دراسات حول سوريا (14)
دور النصارى التخريبي
رضوان محمود نموس
ساوت الدولة في المعاملة بين رجال الدين من المسيحيين والمسلمين، وضمنت لرؤساء الطوائف المسيحية قدراً كبيراً من الاحترام، فخاطبوا الصدر الأعظم بعبارة: "معروض داعيلر يدركه" أي معروض داعيكم، -تماماً كما كان يخاطب رجال الدين المسلمين- وأنعمت عليهم الدولة بالأوسمة والألقاب([1])، وسمحت لهم بإعادة بناء وتجديد كنائسهم، على أن تكون الأرض ملكاً للطائفة، وأن لا يكون للطوائف الأخرى علاقة بها، أما إذا كانت الأرض في حي إسلامي فيشترط أن لا تكون وقفاً للمسلمين، وإذا كانت أرضاً خاصة فيجب أن يكون ذلك برضاء المتصرفين بها، أما إذا كانت الأرض أميرية فتجري الموافقة على أساس تقدير بدل العشر عينا([2])
ومنحت الدولة العثمانية الأديرة المسيحية في ولاية سوريا امتيازات خاصة، فأعفت أغنام الأديرة من الرسوم([3]) وأصدرت في 7/ ذي الحجة 1281هـ/1864م نظاماً تضمن إعفاء جميع أصناف الرهبان عن تبعة الدولة العثمانية والدولة الأجنبية والمذاهب الأخرى وإعفاء أديرتهم من الرسوم الجمركية، وبموجب هذا النظام أعفيت جميع الأشياء الخاصة بتزيين الكنائس ولوازم الرهبان ومدارس الأديرة والأماكن الخيرية التي يديرونها مثل العيادات الصحية والصيدليات وملاجئ الأيتام وغير ذلك، وقد صيغ النظام السابق الذكر في (12) بنداً تضمنت الأسس التي يتم الإعفاء بموجبها([4])
وبموجب قانون تشكيل الولايات 1864م منحت الدولة الطوائف غير الإسلامية حتى التمثيل في مجالس دعاوى الأقضية بعضو أو أكثر، وفي مجالس تمييز الألوية بثلاثة أعضاء، وفي ديوان تمييز الألوية بثلاثة أعضاء.([5])
ومما تقدم يتضح لنا أن الدولة العثمانية قد حرصت على أن تضع نشاط الطوائف غير الإسلامية في الإمبراطورية العثمانية في قوالب وأوضاع محدودة، إلا أنها كانت بعيدة عن روح التعصب الديني، (بل إن هذه الطوائف كانت تتمتع في الكيان العام بحرية وحكم ذاتي لاشك كانت تحسدها عليها كثير من الطوائف المسيحية في أوربا نفسها)([6]) ويرى "السير ريتشارد وود" -قنصل بريطانيا في تونس- بأن الدولة العثمانية قد حرصت على إرضاء رعاياها من النصارى واليهود وإزالة الفروق التي كانت موجودة بينهم وبين المسلمين ومشاركتهم في الإدارة العامة وتقليدهم المناصب الرفيعة وإعلاء شأنهم وإثبات حقوقهم، ثم يقول: (... ولا يخفى أن الباب العالي وجد في هذا السبيل مقاومة من الرعايا المسلمين، بل من الكنائس نفسها لما بينها من العداوات والإحن، وذلك أمر اشتهر عند الجميع حتى صار النصارى يتعلمون من دولة إسلامية ما يرمي إليه الدين من الحض على الرفق واللين والتساهل والصبر)([7]) ويمضي في قوله: (... أما اعتراض المعترضين بأن المساواة بين الطوائف غير كاملة ([8]) ما دام النصارى لم يشتركوا في الجندية العثمانية([9]) فجوابنا عليه أن الذنب في ذلك على النصارى أنفسهم لا على الباب العالي، إذ أن النصارى مع حرصهم على نيل كل الحقوق لم يقبلوا أن يدخلوا تحت ما يقابلها من الواجبات([10]) كان هذا -ما تقدم- هو موقف الدولة العثمانية من الطوائف، فما هو موقف الطوائف من الدولة العثمانية؟
إن موقف الطوائف من الدولة العثمانية وواليها في سورية، لم يكن موقفاً ودياً إذ تطالعنا الوثائق المحفوظة في أرشيف إستانبول بشكاوى ولاة دمشق من تصرفات بعض رجال الدين المسيحيين في ولاية سورية وبأنهم قد اعتادوا على التدخل في شؤون الولاية التي لا تتعلق بطوائفهم، وبأن قناصل الدول الأجنبية قد اتخذوا بعضهم وسيلة للتذرع بالتدخل في شؤون الولاية، وأن بعض بطاركة الطوائف المسيحية في دمشق يثير متاعب للولاية لنزاعه مع الطوائف الأخرى([11])
وعندما كان والي سورية يطلب من رؤساء الطوائف دفع الأموال الأميرية المترتبة عليهم كانوا يحاولون التملص من دفعها بتأثير دسائس قناصل الدول الأجنبية في دمشق([12]) كما كان بعض أفراد الطوائف المسيحية يتخلون عن الجنسية العثمانية ويستبدلونها بالفرنسية([13])
وشكا المسيحيون السوريون من معاملة الدولة العثمانية لهم، ورنا بعض موارنة لبنان بأبصارهم إلى فرنسا، واعتبروها الحامية الطبيعية للمسيحيين العثمانيين، والوطن الثاني لمسيحيي سوريا، وطلبوا منها أن تفرض سيادتها على جبل لبنان([14])
علاقة الطوائف غير الإسلامية بعضها ببعض:
نشب صراع عنيف بين الطوائف المسيحية في الدولة العثمانية، وحاولت كنيسة كل طائفة منها أن تجتذب أتباع الأخرى، لذلك كانت الطوائف التي تفقد أتباعها تلجأ إلى الدولة العثمانية طالبة منها التدخل لإعادة الأتباع المنشقين إلى صفوفها، وفي بعض الأحيان كان النزاع يتطور إلى العداء السافر، فقد استطاع بطريرك الأرثوذكس في إستانبول أن يطرد في سنة 1702م المسيحيين الذين بدلوا عقيدتهم وأن يغلق المدارس الابتدائية الكاثوليكية في استانبول مستغلاً نفوذه لدى الباب العالي الذي ضمن له قدراً كبيراً من التأييد.
وقد كان لنزاع الطوائف أسوأ الأثر على الدولة العثمانية إذ استغلت الدول الأوربية الحامية للطوائف المسيحية خلافاتها الطائفية، كفرنسا التي نالت حماية طائفة الكاثوليك في الدولة العثمانية وروسيا التي طلبت من الباب العالي أن يمنحها امتيازات مماثلة للامتيازات الفرنسية والاعتراف بالحماية الروسية لطائفة الأرثوذكس، وعندما رفض الباب العالي منح روسيا هذا الحق الذي تدعيه، اندلعت حرب القرم في سنة 1854م([15]) والتي كان سببها الخلاف بين الطوائف المسيحية على خدمة الأماكن الدينية في القدس.
وكان النزاع بين الكنائس اللاتينية واليونانية في القدس يمتد بسهولة في مواسم الاحتفالات ليتناول مواضيع الأفضلية والامتياز، لا سيما بين فرنسا التي اعترف لها بحماية طائفة الكاثوليك وروسيا التي كانت تطالب مقابل ذلك بحقها في حماية طائفة الروم الأرثوذكس([16])
وهكذا كان النزاع الطائفي وما يعقبه من مداخلات استعمارية يجر الدولة إلى حروب تزيد في ضعفها وتستنزف قواها.
ولم تكن العلاقات بين طوائف دمشق المسيحية طيبة، بل كان يدس كل منها للآخر، وورد ذلك في تقرير رفعه والي سوريا عبد اللطيف صبحي باشا إلى الصدر الأعظم بتاريخ 1/ ذي الحجة/ 1288هـ، 11/ فبراير/ 1871م، شكا فيه من بطريرك السريان الكاثوليك ووصفه بأنه: "رجل مزور ومحتال ويسعى دائماً لإثارة المتاعب للولاية عن طريق إغراء جماعة من أبناء طائفته بمهاجمة كنيسة الأرمن الكاثوليك في دمشق وإتلافها" واقترح إبعاده عن دمشق([17])
أما الطوائف المسيحية في حلب فلم تكن علاقاتها بأحسن من علاقات الطوائف في مدن بلاد الشام، إذ استطاع بطريرك الروم في حلب أن يفرض سلطته التامة على الكنيسة والطائفة الكاثوليكية وحرم على رجالها ارتداء القلانس السوداء أو تقليد لباس كهنة الروم، وأجبرهم على أن يلبسوا لباساً عادياً كعامة الشعب بالرغم من انفصالها عن الكنيسة الأرثوذكسية التي يرعاها، كما حدث خلاف آخر في سنة 1819م بين كاثوليك حلب ومطران الروم، وبالرغم من أن رعية المطران -من الروم- كانت قليلة في حلب، إلا أنه أراد فرض سلطته على طائفة الكاثوليك الأكثر عدداً، ولكن الأخيرين رفضوا طاعته، وأصروا على مقاومته، وعقب ذلك عداء شديد بين الطائفتين([18])
ولم تكن علاقة الطوائف المسيحية بطائفة اليهود في ولاية سوريا حسنة، بل كان العداء ناشباً بينهم، وقد اشتد في عهد الإدارة المصرية إثر مقتل الراهب "توما الكبوشي" الذي نسب إلى اليهود مما أثار ثائرة المسيحيين ضد يهود دمشق وتدخل القنصل الفرنسي في القضية، وألبسها لبوساً دينياً، ولكن اليهود استطاعوا أن يجمعوا أموالاً لافتداء المتهمين، ودفعوا إلى محمد علي ستين ألف كيس، فقبلها وأطلق سراح المتهمين اليهود([19])
ولم يحدث بعد ذك نزاع خطير بين طائفة اليهود والطوائف المسيحية.
أما علاقة الطوائف المسيحية بالمسلمين فقد مرت بمرحلتين، الأولى قبل إقرار المساواة بين الطوائف، أي قبل الحكم المصري لبلاد الشام، وفي هذا الدور عاش المسيحيون جنباً إلى جنب مع المسلمين كما عاش أهل الذمة في العهود الإسلامية الأولى في وئام وانسجام
وكان للمساواة التي أعلنها إبراهيم باشا بين الطوائف في بلاد الشام صدى قوي في الأوساط الطائفية، حيث قابلها المسيحيون بسرور بالغ، وبالغوا في التشبه بالمسلمين، بل زادوا على ذلك وأصبحوا يتطاولون على المسلمين ويتعاطون الخمر علناً، فأغضب ذلك المتدينيين والأعيان المسلمين عليهم،
ولما عاد العثمانيون إلى بلاد الشام في سنة 1840م، تابعوا إقرار المساواة بين الطوائف([20]) وفقاً لما جاء في خط كلخانة 1839م "... ولكي يكون أهل الإسلام وباقي الملل الذين هم من تبعة سلطنتنا السنية نائلين مساعداتنا هذه الشاهانية بدون استثناء أعطيت من طرفنا الشاهاني الأمنية الكاملة بمقتضى الحكم الشرعي، لجميع أهالي ممالكنا المحروسة على نفوسهم وأعراضهم وناموسهم"([21]) أ.هـ
ويبدو أنه إذا كانت حوادث 1860م بين الموارنة والدروز في جبل لبنان تعود في جذورها إلى النزاعات الإقطاعية فإن انتقالها إلى دمشق يعود في الدرجة الأولى إلى غضبة مسلمي دمشق من تطاول المسيحيين إبان حكم إبراهيم باشا، ولكن الدولة ردت على حوادث 1860م في دمشق بقسوة بالغة، جعلت أهل دمشق يستكينون ويرضخون لها حتى جلاء العثمانيين عنها سنة 1918م.
ومهما يكن من أمر فقد تمتع مسيحيو ولاية سورية بحرية تامة في ممارسة أمور التجارة والصناعة ولم يكن المسلمون يتدخلون في شؤونهم الداخلية أو يتعرضون لهم بسوء.
وبعد إعلان الدستور في سنة 1908م منحت الدولة المسيحيين المساواة التامة فدخل المسيحيون واليهود في الجندية، كما كان هنالك قائمقامو أقضية من المسيحيين([22]) كما كان معظم موظفي محاسبة ولاية سورية من أبناء الشام المسيحيين([23]ويبدو أن سيطرة المسيحيين على الأمور المالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هي استمرار للدور الهام الذي لعبه أهل الذمة في النواحي المالية للدولة العثمانية.
[1] - أرشيف استانبول: خارجية وثيقة رقم 10286 تاريخ 6/ شوال/ 1277هـ وخارجية وثيقة رقم 15859 تاريخ 10/ رجب/ 1290هـ.
[2] - أرشيف استانبول: خارجية، وثيقة رقم 12022 تاريخ: 11/ ربيع الأول/ 1281هـ، وانظر شورى عدلية ومذاهب، وثيقة رقم: 6441 تاريخ: 12/ ذي القعدة/ 1308.
[3] - أرشيف استانبول: خارجية ، وثيقة رقم: 12270 تاريخ: 13/ ربيع الآخر/ 1281هـ.
[4] - الدستور، مجلد: 2 ص: 543- 550.
[5] - الدستور، مجلد: 1 ص: 384، 389، 390.
[6] - أحمد عزت عبد الكريم والعلاقات بين الشرق العربي وأوربا، ص: 250.
[7] - إننا في نفس الوقت نجد كاتباً إنجليزياً مثل: (MALCOLM MACCOLL) يلوم الدول الأوربية لأنها بتخاذلها ستترك تركيا تعمل على إنقاص مسيحييها إلى النصف، ويأخذ على الدولة العثمانية عدم ترخيصها بنشر الإنجيل باللغة التركية، وبأن هذا المنع مخالف لما جاء في الخط الهمايوني 1856م، ثم يقول: إن القانون في تركيا لا يعترف بالمسيحيين إلا إذا كانوا من أبوين مسيحيين، ويستنتج الكاتب بأن هذا يعني أن التبشير كان ممنوعاً في الدولة العثمانية.
[8] - يتهم ميخائل مشاقة الدولة العثمانية في كتابه مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان، ص: 169- 170 فيقول: بأن الدولة هدفت من المساواة إثارة خواطر المسلمين على النصارى.
[9] - دخل المسيحيون واليهود في سلك الجندية بعد الانقلاب الدستوري عام 1908م.
[10] - انظر تقرير السير: "ريتشارد وود" المنشور باسم: الإسلام والإصلاح، نشره محب الدين الخطيب، ص: 25- 26.
[11] - أرشيف استانبول: مجلس مخصوص ، وثيقة رقم: 1751 تاريخ: 23/ ذي الحجة / 1288هـ.
[12] - أنظر الفصل السادس.
[13] - الدستور مجلد: 1 ص: 12.
[14] - جمال باشا: مذكرات جمال باشا (تعريب علي أحمد شكري) ص: 405 – 410 –بالرغم من أن أقوال جمال باشا يجب أن ينظر إليها بحذر بالغ- فقد يحاول الرجل تبرير أعماله في بلاد الشام فإن ما أوردته آنفاً لا يناقض اتجاه الموارنة العام وميلهم إلى فرنسا منذ أمد بعيد
وانظر كذلك/ عبد الله صفير باشا: الانتداب الفرنساوي والتقاليد الفرنساوية في سورية ولبنان، ص: 25 – 30.
[15] - جدد السلطان عبد الحميد للإمبراطور نابليون الثالث امتيازات فرنسا القديمة في حمايتها لطائفة الكاثوليك، وعندما علم قيصر روسيا بولس الثاني طلب إلغاء امتيازات فرنسا في الشرق وفي سورية أو أن يمنح امتيازات مماثلة تخوله حق حماية الروم الأرثوذكس في الإمبراطورية، انظر: ميخائيل مشاقة: مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان، ص: 154.
[17] - أرشيف استانبول: مجلس مخصوص، وثيقة رقم: 1751 تاريخ: 1/ ذي الحجة/ 1288هـ.
[18] - ميخائيل مشاقة: مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان، ص: 76.
[19] - فيما يتعلق بمقتل توما الكبوشي، انظر أسد رستم: الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا، مجلد5 ص: 1- 41 وغيره.
[20] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 2580 تاريخ: 27/ جمادي الآخرة/ 1257هـ.
[21] - الدستور، مجلد 1، ص: 2-4.
[22] - عين سليم أفندي ملكي قائمقاماً لقضاء درعا/ لواء حوران، لكنه لم يستطع ضبط أمور القضاء لعجزه عن فرض شخصيته على الأهالي فاضطرت الولاية لعزله وتعيين مسلم بدلاً منه.
انظر أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 10/2354 تاريخ: 20/ ذي الحجة / 1313هـ.
[23] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 39499 تاريخ: 26/ جمادي الأول/ 1284هـ.
من المراجع الأساسية الإدارة العثمانية في ولاية سوريا 1864 – 1914م
0 التعليقات:
إرسال تعليق