دراسات جهادية (5)
(حكم الجهاد)
رضوان محمود نموس
مر معنا في الحلقات السابقة أن الجهاد فرض وأن الجهاد من لوازم الإيمان وأركانه .
ونتابع في هذه الحلقة لنبين أن الجهاد هو المميز الرئيس بين المؤمنين والمنافقين.
قال الله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين* وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون*الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)آل عمران 166-168
وقال الله تعالى (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون) التوبة 42
وقال الله تعالى (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون*لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون) التوبة 56- 57
وقال الله تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون*فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون*فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) التوبة 81- 83
وقال الله تعالى: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين*رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون*لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون) التوبة 86 - 88
وقال الله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم*طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم*فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم*أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) [محمد:20 - 23]
وقال الله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم*إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم*يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) [محمد:310 33]
قال السمرقندي (ثم بيّن أمر المنافقين وصنيعهم وقلة حسبتهم في أمر الجهاد، فقال: وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا يعني: إن لم تقاتلوا لوجه الله، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وحريمكم. قال الكلبي: ويقال ادفعوا يعني: كثروا. وقال القتبي: ادفعوا، أي كثروا لأنكم إذا كثرتم ثم دفعتم القوم بكثرتكم قالُوا: قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يعني: أن ميلهم إلى الكفر أقرب من ميلهم إلى الإيمان.([1]).
فحتى الدفاع عن أعراضهم لا يفعلوه فلا إيمان ولا نخوة الرجال وهكذا النفاق إذا دخل قلباً خربه فإذا خرب القلب خرب كل شيء
وقال الرازي: يعني إن كان في قلبكم حب الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم، يعني كونوا إما من رجال الدين وإما من رجال الدنيا.
المسألة الثانية: قوله تعالى: قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا، وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات ([2]).
وقال القرطبي: (وليعلم المؤمنين* وليعلم الذيم نافقوا) أي ليميز، وقيل ليرى, وقيل: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم في القتال، وليظهر كفر المنافقين بإظهارهم الشماته فيعلمون ذلك ([3]).
{وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا} وهو كائن ليتميز المؤمنون
والمنافقون وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء {وقيل لهم} للمنافقين وهو كلام مبتدأ {تعالوا قاتلوا في سبيل الله} أي جاهدوا للآخرة كما تقاتل المؤمنون {أو ادفعوا} أى قاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم تقاتلوا للآخرة .. { قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم } أي لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا تبعناكم يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم ليس بشئ ولا يقال لمثله قتال إنما هو إلقاء النفس في التهلكة {هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان} يعني أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر وهم لأهل الكفر أقرب([4]).
وقال سيد قطب: (ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية.. وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد، والصبر على الأذى، والصبر على الهزيمة، والصبر على النصر أيضاً- فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة- وحتى يتمحص القلب، ويتميز الصف، وتستقيم الجماعة على الطريق، وتمضي فيه راشدة صاعدة، متوكلة على الله.
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. لأنه يجاهد نفسه أولاً في أثناء مجاهدته للناس وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبداً، وهو قاعد آمن سالم وتتبين له حقائق في الناس، وفي الحياة، لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه، وبانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبداً، بدون هذه التجربة الشاقة المريرة.
وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة، حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء، وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته، وعلى حقيقة غايته ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها. مدى احتمال كل لبنة، ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام.
وهذا ما أراد الله- سبحانه- أن يعلمه للجماعة المسلمة، وهو يربيها بالأحداث في «أحد» وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة. وهو يقول لها، بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها: «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا» .. وهو يقول: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ»([5]).
وقال السعدي: وليمحص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين، فيتخلصون منهم، ويعرفون المؤمن من المنافق، ... فشرع الله الجهاد ليحصل به هذا المقصود الأعظم، وهو أن يتميز الصادقون الذين لا يتحيزون إلا لدين الله، من الكاذبين الذين يزعمون الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين.) ([6]).
وقال السايس: ولا يكون ذلك كله إلا بفتح أبواب العمل أمام العاملين، ودعوة الناس إلى الجهاد والكفاح، وابتلائهم بمواقع الشدائد والمحن، لكي يتبين المجاهدون من القاعدين، والمخلصون من المنافقين. ومن آمن حبا في الله ورسوله ممن آمن حبا في الإبقاء على نفسه وماله وجاهه، وإلا فلو كان النصر حليف المسلمين من غير قتال وجهاد، وكان المؤمن معافى في نفسه وماله وولده، متقلبا في أحضان النعيم من مهده إلى لحده، لما كانت الدنيا دار ابتلاء واختبار ولما كان إيمان المؤمن اختيارا وترجيحا للإيمان على الكفر، وإيثارا لمرضاة الله ومحابّه على مرضاة نفسه وشهواته،) ([7]).
ويبين سيد أخلاق النافقين فيقول: (فهو الكذب المصاحب للضعف أبداً. وما يكذب إلا الضعفاء. أجل ما يكذب إلا ضعيف ولو بدا في صورة الأقوياء الجبارين في بعض الأحايين. فالقوي يواجه والضعيف يداور. وما تتخلف هذه القاعدة في موقف من المواقف ولا في يوم من الأيام..«وَقِيلَ: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ» ..وتخلفوا مع العجائز والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون الغزو، ولا ينبعثون للجهاد. فهذا مكانكم اللائق بالهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخاوية من اليقين. وكان ذلك خيراً للدعوة وخيراً للمسلمين:
« لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين(47)التوبة» ..
والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم اضطراباً وفوضى. ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل. وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين. ولكن الله الذي يرعى دعوته ويكلأ رجالها المخلصين، كفى المؤمنين الفتنة، فترك المنافقين المتخاذلين قاعدين... ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.
والتعبير يرسم مشهداً كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم، وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فلا يفلتون. كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتماً، جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير. وتقريراً لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون.
ولو كانوا يفقهون لأدركوا ما في الجهاد من قوة وكرامة وبقاء كريم، وما في التخلف من ضعف ومهانة وفناء ذميم.
«إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة. وإن ضريبة الذل لأفدح في كثير من الأحايين. وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة. إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة. يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون) ([8]).
ولا يحسبن أحد أن هذا كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط فالآن وبين أظهرنا من الشيوخ والدعاة من يسك سبيل المنافقين القدامى فلا يرى الجهاد إلا دفاعاً وبإذن الطاغوت أو أولياء الطاغوت ويصف المجاهدين بالإرهاب والتشدد ودعاة الفتنة والفئة الضالة وعدم قبول الآخر ... الخ ولا يرى في عصر الأمم المتحدة جهاداً نفس أقاويل المنافقين القدامى ولكن بلغة العصر ويبقى المحك قائماً فكل من يعادي الجهاد ويخذل ويرفض الجهاد ولا يرى مبرراً له أو يدعو لأساليب أخرى هو من أحفاد عبد الله بن أبي بن سلول.
فالجهاد هو المميز بين المؤمنين والمنافقين والله غالب على أمره.
وللبحث صلة
[1] - تفسير السمرقندي = بحر العلوم (1/ 263)
[2] - تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (9/ 423)
[3] - تفسير القرطبي (4/ 266)
[5] - في ظلال القرآن (1/ 528 وما بعدها)
[6] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 331)
[7] - تفسير آيات الأحكام للسايس (ص: 519)
[8] - في ظلال القرآن (3/ 1662وما بعدها)
2 التعليقات:
جزيت خيرا..........ولكن هل المرجئة من المنافقين فهناك علماء ومحدثين وقعو في الارجاء فهل هم منافقين في ميزان الشرع...ارجو التوضيح وشكرا
أخي الحبيب الإرجاء درجات فهناك إرجاء خالص شامل وهو إرجاء وتأخير العمل عن الإيمان ويقول أصحابه مجرد التصديق بوجود الله في القلب يكفي ومنهم من اشترط التلفظ قال البيجوري :
وفسر الإيمان بالتصديق *** والنطق فيه الخلف بالتحقيق
ومنهم من عندهم إرجاء في بعض الأمور. ومنهم من أخطأ في موقع ما فتطابق كلامه مع كلام المرجئة ولا ينبغي وضع هؤلاء في سلة واحدة فمن أخطأ في موضع أو موضعين أو ماشابه فهذه صفات بني آدم كلنا خطاؤون أما من كان مرجئاً خالصاً فوضعه خطير والله أعلم .
وهناك نوع آخر لا علاقة له بالإرجاء إنما خضوع من يسمون بالعلماء للطواغيت فيتكلمون على الحهاد اتباعاً لسياسة الطواغيت والله أعلم
إرسال تعليق