خطاب تاريخي عند منعطف بني عمرو
رضوان محمود نموس
كثيرة هي الخطابات التاريخية كثيرة هي المنعطفات التي تلقى فيها أو حولها تلك الخطابات.
إلا أن لهذا الخطاب ما يميزه، ولو فطن لهذا الخطاب أصحاب الخطابات العظيمة لوجدوه خير معين لهم، فهو ينطبق على واقعنا المر تماماً إلا أنه يحتاج إلى تعديل طفيف، ليتناسب مع المرحلة المصيرية الخطيرة التي تجتازها الأمة، والمنعطف التاريخي الذي تمر به، وياله من منعطف طويل، حيث لم ينته منذ تسلط على هذه الأمة هؤلاء الحكام من أبناء قابيل، فمنذ أن ولدت وإلى الآن يتردد على مسامعي في خطبهم التاريخية التي تبثها إذاعاتهم وتلفازهم وتنشرها صحفهم المأجورة وتتناقل الإذاعات الرديئة مقاطع منعا في هذه المرحلة من التاريخ حيث الأشراف والأحرار مبعدون عن دورهم وليس من حام إلا رجلٌ أكّد الهلع مفاصله، ينظر إلى الأهل والأرض والبلاد على أنها غنيمة يتقاسمها مع المغير الخسيس.
وهناك خطبة تاريخية تهدد وتوعد وتبرق وترعد دون أن تمطر، ثم تتغير نغمة الخطاب فيصبح الخطاب استعطاف واسترحام ثم يرق ويلين ويصبح وعداً بمقاسمة الزاد والعرض، كل هذا والمغير لا يلتفت نحو الخطيب ولا يصيخه سمعه بل ولا يقيم له وزناً، حتى تيأس جارية من بطولات وجعجعات الخطيب فتقتحم على المغير الذي يكون جرواً.
أي أنك واجد صورة مماثلة لواقعنا، وللفقاعات التي هزت المنابر ردحاً من الزمن، وأنت إذا طابقت بين مرحلتنا التي نحن فيها ومكانها في الخطبة فستجد أننا في فترة تقسيم الزاد والعرض ولما يحن بعد وقت السواعد الشابة المؤمنة والأيدي المتوضأة التي ستطرد المغير, وتمحو العار، وتنظف الأرض من هؤلاء الخطباء التاريخيين فلنستمع إلى هذه الخطبة ولما سيليها من خطب مصيرية إن شاء الله ولم يكن لها من ناتج سوى ضياع البلاد وإذلال العباد ونشر الخنى والفساد، ومزيد من القهر والاستعباد، والتذلل للمغير، وموت الفضيلة، وشيوع الرذيلة والدياثة بين هؤلاء الخطباء.
كان بالبصرة خطيب من بني نهشل يقال له عروة بن مرثد ويكنى (أبو الأغر) ينزل ببني أخت له في سكة بني مازن وبنو أخته من قريش، فخرج رجالهم إلى ضياعهم في شهر رمضان, وخرج النساء يصلين في مسجدهن، فلم يبق في الديار إلا الإماء، فدخل جرو يعتس، فرأى بيتاً فدخله وانصفق الباب فسمع الحركة بعض الإماء فظنوا أن لصاً دخل الدار، فذهبت إحداهن إلى أبي الأغر فأخبرته.
فقال أبو الأغر: ما يبتغي اللص، أيظننا جداراً واطئاً ؟! أم حسب الرجال ذهبوا ؟! ولم يعلم أن ليث الكتيبة رابض في الدار، ثم أخذ سيفاً له أشبه ما يكون بالعصا وكان قد أسماه لعاب المنية وجاء فوقف على الباب.
فقال: إيه يا ملأمان ما أسوأ ليلتك وما أفجع مصيرك، أبلغ بك التهور والجنون أن تعدوا على الآساد في عرينها، وتدخل على الحية في جحرها، أما والله إني بك لعارف فهل أنت إلا من لصوص بن مازن، وقلت أطرق ديار بني عمرو والرجال خلوف والنساء يصلين في مسجدهن فأسرقهم، سوءة لك والله ما يفعل هذا ولد الأحرار، وأيم الله لتخرجن أو لأهتفن هتفة مشؤومة يلتقي فيها الحيان عمرو وحنظلة وتجيء سعد بعدد الحصى وتسيل عليك الرجال من ها هنا ومن ها هنا ولإن فعلت لتكونن أشأم مولود وأتعس مخلوق ويذهب لحمك وعظمك طعماً للسيوف ونهمة للرماح، أخرج وإلا ستدخل عليك الجحافل وتضيق عليك الأرض بما وسعت وعندها لا ينفع العذر ولت حين مناص.
فلما رأى أنه لا يجيبه أحد، أخذ باللين فقال: بأبي أنت وأمي أخرج مستور الحال، ولا أريد أن يطل دمك في شهر الصوم، ولا أحب فجيعة أهلك ولا ترمل زوجتك ويتم أولادك، اخرج سالماً معافى، إني والله ما أراك تعرفني ولو عرفتني لقنعت بقولي واطمأننت إلي، أنا فديتك، أنا أبو الأغر النهشلي، وأنا خال القوم وجلدة بين أعينهم لا يعصوني ولن تضار الليلة فاخرج فأنت في ذمتي.
ولما لم يسمع جواباً، ولم يرد عليه خطاباً، قال أنا أعلم ما أخرجتك إلا الحاجة، وما غرر بك إلا الفاقة، وعندي قوصرتان أهداهما إلي ابن أختي البار الوصول فخذ إحداهما فانتبذها حلالاً من الله ورسوله، وخذ إحدى حلتي ونصف دراهمي واخرج بأمن من الله ولا تثريب عليك، وكان الجرو إذا سمع كلامه أطرق، وإذا سكت وثب يريد المخرج، فتهافت أبو الأغر ثم تضاحك وقال: اقلب السوداء والبيضاء فتصيخ وتطرق وإذا سكت عنك وثبت، اخرج بارك الله بك اخرج ولا تترك أحياء العرب تسمع بك، اخرج بكرمي ولك القوصرتان، وإلا فسأغلق الباب دونك وخذ هذه الحجرة ولن نسمح لك أن تعدو إلى غيرها أبد الدهر وطول الزمان، فلما طال وقوفه وخطبته، جاءته إحدى الإماء وقالت: أعرابي مجنون والله ما أرى ف البيت شيئاً فدفعت الباب فخرج الجرو شداً وحاد عنه أبو الأغر ساقطاً على قفاه مغمياً عليه، فلما صحا قال: يا الله ما رأيت كالليلة وما أراه إلا جرواً، أما والله لو علمت بحاله لولجت عليه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق