العقل والعقلانية والعقلانيون (1)
رضوان محمود نموس
العقل: هو الاستعداد الغريزي، والملكة الناضجة لدى الإنسان، وقد يطلق ويراد به القوة الفطرية التي أودعها الله تعالى في الإنسان وخلقه عليها، وقد وردت مشتقات كلمة العقل في القرآن الكريم حوالي سبعين مرة، كلها في مقام المدح والثناء، منها قوله تعالى: ) وما يَعقِلُها إلا العالِمون (1). وأما محل العقل فاختلف فيه، فمنهم من قال: هو الدماغ ومنهم من قال هو القلب، ولقد أطلق أحياناً على العقل لفظ القلب، وجاء ذلك بآيات عدة، منها قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (2)(وبهذا قال الإمام أحمد رحمه الله.
العقل لغة:
قال في مختار الصحاح [ع ق ل العَقْلُ الحِجر والنُّهى ورجل عاقِلٌ وعَقُولٌ والعَقول بالفتح الدواء الذي يمسك البطن و المَعْقِل الملجأ وعَقَل له دم فلان إذا ترك القَوَد للدية وعَقَل البعير أي ثنى وظيفته مع ذراعه فشدهما في وسط الذراع وذلك الحبل هو العِقَالُ والجمع عُقُلٌ وعَقَل الدواء بطنه أمسكه واعْتُقل الرجل حُبِس واعْتُقِل لسانه إذا لم يقدر على الكلام كلاهما بضم التاء]
وجاء في لسان العرب عند مادة عقل: [عقل: العَقْلُ: الـحِجْر والنُّهى ضِدُّ الـحُمْق، والـجمع عُقولٌ. ... وعَقَل، فهو عاقِلٌ و عَقُولٌ من قوم عُقَلاء. ابن الأَنباري: رَجُل عاقِلٌ وهو الـجامع لأَمره ورَأْيه، مأْخوذ من عَقَلْتُ البَعِيرَ إِذا جَمَعْتَ قوائمه، وقـيل: العاقِلُ الذي يَحْبِس نفسه ويَرُدُّها عن هواها، أُخِذَ من قولهم قد اعْتُقِل لِسانُه إِذا حُبِسَ ومُنِعَ الكلامَ، وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط فـي الـمَهالِك أَي يَحْبِسه، ...وعَقَلَ الدواءُ بَطْنَه يَعْقِلُه و يَعْقُلُه عَقْلاً: أَمْسَكَه، وقـيل: أَمسكه بعد اسْتِطْلاقِهِ، واسمُ الدواء العَقُولُ. ابن الأَعرابـي: يقال عَقَلَ بطنُه و اعْتَقَلَ، ويقال: أَعْطِنـي عَقُولاً، فـيُعْطِيه ما يُمْسِك بطنَه. ابن شميل: إِذا اسْتَطْلَقَ بطنُ الإِنسان ثم اسْتَمْسَكَ فقد عَقَلَ بطنُه، وقد عَقَلَ الدواءُ بطنَه سواءً. و اعْتَقَلَ لِسانُه: امْتَسَكَ. الأَصمعي: مَرِضَ فلان فاعْتُقِل لسانُه إِذا لـم يَقْدِرْ علـى الكلام؛ قال ذو الرمة:
ومُعْتَقَل اللِّسانِ بغَيْر خَبْلٍ ******* يَميد كأَنَّه رَجُلٌ أَمِيمُ
و اعْتُقِل: حُبِس. و عَقَلَه عن حاجته يَعْقِله و عَقَّله و تَعَقَّلَهُ و اعتَقَلَه: حَبَسَه. وعَقَلَ البعيرَ يَعْقِلُه عَقْلاً وعَقَّلَه واعْتَقَله: ثَنى وَظِيفَه مع ذراعه وشَدَّهما جميعاً فـي وسط الذراع، وكذلك الناقة، وذلك الحَبْلُ هو العِقالُ، والجمع عُقُلٌ وعَقَّلْتُ الإِبلَ من العَقْل، شُدِّد للكثرة؛ ... وفـي الحديث: القُرْآنُ كالإِبلِ المُعَقَّلة أَي المشدودة بالعِقال، والتشديد فـيه للتكثـير؛]
وقال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: [وأصل العقل الإمساك والاستمساك كعقل البعير بالعقال وعقلِ الدواءِ البطنَ وعقلا المرأة شعرها وعقل لسانه كفِّه ومنه قيل للحصن معقل وجمعه معاقل .. والعقيلة من النساء والدّرِّ وغيرهما التي تعقل أي تحرس وتمنع [(3).
فالعقل في كل معانيه ومشتقاته هو الربط والإمساك والكف والمنع .
وللعقل في الفلسفة اليونانية إطلاقات؛ أحدها يراد به عقل الإنسان؛ ذلك العَرَض القائم به، وآخر يراد به العقل المفارق للمادة، وهو جوهر قائم بنفسه لا يدركه الفناء، ومنه تفيض الصور إلى عالم الكون، ومنه يستمد العقل الإنساني المعرفة ويطلق عليه العقل الفعّال، وأحيانا العقل الكلي، وذهب بعضهم إلى أنه الله، وذهب بعض الفلاسفة الذين يدَّعون الإسلام إلى مثل ذلك، وذهب الفارابي إلى أنه الروح القدس، وللغزالي أقوال تثبت للعقل الصفتين، بل أكثر من ذلك, وستمر معنا بعض أقواله إن شاء الله وهناك عقول أخرى عدها الفلاسفة إلى تسعة، ومنهم إلى عشرة تتحرك في الأفلاك.
أما إذا انتقلنا إلى الفلسفة الحديثة فسنجد أن هناك اتجاهات أو مذاهب متعددة تجاه العقل، فهناك المذهب العقلي الذي يعتبر أن العقل هو المحك والمقياس للحقائق، ومنها حقائق الوحي المتمثلة بكتب الله تعالى وسنن رسله صلوات الله عليهم، وبالتالي فما لا يتماشى مع العقل ينبغي رفضه، وعلى ذلك سار "اسبينوزا" و"شتراوس" وغيرهما، وبهذا القول يقول العلمانيون -اللادينيون- من العرب وغيرهم وبعض المتمسلمين.
العقلانية : العقلانية مذهب فكري فلسفي يزعم أن الاستدلال العقلي هو الطريق الوحيد للوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود، بدون الاستناد إلى الوحي الإلهي أو التجربة البشرية، وأنه لا مجال للإيمان بالمعجزات أو خوارق العادات، كما أن العقائد الدينية يمكن، بل ينبغي أن تختبر بمعيار عقلي، وهنا تكمن علله التي تجعله مناوئاً ليس فقط للفكر الإسلامي، بل أيضاً لكل دين سماوي صحيح. ويعد أتباع العقلانية هم المؤسسون الحقيقيين للإلحاد الذي ينكر الحياة الآخرة، ويرى أن المادة أزلية أبدية، وأنه لا يوجد شيء اسمه معجزات الأنبياء فذلك مما لا يقبله العلم في زعم الملحدين، الذين لا يعترفون أيضاً بأية مفاهيم أخلاقية ولا بقيم الحق والعدل ولا بفكرة الروح. (4).
ونشر " العقلانية " في العالم الإسلامي هدف من أهداف اليهود!
لماذا؟ لأن اليهود يعلمون كثرة النصوص القرآنية والنبوية الفاضحة لهم ولمخططاتهم عبر التاريخ، الكاشفة لشخصيتهم المريضة المنحرفة، المحذرة للمسلمين منهم، المحقرة لسلوكهم.
فهذه النصوص تعطي المسلمين شحناً نفسياً ضد يهود وأدائهم المستحكم لأمتنا، وتوضح لهم الطريق الأمثل في التعامل معهم.
وحيث أن هذه النصوص هي بين أيدي المسلمين صباح مساء فلا سبيل إلى صرفهم عنها سوى بإحلال العقلانية بدلاً منها، لأن هذه العقلانية التي لا تحتكم إلى نص مقدّس يسهل تعامل يهود معها في المستقبل، حيث لا ثوابت ولا أصول. فما كان حراماً اليوم يكون حلالاً غداً بمباركة هؤلاء العقلانيين!
ومن ذلك: الموقف من يهود وأسلوب التعامل معهم، فبعدما كان (النص) الإسلامي يحشد نفوس المسلمين لمواجهة (أشد الناس عداوة للذين آمنوا)، سيأتي العقل (المزعوم) ويتجاوز تلكم النصوص كلها مقدماً ما يراه مصلحة عليها؛ من التسامح معهم، ونبذ العداوة والبراءة تجاههم.
إضافة إلى أنهم بواسطة العقلانية يتساوون مع البشر الآخرين الذي كانوا يحتقرونهم ويزدرونهم لسوء مسلكهم.
يقول الأستاذ عبد السلام بسيوني في بحثه حول العقلانية: (وإنني بالبحث لم يخامرني دهشٌ ولا عجب حين قرأت أن بذور الدعوة العقلانية بذور يهودية، يبرر سارتر الوجودي اليهودي نشرها في العالمين (بأن البشر ما داموا يؤمنون بالدين فسيظل يقع على اليهود تمييز مجحف، على اعتبار أنهم يهود، أما إذا زال الدين من الأرض وتعامل الناس بعقولهم، فعقل اليهودي كعقل غير اليهودي. ولن يقع عليهم التمييز المجحف)
ويقول سارتر اليهودي - أيضاً: (إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبرى هي: عبادة الذهب، وتعرية الجسم البشري، ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني) العقلانية: هداية أم غواية (ص 10) .( 5).
وقد وجدَتْ أقوال الفلاسفة طريقها إلى عالم الإسلام والثقافة الإسلامية عبر المحفل الماسوني والماسونيين والفرق الضالة، فهناك الفلاسفة ومن نحى نحوهم من المعتزلة والمتكلمين، يعتقدون أن العقل أصل الأدلة وأساسها، لأن دلالته يقينية، بينما دلالة الشرع -في زعمهم- ظنية، وقد رتبوا على ذلك عدداً من اللوازم, من أهمها أن يقدم العقل على النقل -أي على كلام الله سبحانه وكلام رسله- عند التعارض؛ بل عند توهم التعارض أو احتماله. فأي كلام لله تعالى أو لرسوله صلى الله عليه وسلم لا يروق لهم أو يحتمل أن يقف أمام رغباتهم وأهوائهم المستقبلية يواجه بـ "فيتو أهوائهم" ويسقطونه من الاعتبار. تعالى الله عمَّا يقول الكافرون المرتدون العلمانيون - العقلانيون- اللادينيون- علواً كبيراً, وعندهم أيضا أن الثواب والعقاب والحسن والقبح مرتب على حكم العقل، وأن حجة الله تعالى قائمة على الخلق بحكم العقل لا بحكم الشرع.
والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وهدي سلف الأمة تدحض هذه الأقوال. حيث يقول تعالى: (إن الحكم إلا لله) لا للعقل ولا للأهواء. وسيأتي شيء من التفصيل إن شاء الله.
وبالمقابل قام فريق فأنكر أي دور للعقل وعطله عن أي عمل، كحال بعض الصوفية الذين يوجبون على المريدين أن يكونوا كالأموات بين يدي المغسِّل. وقد هدى الله تعالى أهل السنة والجماعة إلى أن يكونوا أمة وسطا بين الضلالَين ليكونوا ظاهرين على الحق قائمين لله بالحجة على عباده إلى قيام الساعة، فأثبتوا أن للعقل مكانته، وله فهمه وإدراكه الإجمالي، ولكنه تابع للشرع, ولا يكون معتبراً إلا إذا اهتدى بالشرع يفهمه ويرشد إلى العمل به، وأن الشرع معصوم والعقل غير معصوم، ولذلك فإن الشرع مقدم على العقل، وإن معيار الصحة والفساد هو الشرع لا العقل، وإن للعقل إدراكا في حسن الأشياء وقبحها، والثواب والعقاب, والوعد والوعيد, مترتب على الشرع لا على العقل، وعلى التقيد بأمر الشرع والسير على طريقه والاهتداء بهديه، لا على طريق العقل الذي يختلط كثيراً وعند كثير من الناس بالأهواء والشهوات, وحتى إذا لم يختلط فهو تفكير بشر مخلوق عاجز عن إدراك جزء يسير من الحقائق.
قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ منَ الْعِلْمِ مَا لَكَ منْ اللَّهِ منَ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(6).
وقال الله تعالى:) وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمنْا بِهِ كُلٌّ منْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ((7).
وقال الله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ منَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلا (8).
ولقد وصف الله تعالى حال الذين يزعمون أنهم يعلمون فقال:) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ منَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ((9).
ولقد اجتمع عند العلمانيين – العقلانيين -اللادينيين- الجدد - تقديم العقل -الهوى- مع الخضوع الانهزامي لفلاسفة أوربا الذين كفروا بالله، والذين أنكروا الأديان مثل "فولتير" و"روسو" الذين يزعمون أن الدين من اختراع القساوسة والشيوخ الماكرين لإخضاع الشعوب، ومثل الماركسيين الذين قالوا بأن الدين أفيون الشعوب.
فاختلط عند هؤلاء العلمانيين -اللادينيين- تقديم الهوى مع الإزراء على الدين, وقلدوا الماسون بما أطلق عليه الدين الطبيعي، وهو اعتقاد وجود خالق خاضع لمقررات العقل.
ولتبيان خطورة هذا المنزلق الذي انزلق منه إلى وادي الضلال كثير من أبناء آدم عليه السلام الذين يسيئون صنعاً, وآخرون ممن يحسبون أنهم يحسنون صنعاً الذين قال الله تعالى فيهم: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ((10).
نقول: إن أول معصية ارتكبت هي عدم امتثال العقل للشرع عندما رفض إمام الذين يقدمون العقل -أي الهوى- (11) على الشرع "إبليس اللعين" رفض أمر ربه سبحانه وتعالى له بالسجود لآدم عليه السلام, وقدم رأيه وقياسه الفاسد بتفضيل عنصر النار على عنصر التراب, وما يترتب على ذلك من أنه أفضل من آدم عليه السلام.
فلقد قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا منْ صَلْصَالٍ منْ حَمَإٍ مَسْنُون ٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ منْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين * فَسَجَدَ الْملاِئكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ*إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ منْ صَلْصَالٍ منْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ((12).
وقال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمنْ خَلَقْتَ طِينًا ((13).
وقال تعالى: (قَالَ مَا منْعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ منْهُ خَلَقْتَنِي منْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ منْ طِينٍ ((14).
وفي تفسير آية الأعراف الأخيرة: [قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس, فمن قاس الدين برأيه قرن مع إبليس [( 15).
وقال الطبري: [ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان أول من قاس إبليس [( 16).
ولقد سار أقوام على نهج إبليس في هذا القياس الفاسد وتقديم عقولهم النخرة، فقال بشار ابن برد:
إبليس أفضل من أبيكم آدم *** فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة*** والطين لا يسمو سموّ النار
ولما كان هذا القول كفراً سافراً, ووقاحة متبجحة, لجأ إبليس وجنوده إلى أسلوب الإخفاء والتمويه, وبدأ يسلك السبل التي تؤدي إلى تقديم الأهواء على كلام الله سبحانه وكلام رسله صلوات الله عليهم.
فإن أول كفر وقع وهو كفر إبليس, وكل كفر حدث ويحدث بعده إلى أن تقوم الساعة, مهما تنوعت أشكاله, وتفرعت شعابه, وتراكمت ظلماته, فإن مرده ومرجعه إلى الأسِّ الأول وهو (تقديم العقل (الأهواء) على كلام الله تعالى وكلام رسله عليهم صلوات الله أجمعين) ومطية هذا الأس هو التضليل والتزوير بالأسماء والمسميات. فأصل الدين الذي لا يقبل الله غيره من العباد وهو الإسلام ؛ أصل هذا الدين (الاستسلام لطاعة الله)، وأصل الكفر (عدم الاستسلام) الناجم عن تقديم الأهواء, سواء كانت هذه الأهواء أهواء الكافر نفسه أو أهواء غيره.
فأصل دعوة الرسل جميعاً الدعوة إلى عبادة الله وطاعته قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا منْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ((17).
وعندما أهبط الله آدم عليه السلام قال تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا منْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمنْ تَبِعَ هُدَايَ فََلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ % وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون َ ((18).
فلا يوجد إذن إلا خياران: إما إتباع الهدى أو إتباع الهوى. فمن اتبع الهدى الإلهي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن اتبع الهوى فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. فكلٌ يختار ما يتبع ويلقى النتيجة المترتبة.
وقد عمل إبليس على إضلال بني آدم من حيث ضل، وسلك بهم نفس الطريق الذي سلك, ليصل وإياهم إلى نفس النهاية التي أوعده ربنا جل جلاله، لذا فإن عبادة الأهواء التي يسمونها عقولاً بدأت بوقت مبكر. وبمراجعة ما وصل إلينا من التاريخ نرى أن اليونان هم أول من فصَّل وأصَّل في هذه العبادة، واتبعوا طريق إبليس في تأليه العقل, وسلكوا في ذلك مسالك شتى، فمدار كل المدارس الفلسفية اليونانية على تأليه العقل، سواء اتبعوا:
- مدرسة سقراط الذي يقول بـ (العقل بالقوة, وهو عنده استعداد النفس لقبول المعقولات) و(العقل بالفعل الذي يحصل في النفس عند قبولها للمعقولات) و(العقل الفعال الذي وظيفته إخراج النفس من القوة إلى الفعل) فإذا حصلت أصبح العقل المستفاد... إلى آخره.
أو المدرسة الأفلاطونية الغنوصية(19). الإشراقية(20) التي تقول بنظرية الفيض, أي أن نور الله فاض فنتج عنه العقل الكلي الذي هو عند بعضهم العقل العاشر, وعند آخرين العقل التاسع، والذي نتجت عنه جميع المخلوقات, وأفاض من نوره على بقية العقول واتصاله بالعقل الأدنى، والغنوصية أو الغنوسية هي شيعة دينية فلسفية متعددة الصور ؛ ويدل اسمها على مبدئها وغايتها. إن اللفظ اليوناني (غنوسيس) يعني (معرفة) . فمبدؤها أن العرفان الحق ليس العلم بوساطة المعاني المجردة والاستدلال كالفلسفة، وإنما هو العرفان الحدسي التجريبي الحاصل عن اتحاد العارف بالمعروف.
يتبــع
[1]- سورة العنكبوت: 43.
[2]- سورة ق: 37.
[3] - المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص\342
[4] - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (2/ 796)
[5] - نقض أصول العقلانيين (6/ 14)
[6]- سورة البقرة: 120.
[7]- سورة آل عمران: 7.
[8]- سورة الإسراء: 85.
[9]- سورة غافر: 83.
[10]- سورة الكهف: 103- 105.
[11]- حيثما ورد لفظ العقل مضافاً لأهل الزيغ الذين يقدمونه على القرآن والسنة بتعطيل النصوص أو تأويلها وصرفها عن معناها فهو يعني (الهوى)
[12]- سورة الحجر: 28 - 33.
[13]- سورة الإسراء: 61.
[14]- سورة الأعراف: 12.
[15]- تفسير القرطبي لآية الأعراف: 12.
[16] - تفسير الطبري لآية الأعراف: 12.
[17]- سورة النساء: 64.
[18] - سورة البقرة: 38 - 39.
[19] - كلمة يونانية الأصل (غنوسيس) بمعنى المعرفة، غير أنها أخذت بعد ذلك معنى اصطلاحيا (التوصل بنوع من الكشف إلى المعارف العليا، أو هي تذوق تلك المعارف تذوقا مباشرا بأن تلقى في النفس إلقاء، فلا تستند إلى الاستدلال أو البرهنة العقلية) وكان شعارها: بداية الكمال هي معرفة غنوص الإنسان، أما معرفة الإله فهي الغاية والنهاية ولذلك سميت بالغنوصية والغنوصية حركة وفلسفة قديمة تمثل مزيجا من العقائد اليونانية والإسرائيلية بالإضافة إلى العقائد الفارسية الآرية والكلدانية السامية مع غلبة الطابع الوثني عليها، وتستمد الغنوصية أصولها الفلسفية من: الأفكار القبالية (الكبالا) التي تمثل الديانة الإسرائيلية بما فيها من سرية التعاليم، والقول بإله تصدر عنه الأرواح المدبرة للكون، واعتقاد عقيدة الجفر وحساب الجمل واعتبار الإنسان (العالم الأصغر) الذي جاء على صورة (العالم الأكبر)....نقلاً من الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب (2 / 1113- 1114)
[20] - الإشراقية: مذهب الإشراق هو جماع آراء وتيارات راجت في الديانات القديمة الإغريقية والفارسية، ولهذا فهو فرع من فروع الفلسفة اليونانية والأفلاطونية الجديدة على وجه الخصوص، ويقوم في جملته على القول بأن مصدر الكون هو النور، فهو يعبر عن الله سبحانه وتعالى بالنور الأعلى ويصف العوالم بأنها أنوار مستمدة من النور الأول والمعرفة الإنسانية في مفهوم الإشراقيين (إلهام) من العالم الأعلى يصل بواسطة عقول الأفلاك وهو ما يسمى بالكشف أو الإشراق أي ظهور الأنوار العقلية للنفوس بعد تجردها، ولذلك فإن المعجم الفلسفي لجميل صليبة يعرف الإشراق بأنه هو:(ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها على النفس عند تجردها من المواد الجسمية، ففيضان هذه الأنوار على النفس يسمى إشراقا) نقلاً من الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب (2 / 968(
0 التعليقات:
إرسال تعليق