ثم يمضي فيقول إن "حركات الدروز توجب الجزاء وإذا لم يجازوا وترك حبلهم على غاربهم أنتج تركهم احتقار الحكومة ولم يحن وقت تأديبهم" ثم يقول في برقيته ".... إن غرضنا الوحيد هو تحبيب إدارة الدولة للدروز والموارنة واستعمال القوة لا يوصل إلى تلك النتيجة ونحن نرى أن ترك المسألة إلى زمانها الموافق أليق ونحبذ الإصلاح بين المتخاصمين"([3])
ولم يلبث مدحت باشا أن نقل وجاء أحمد حمدي باشا خلفاً له، فتمكن من إقرار الصلح بين أهل حوران والدروز في سنة 1297هـ/1879م([4])
وشن الدروز في سنة 1304هـ/1886م الغارة على قرية "المسمية" في حوران لكنهم ردوا عنها، ثم انشغل الدروز بأنفسهم عام 1308هـ/1890م وانقسموا إلى فرقتين "مشايخ وعامة" واستغلت ولاية سورية الفرصة، فاستطاع الجيش الخاص أن يدخل السويداء - مركز جبل الدروز- ويقيم فيها ثكنة عسكرية ولكن الدروز واصلوا ثوراتهم في سنة 1311هـ/ 1893م، و1313هـ/1895م، فجردت الولاية عليهم حملة عسكرية بقيادة المشير طاهر باشا سنة 1314هـ/1896م، إلا أنها لم تكن الحملة الأخيرة([5])، وكانت الثورة الأخيرة للدروز في العهد العثماني في سنة 1328هـ/1910م، فساقت الدولة عليهم حملة عسكرية من ثلاثين ألف جندي بقيادة "سامي باشا الفاروقي" ويصف محمد كرد علي هذه الحملة فيقول: فضربهم -القائد الفاروقي- ضربة خفيفة قتل فيها زهاء ألف رجل منهم ونحو مئة وخمسين من الجند، "([6])
وكانت اعتداءات الدروز على أهالي حوران قد أثيرت في مجلس المبعوثان العثماني حيث ندد مبعوث حوران "سعد الدين خليل" باعتداءات الدروز وطالب الدولة باتخاذ الإجراءات العسكرية الرادعة ضدهم بعد اعتداءهم على الجيش والأهالي، وأنهى خطابه بمطالبة الحكومة بسوق قوة عسكرية على حوران "لصيانة العرض والدين والمال وتأمين الرعية من الخوف"([7])
ومما تقدم يتضح لنا بأن دروز حوران كانوا في شبه ثورة دائمة ضد الدولة، وعندما كانت الولاية تعرض عليهم برامج الإصلاح وتطلب من زعمائهم مساعدتها في تطبيق "نظام مجالس الإدارة" كان الزعماء يقبلون ذلك ثم يرفضونه([8]) وهكذا.
وبالرغم من أن ثورات الدروز كانت مستمرة فإن محاولات ولاية سورية الرامية لفرض السيطرة على منطقة جبل الدروز لم تنقطع، بل ازدادت قوة وتصميماً عندما أشرف العهد العثماني على الانتهاء، وسأذكر فيما يلي جانباً من هذه المحاولات:
لقد حاولت ولاية سوريا إصلاح الأوضاع الإدارية في منطقة جبل الدروز عن طريق نشر التعليم بين الدروز، فرصدت في الميزانية نصف مليون قرش لإصلاح وإنشاء المدارس في قصبات الجبل "عاهرة، صلخد، السويداء" وإنشاء (25) مسجداً من أجل تهذيب أخلاقهم وتعليمهم مبادئ الدين الإسلامي([9]) واتبعت سياسة اللين والرفق مع رؤسائهم الروحانيين، وذلك باستدعائهم إلى دمشق وبذل المساعي لإقناعهم بقبول الإصلاحات التي تروم الدولة إجراءها في منطقتهم، فيبدي الزعماء "رضاءهم التام لدرجة المطاوعة والانقياد"([10]) ولكنهم – على حد تعبير الوثيقة- لم يثبتوا على ذلك طويلاً، ولما كانت الولاية تتوقع ذلك منهم، فقد أقامت في بلادهم ثكنات عسكرية وقلاعاً، وجعلت بيوت الموظفين الأتراك على هيئة قلاع لكي يسهل الدفاع عنها إزاء اعتداءات أشقياء الدروز ([11]) كما كانت الولاية تلجأ في بعض الأحيان إلى نفي الأشقياء والمفسدين من سكان الجبل، فساقت في سنة 1316هـ/1898م. تسعة من أشقيائهم إلى طرابلس الغرب([12])، كما فكرت الدولة في إسكان عدد آخر من أشقياء الدروز في منطقة اللاذقية كي يستقروا فيها، وفي أواخر العهد العثماني خصصت الولاية مرتبات لزعمائهم من نفقات خفية الولاية - مباحثها- ومن مخصصات فوق العادة([13])
ويبدو أن ثورات الدروز المستمرة ضد الدولة كانت تهدف في الدرجة الأولى الاستقلال عن الدولة وبسط السيطرة الدرزية على لواء حوران.
لأن المخطط الإنجليزي يقضي بعزل فلسطين عن المسلمين السنة قدر الإمكان ليمهدوا وليوطدوا لدولة يهود التي يعدون لها فأرادوا أن تكون الحدود من الشمال لدولة النصارى التي سيعمل على إنشائها ومن طرف سوريا للدروز عملائهم وأقرباء يهود دينياً (زعموا) ومن الجنوب صحراء سيناء وكانت مصر كلها تحت حكمهم ومن الشرق خططوا لمجيء عميل من عملائهم.وفي هذا الإطار أرادوا دعم الدروز لتشكيل دولة مستقلة. ولكن عدد الدروز وإمكاناتهم وموقع المنطقة لم يسمح لهم بذلك.
2- النصيرية: سكن النصيريون في القسم الشمالي من جبل لبنان الذي عرف باسمهم "سلسلة جبال النصيرية" وكانت أراضيهم في أول العهد العثماني تتاخم أراضي الدروز والموارنة جنوباً، وتمتد شمالاً حتى سهل أنطاكية، وقد عاش هؤلاء في عزلة تحت حكم شيوخهم الإقطاعيين([14])
واستغل النصيريون طبيعة منطقتهم الجبلية، فامتنعوا عن دفع الضرائب والرسوم لحكومة دمشق، فثار هؤلاء على الإدارة المصرية، وهزموا الجنود الذين أرسلوا لإخضاعهم الثائرين المعتصمين برؤوس الجبال، ولكن إبراهيم باشا أرسل عليهم فرقة من الجيش أكرهتهم على الطاعة([15])
وفي سنة 1854 قام إسماعيل بك أحد رؤساء النصيرية بشق عصا الطاعة وجاهر بالعصيان منتهزاً فرصة انشغال الدولة في حرب القرم، وسمى نفسه "مشير الجبل" واستقل بتصريف الأمور في مناطق النصيرية بعد أن اتخذ صافيتا مقراً له.
وبما أن الدولة كانت منهمكة في حرب القرم (1854- 1856م) فقد جنحت للسلم ونصبته حاكماً على تلك الجهات([16])، وعندما بدأ هذا يمد نفوذه، قامت الدولة بتجريد حملة عسكرية عليه – اشترك فيها أهالي الشام- تمكنت من قتله.
ولم يدفع النصيريون للدولة أي مبلغ من الضرائب منذ سنة 1257هـ/1841م وبلغت الضرائب المتراكمة عليهم حتى سنة 1282هـ/1865م، حوالي عشرة آلاف كيس، ولم يكتف النصيريون بذلك، بل كانوا يقطعون الطريق وينهبون الأموال ويقتلون الأنفس، فاضطرت حكومة الولاية إلى سوق العسكر عليهم المرة تلو الأخرى. ([17]) وحاول مدحت باشا أثناء ولايته على سورية إصلاح الأوضاع في جبال النصيرية فذهب إليها بنفسه، ودعى زعماء النصيرية للاجتماع به، وتم الاتفاق على إجراء تحرير النفوس والأملاك والأراضي وتنظيم الأموال الأميرية في الجبل ودفع قسم من البقايا المتراكمة عليهم والتي تبلغ قيمتها (15) مليون قرش، وإجراء الإصلاحات ([18])
وفي سنة 1299هـ/ 1882م رفع والي سورية أحمد حمدي باشا تقريراً إلى الصدر الأعظم يتضمن إجراء بعض الإصلاحات في جبل العلويين، ومما جاء (في العام الماضي أثناء انشغال الولاية بإصلاح جبل الدروز، وقع صدام بين طائفتين في جبل النصيرية وظهرت بينهما بعض الحركات التي أدت إلى قتل النفوس وغصب الأموال وغير ذلك من الأمور غير المرضية،... وقد اعتاد نصيرية الشمال والجنوب على الخصام، ونتج عن ذلك مصادمات عنيفة كبيرة أسفرت عن حرق القرى ونهبها الأمر الذي اضطر الحكومة إلى سوق قوة عسكرية كافية للضرب على أيدي المتخاصمين وفرض هيبتها، ([19])
ولما كان استمرار هذا الحال لا يتفق مع الحالة الحاضرة، وعلى فرض اعتماد هذا الأسلوب في القضاء على الفتنة فلا يجب إهمال أمر الساحل السوري خاصة وهو يقع في نقطة هامة من أراضي الدولة العثمانية كما أن اتباع الأسلوب العسكري يفسح المجال واسعاً أما التأثيرات الضارة والدسائس الخارجية التي من الممكن أن يزداد تأثيرها مع توالي الوقائع الأمر الذي ينتج عنه محاذير عديدة([20]).
وبعد أن وصف الوالي أحمد حمدي باشا منطقة جبل النصيرية وصفاً شاملاً من الناحيتين الجغرافية والاجتماعية خلص إلى القول بوجوب إنشاء ثكنات عسكرية في المواقع الهامة لتوفير الهدوء والأمن في تلك الجبال، واقترح أن تسدد نفقات الثكنات من الزيادة المنتظرة لواردات الأعشار ([21]) إلا أن هذا لم ينفذ لإلحاق مناطق النصيريين بولاية بيروت الجديدة ففي (1885 – 1888) فصلت ألوية بيروت وعكا ونابلس وطرابلس ولواء اللاذقية موطن النصيرية في عام 1887م عن ولاية سويا لتشكل بيروت الجديدة([22])
مما سبق يتضح لنا أن ثورات النصيرية كانت أقل عنفاً وعدداً من ثورات الدروز، ويعود ذلك إلى طبيعة التكوين الاجتماعي لكل من الطائفتين، فبينما كانت طائفة الدروز متحدة متماسكة تحت قيادة زعمائها الدينيين (العقال)، كانت طائفة النصيرية منقسمة على نفسها إلى شماليين وجنوبيين تحت زعامة المشايخ الإقطاعيين.
ولكن بالرغم من الخلاف المستمر بين نصيرية الشمال ونصيرية الجنوب، فإن قدم حكومة دمشق لم ترسخ تماماً في جبال النصيرية، لا سيما في مقاطعة الكلبية -قضاء حماة- ووجدت الولاية صعوبات جمة في التعامل معهم.([23])
وهذا يدلل أن الأقليات الدينية ما هي إلا خنجر في جسد الدولة ولا يمكن أن يكون ولاؤهم لدولة مسلمة أو عربية بل ولاؤهم دائما للعدو يسكتون طالما هم في ضعف فإذا تمكنوا انحازوا فورا مع العدو الغريب. هكذا كانوا مع التتار ومع الصليبيين ومع الفرنسيين ومع يهود وسيبقون كذلك إلى أن يشاء الله.
[1] - ميخائيل مشاقة: مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان، ص: 153.
[2] - محمد كرد علي: خطط الشام، ج3/ ص:105.
[3] - نادر العطار: تاريخ سوريا في العصور الحديثة، ج1/ ص:329، (وثائق منشورة وثيقة رقم 37 ترجمة البرقية الواردة من الصدر الأعظم إلى مدحت باشا بتاريخ 13 تشرين الأول "أكتوبر" 1295 رومية)
[4] - محمد أديب آل تقي الدين الحصني: منتخبات التواريخ لدمشق، ج1/ص:273.
[5] - محمد كرد علي: خطط الشام، ج3/ ص:110.
[6] - محمد كرد علي: خطط الشام، ج3/ ص:112.
[7] - جريدة تقويم وقايع، 205 تاريخ 19 نيسان (أبريل) 1909م.
[8] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم 39407، سنة 1284هـ.
[10] - أرشيف استانبول: مجلس مخصوص، وثيقة رقم 1751، غرة ذي الحجة سنة 1288هـ.
[11] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم 3259، 6محرم سنة 1319هـ.
[12] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم 39407، سنة 1284هـ. ورقم 1207 تاريخ 19 جمادى الأولى 1316هـ.
[13] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم 69482، سنة 1300هـ، 2621 (23 صفر 1319هـ).
[14] - أحمد عزت عبد الكريم: التقسيم الإداري لسورية في العهد العثماني (حوليات كلية الآداب بجامعة عين شمس) مجلد 1/ ص: 137.
[15] - ميخائيل مشاقة: مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان، ص:115 -116.
[16] - محمد بهجت ورفيق التميمي: ولاية بيروت – القسم الشمالي- ص: 108- 109.
[17] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم 37759، سنة 1282هـ.
[18] - أرشيف استانبول: ديلديز سراي، مدحت باشا أوراقي، رقم 966 مغلف 62، (تقرير هام عن أحوال ولاية سورية في عام 1879م).
[19] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم 68482، ام 69482 تاريخ 23 ذي الحجة 1299، (تقرير هام رفعه والي أحمد حمدي باشا إلى الصدر الأعظم سعيد باشا، وصدرت الإدارة السنية بإعطاء الوالي صلاحية التنفيذ حالاً، ولكن الإصلاح لم ينفذ).
[20] - انظر تقرير أحمد حمدي باشا، السابق.
[21] - مثل بيع الأحراج والأراضي الأميرية في منطقة العلويين بالمزاد العلني.
[22] - محمد أديب آل تقي الدين الحصني: منتخبات التواريخ لدمشق، ج1/ص:274.
[23] - كتاب: [الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864- 1914.] تأليف: [عبد العزيز محمد عوض] نشر: [دار المعارف بمصر] ص: 290 – 297.
0 التعليقات:
إرسال تعليق