قالت دمنة القرع والنخيل
رضوان محمود نموس
قالت كليلة يادمنة ما مثال أناس يأخذون بأيدي الضعفاء ليعلموهم ويفهموهم ويرفعوا شأنهم ثم هؤلاء الصغار يتكبرون ويتبجحون.
قالت دمنة مثل هؤلاء كمثل القرع والنخيل
وكيف كان ذاك؟
في السهول الخضراء والبساتين الغناء التي نمت بها الأشجار المعطاء من تفاح ورمان وعنب وجوز ونخيل ذوات أفنان، كانت هناك نخلة باسقة، اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها بإذن ربها، يتفيأ الناس بظلها ويهتدون بسمتها، حتى أصبحت معلماً من معالم تلك البقاع.
زحف نحو هذه النحلة القرع المتطاول ثم تسلق عليها وما هي إلا أيام معدودات حتى وصل إلى القمة فزهاه الكبر وذهب به التيه وثنى عطفه واتبع صعداءه، ولوى أخدعه , ونفخ شدقيه, ومطّ حاجبيه، واستطال عجباً، وبدا أزهى من غراب، وأخيل من مذالة.
وأنغض إلى شجرة النخل رأسه واختلج بوجهه قائلاً: منذ متى أنت هنا أيتها العجوز فلقد قطعت في أيام ما لم تستطيعيه بعشرات الأعوام، حقاً إنكم معاشر الأشجار عاجزوا الهمّة متخاذلوا العزم، بليدوا الحركة، قعدة ضجعة، يا ضيعة أعماركم تقضونها سبهللا.
كانت النخلة مستغرقة في التسبيح والتهليل والثناء على الله بما هو أهله، فالتفت إليه بدماثة ولدونة وسعة صدر وكبير حلم آخذة بالمساهلة والإغماض والترخص وعجفت نفسها عنه وقالت:
- هلا بدأت بالسلام كما يفعل الكرام.
- فأخذه التعجرف والتغطرف، وهو يتشاوس في نظره قائلاً: وسعنا أن نرى تقصيرك وجئت أيتها الممخرقة تسألين مقامنا السامي لماذا لم نبدأ بالسلام.
- أيها القادم إني مشفقة عليك فسوّ أخدعك ولا تعجبك نفسك وألق رداء الكبر عن منكبيك واردد من سامي طرفك فإن الله لا يحب كل مختال فخور، فمن أنت وماذا تريد؟
- حقاً إنك خرقاءٌ شمطاءٌ، ولماذا هذا التجاهل المقيت، والتعامي البغيض، وإلى متى تتمادين في ضلالك، وتلجّين في غوايتك وتعمهين في طغيانك، وتركبين متن غرورك وتتيهين في شعاب الباطل، وتتسكّعين في بيداء الغواية.
فأنا الذي سارت بمآثري الركبان ولا تمحو مفاخري الحدثان، تعرفني الدنيا في المشارق والمغارب ومن وراء السد لي الشرف التالد والعز والمجد.
- إن العاقل لا يقرظ نفسه ولا يطنب في ذكر فضائله ولا يغمز الآخرين ويلمزهم أو يطعن ويشنع عليهم ويتجنب لدغ اللسان وفاحش القول والتناول بالقبيح، فلا ينقب عن الهفوات ويتعقب السقطات ويترصد العثرات فإذا أعياه ذلك عمد إلى البهتان ولا يذكر يوماً تحشر فيه الخلائق حفاة عراة غرلاً ويوضع الميزان ويسعى طالباً عورات الناس فمن طلب عورة أخيه طلب الله عورته حتى يفضحه.
ومن حسن الأدب إفشاء السلام والتعرف إلى الأنام واحترام الكبير والأخذ بيد الصغير والكيس من اتعظ بنفسه وألزمها عن جموحها.
- إنكم معاشر الأشجار تتصنعون الحكمة والروية لتبرير ضعفكم وتلبسون ثوب السكينة لستر خمولكم فهذه شجيرات التفاح والخوخ والدراق والزيتون وغيرها، فتحت عيني على الدنيا وهي قابعة هناك ولا تكاد تبين، وها أنذا امتطيت قمة السؤدد وسأمضي تباعا وهي لا زالت حيث كانت فتباً لكم قوم سوء وخذلان.
- أيها القادم: إن كان عندك من خير تقدمه فافعل وإلا فاكفف لسانك عن الخلق واستعذ بالله من شر نفسك فإني أخشى عليك أن يطوقك مكرك ويؤخذك قصدك إلى ما لا تحمد عقباه.
- يبدو لي أيتها النخلة أنه التاث عقلك وقد أخرفك الهرم وأفندك الكبر وخرع رأيك وطفئت شعلة ذهنك، فإن كنت تجهلين من أنا، فأنا:حية الوادي وشيطان الحماط وباقعة البواقع، وإنني لإحدى الكبر وصماء الغبر، أنا عرق القرع الأقرع البطل السميدع.
- إن ما تهرف به يعقب لك قالة سيئة وسمعة غير مرضية ويطير له هيعة منكرة وشهرة فاضحة فخذ من القول أطايبه واهجر بذيئة ومستهجنه وعاشر بالخلق الحسن يكن لك الثناء الحميد وعاقبة الخير.
- إنكم معاشر الأشجار ألفتم المخازي فارتبطتم بأوثق العرى معها واجتمعتم على أقوى رباط ووسمتم بميسم العار، تربط البهائم بجذوعكم وأغصانكم، وتنقر الطير ثماركم فلا تهشون على الدواب ولا تمنعون نتاجكم نقر غراب، وتظنون أنكم كرماء نجباء وهو ستار الجبن وقصر البلاء.
- إني أرغب بك عن هذا القول وأخاف عليك من قبح الأحدوثة وهذا أمر يحمل عليك معايبه وينالك شينه، ولا يضر شجرة إن ربط بها حمار أو ارتمى عند أصلها هباء أو تسلق عليها ضعاف النبات، وما تأتيه لا يزكو بك ولا يجمل بنوعك فمنذ متى جئت هذه البلاد؟
- رغم أن سؤالك مناورة وحيدة عن أصل الموضوع وهروباً من الواقع سأنبئك بتاريخ قدومي ولماذا جئت.
فأنا من أهل بيت رفيع الدعائم شهير المآثر معلوم المفاخر ممن له سابقة السيادة والمجد المؤثل والشرف الموروث، من فصيلة القرعيات التي امتازت بسرعة نمائها واتساع أوراقها ودقة خيوطها وقوة وسرعة تسلقها، سمعت أن بهذه الديار طيب الكلأ والماء الزلال من غير تعب ولا نصب، فلا همّ على القوت ولا خوف من الجوع يأتي إلينا رزقنا رغداً فنتفرغ للنمو السريع والخطب الرنانة فجئت منذ أشهر وألقي بي على سباطة قوم قريبة منك فنموت وتسلقت وهاأنذا أناطح السحاب.
- إني مشفقة عليك والله، فعدم نبل قصدك وسوء المنبت مع هذا التطاول سيعقبه انتكاس غير بعيد، ولقد رأينا كثيراً من الأعشاب المتسلقة لا تلبث أن تيبس وتؤذي جيرانها بأشواكها ثم تصبح هشيماً تذروه الرياح فهلا تأدبت بأدب الأشجار المثمرة فتكون ظلاً في الحرّ ودفئاً في القرّ وجمالاً يسر الناظرين وثماراً تفيد الآكلين.
- لا تفتأين أيتها الدعية محاولة الظهور بمظهر النبل والمروءة والشهامة والجود والحكمة والأناة والحصافة والحنكة والرأي السديد والفضل والتقى، وحقيقة أمرك أنك عجزت عن مجاراتنا فبسطت لسانك فينا وأردت نحت إثلتنا وتمزيق فروتنا وغمز قناتنا ولن تصلي إلى بغيتك فدونها خرط القتاد.
- لن أعاملك أيها الصغير كما تستحق ولكن كما ينبغي لمثلي أن يعاملك أمثالك.
- إفعلي ما بدا لك فنحن نعرفكم معاشر الأشجار لا مخلب عندكم ولا ناب، أهل استجمار وخضاب.
- الحمد لله الذي استعملنا في النفع ولم يستعملنا في الضرّ، وجوابي على مقالتك وخطبك كما قال الرجل الجواد حاتم الطائي:
وأغفر عوراء الكيرم ادخاره** وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
فإن أبيت قبول صدر هذا البيت فلا نعدم أن نعاملك بعجزه، وقال لنا ربنا ورب كل شيء: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين(. والسلام.
- حاول عرق اليقطين الاسترسال في الشتائم وتنقص الأشجار والتبجح عليها ولكن النخلة لم تلتفت إليه وقامت نخلة مجاورة تخاطب النخلة الكبيرة.
- جزاك الله خيراً أيتها الأخت الكبيرة بأن أعرضت عن هذا المتطاول واتركيه يموت كمداً ويتقطع غيظاً وحسداً، فإن أمثال هؤلاء يناسبهم قول الشاعر:
إذا نطق الشفيه فلا تجبه ** فخير من إجابته السكوت
أحسن الله إليك أيتها الأخت كنت مشفقة عليه وتحريت له وجوه النصح وتوخيت له مناهج الرشد وبصرته بمواقع الزلل وعواقب الأمر وما أردت له إلا الخير وما ارتأيت له إلا الصواب وما أشرت عليه إلا بما هو أجمل في السمعة وأحمد في العقبى وأبعد عن مظنّات الندم وأنأى عن مواقف اللوم، ولكنه أبى ودلع لسانه بنابي القول وكلّما تحلّمت عليه ازداد رعالة، أصلح الله شأنه.
- إنني أكبر فيك قصدك ولكن أمثال هذا ربما تكون طريقة المتنبي هي الأجدى معهم.
- وكيف كان ذلك رحمك الله.
- كان أحمد بن الحسين الجعفي ولقبه (أبو الطيب المتنبي) يسير في شوارع حلب فتبعه رجل سوقة وأطلق للسانه العنان واكترى قواميس الشتائم وقال كلاماً يملأ الفم ويندى له جبين العواهر يرميه بالفضائح ومقارنة العيوب وغشيان الدنايا، ولم يستنزل هذا المتنبي عن حلمه ولا ازدهف عن وقاره ولا حفز عن رزانته، فأراد أحد أصحابه أن يرد على هذا الشاتم فأخذه المتنبي بيده وقال له: دعه فلن نحقق له بغيته.
- وما يبغي يا أبا الطيب؟
- إنه يسعى لأهجوه فيخلد ذكره ولن ينال.
ومضى الركب وترك السوقة يتحرّق بكمده حتى أغمي عليه.
وعندما أتمت النخلة حديثها وصل أعرابي وأناخ ناقته في ظلها وأنشد:
إذا وصف الطائي بالبخل مادر ** وعير قساً بالسفاهة باقل
وقالت سهى للشمس أنت كليلة ** وقال الدجى يا صبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة ** وعيرت الشهب الحصى والجنادل
في موت زر إن الحياة ذميمة ** ويا نفس جدي إن دهرك هازل
تمت
0 التعليقات:
إرسال تعليق