موقع ارض الرباط

موقع ارض الرباط
موقع ارض الرباط

الخميس، 10 نوفمبر 2011

مواقف(4)


مواقف(4)
رضوان محمود نموس
لما ولي أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر بلاد الأندلس أعاد لها الأمان، وجمع منها الشتات، وقضى على الخارجين والبغاة، وأمضى أيامه بالغزو والجهاد، غزا بنفسه أكثر من عشرين غزوة، وسيّر الجيوش والبعث. حتى استتب الأمن وهابته الأمم النصرانية ونشدت ودّه، وانتشر في عهده العدل والعلم.
وفد عليه سنة 336 هـ صاحب قسطنطينية ومعه وجوه النصارى، فأعد الأمير البلاد والجيوش ليريهم من هيبة الملك وقوة الجيش وتألّف أهل البلاد. وجهّز الخطباء ليخطبوا بين يديه للوفود.

وكان أبو علي القالي البغدادي ضيف أمير المؤمنين وهو أمير الكلام وبحر اللغة، فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم انقطع وبهت ووقف ساكتا، فلما رأى ذلك الشيخ منذر بن سعيد([1]) قام قائماً بدرجة من مرقاة أبي علي ووصل افتتاحه بكلام عجيب، بهر العقول، وملأ الأسماع، حيث قال: أما بعد حمد الله والثناء عليه، والتعداد لآلائه والشكر لنعمائه، والسلام على محمد صفيه وخاتم أنبيائه، فإن لكل حادثة مقاماً ولكل مقام مقالاً، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأصغوا إلي معشر الملأ بأسماعكم، والقنوا عني بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت، وإن الجليل تعالى في سمائه وتقدس بصفاته وأسمائه، أمر كليمه موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه أن يذكر قومه بأيام الله جل وعز عندهم، وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وإني أذكركم بأيام الله عندكم، وتلاقيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمّت شعثكم، وأمّنت سربكم، ورفت فَرَقَكُم بعد أن كنتم قليلاً فكثّركم، ومستضعفين فقوّاكم، ومستذلّين فنصركم.
ولاه الله رعايتكم، وأسند إليه إمامتكم، أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم شعل النفاق، حتى صرتم في مثل حدقة البعير من ضيق الحال، ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء، وانتقلتم بيمن سياسته إلى كنف العافية بعد استيطان البلاء، أنشدكم الله معاشر الملأ، ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها، والسبل مخوفة فأمنها، والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها، ألم تكن البلاد خراباً فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها، فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته... الخ تلك الخطبة الطويلة الرائعة.
فصلَّب العلج، وغلب على قلبه، وقال: هذا كبير القوم وكبش الكتيبة، وكان الناصر أشد تعجباً منهم، فسأل ابنه الحكم عنه فقال: هذا منذر بن سعيد البلوطي. فقال: والله لقد أحسن ما شاء، ولئن أخّرني الله بعد لأرفعن من ذكره، فضع يدك يا حكم عليه، واستخلصه وذكرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه، ثم ولاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع في الزهراء.
ولما توفي محمد بن أبي عيسى ولاه قضاء الجماعة بقرطبة وأقره على الصلاة بالزهراء.
ولما بنى أمير المؤمنين على بعض سطوح الزهراء قبة بالذهب والفضة وجلس فيها ودخل عليه الأعيان، فجاء منذر بن سعيد فقال له الخليفة كما قال لمن قبله: هل رأيت أو سمعت أن أحداً من الخلفاء قبلي فعل مثل هذا ؟ فأقبلت دموع القاضي تتحدر، ثم قال قوله تعالى:) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( والله ما ظننت يا أمير المؤمنين أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ أن أنزلك منازل الكفار. قال لم؟.
فقال: قال الله عز وجل: ) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(.
فنكس الناصر رأسه طويلا ثم قال: جزاك الله عنا خيراً وعن المسلمين، الذي قلت هو الحق. وأمر بنقض القبة.
من ( نفح الطيب 1 / 372 )
( سير أعلام النبلاء 16 / 176 )



[1] - منذر بن سعيد البلوطي، أبو الحكم الأندلسي قاضي الجماعة بقرطبة، كان فقيها محققا، خطيبا بليغا مفوها، من تصانيفه " الإنباه على الأحكام من كتاب الله " وكتاب " الإبانة عن حقائق أصول الديانة" كان يميل إلى رأي داود بن علي في الفقه، لم يؤثر عنه أنه مال أو أخطأ في الحكم في قضية. عرف بالورع. استسقى لقومه مرارا فأجاب الله دعوته في كل مرة، فلا ينصرف من الاستسقاء حتى ينزل الغيث العظيم. ولد عام  265 هـ وتوفاه الله سنة 355 هـ رحمه الله تعالى.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites

 
x

أحصل على أخر مواضيع المدونة عبر البريد الإلكتروني - الخدمة مجانية

أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا:

هام : سنرسل لك رسالة بريدية فور تسجيلك. المرجوا التأكد من بريدك و الضغط على الرابط الأزرق لتفعيل إشتراكك معنا.