دراسات حول سوريا (12)
رضوان محمود نموس
ثالثاً: الإدارة العثمانية والمداخلات الأجنبية
كثر التدخل الأجنبي في الدولة العثمانية في القرنين الثامن والتاسع عشر بواسطة المستأمنين والقناصل، وفيما يلي عرض لهذه المداخلات في شؤون الدولة بشكل عام وفي ولاية سورية بشكل خاص:
1- المستأمنون: وهم التجار الأجانب من غير المسلمين الذين سمح لهم بالإقامة في الإمبراطورية العثمانية واعترفت الدولة بهم كطوائف أو ملل مستقلة تطبق شرائعها الخاصة، وكانوا معفيين من الجمارك والضرائب ولهم امتيازات واسعة ويتحاكمون إلى قناصلهم وليس إلى محاكم الدولة ([1])
على أن الامتيازات الأجنبية اتخذت شكلاً خاصاً بها بعد توقيع اتفاقية تجارة وصداقة بين الإمبراطورية ودولة فرنسا والتي أبرمت في سنة 942هـ الموافق أوائل شهر فبراير 1535م بين السلطان سليمان القانوني (520- 1566م) وفرنسوا الأول ملك فرنسا، وقد صيغت في ستة عشر بنداً، وقد مرت معنا سابقاً وتم الاتفاق بموجبها بين الباب العالي وسفير فرنسا على منع بعض الامتيازات كالحرية الدينية للرعايا الفرنسيين وبعض التسهيلات التجارية لرعايا ملك فرنسا([2]) النازلين في أراضي الإمبراطورية، وبذلك أصبحت فرنسا الدولة الأوروبية الوحيدة الحائزة على مثل هذه الامتيازات([3]).
وعندما شكلت شركة الليفانت الإنجليزية في 11 سبتمبر 1581م، استفادت من الامتيازات التي حصلت عليها من إنجلترا من الدولة العثمانية، وقد قوت هذه الشركة العلاقات التجارية الإنجليزية – العثمانية، ومما يجدر ذكره أن قناصل ودبلوماسي إنجلترا كانوا من موظفيها([4])
ولم يقتصر منح الامتيازات الأجنبية في بلاد الشام على السلاطين العثمانيين بل نرى أميراً محلياً كفخر الدين المعنى ([5]) يمنح الفرنسيين والفلورنسيين أراضي لإعمار خانات لهم في صيدا ويسمح للمبشرين الكبوشيين بدخول منطقة الشوف وإقامة أديرة لهم.
ولم يكن لهذه الامتيازات من خطر على الدولة عندما كانت قوية ولكن الأجانب أساءوا استعمال الامتيازات عندما أصبحت الدولة ضعيفة في القرن الثامن والتاسع عشر، فأخذ القناصل يستعلون على الولاة والموظفين، بل أصبحوا يتوسطون لعزلهم لدى الباب العالي وينجحون في ذلك ([6]) بعد أن كانوا يدارونهم من أجل قضاء مصالحهم.
ورزحت الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر تحت وطأة الامتيازات، وغدت القنصليات الأجنبية في ولايات الدولة أوكاراً للدسائس والفتن بل أشبه بالمفوض السامي.
2- القناصل: بقيت مدينة دمشق في منأى عن المداخلات الأجنبية حتى أوائل العقد الرابع من القرن التاسع عشر عندما سمح إبراهيم باشا في سنة 1833م لقنصل إنجلترا بالدخول إلى دمشق([7])، رغم أنف الدمشقيين، الذين كانوا يرون أن لبلدهم قدسية يجب أن لا يدنسها الأجانب، ويبدو أن الدافع الحقيقي لذلك هو خوف التجار الدمشقيين من أن يفلت زمام التجارة من أيديهم وينتقل إلى أيدي التجار الأجانب.
وبعد دخول القنصل الإنجليزي إلى دمشق ([8]) تتابع دخول قناصل الدول الأوربية الأخرى، فوجد في دمشق في سنة 1305هـ/1887م قناصل أو وكلاء قناصل لكل من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا والنمسا وألمانيا وأمريكا وهولندا واليونان والبرتغال([9]).
وسبب هؤلاء القناصل لإدارة الولاية ارتباكا عن طريق بث الدسائس بين الحكم والطوائف ([10])، ولعب القناصل الأوربيون دوراً هاماً في حياة ولاية سورية السياسية وذلك ضمن مخطط شامل على مستوى الدولة العثمانية، فانحاز كل قنصل من قناصل الدول الكبرى إلى طائفة من السكان يدافع عن مصالحها مقابل اعتراف الطائفة بفضل القنصل عليها وولائها لدولته.
وهكذا سبب القناصل الأجانب حرجاً شديداً لولاة دمشق بسبب مداخلاتهم واتصالاتهم بالسكان وإثارة الدسائس والإحن فيما بينهم، فمثلاً عندما التزمت فرنسا جانب محمد علي 1831- 1839م قامت بدعاية له ضد الدولة العثمانية، أما إنجلترا التي التزمت جانب الباب العالي فقد قامت بدعاية قوية للدولة العثمانية ضد محمد علي، وكان من الطبيعي أن تجد دعايات فرنسا ودسائسها أرضاً خصبة بين الموارنة، وأن تجد إنجلترا ودسائسها أرضاً مماثلة في الدروز، لذلك ساعد الموارنة محمد علي بينما ثار الدروز ضده، وهكذا انتقل النزاع القائم بين فرنسا وإنجلترا إلى نزاع بين الدروز والموارنة ([11])، وكان لذلك أثر كبير في حوادث 1860م.
ولم تنقطع مداخلات الأجانب في شؤون ولاية سورية حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، إذ لم تخل تقارير ولاة دمشق من الشكوى والتذمر من تصرفات القناصل الأجانب.
أ- تعيين القناصل: عندما كانت الدول الأجنبية ترغب في تعيين قناصل أو وكلاء قناصل لها في ولايات الدولة العثمانية كانت سفارات هذه الدول في الآستانة تكتب رسمياً إلى نظارة الخارجية العثمانية وتقدم ترجمة قصيرة عن حياة القنصل والأعمال التي قام بها، ثم ترفع لنظارة الخارجية طلب السفارة إلى الباب العالي مقترحة الموافقة على تعيين القنصل ويوافق الصدر الأعظم على اقتراح نظارة الخارجية، وتصدر بعد ذلك إدارة السلطان بالموافقة على تعيين ذلك القنصل ومنحه الامتيازات التي كانت تمنح عادة لغيره من القناصل([12])، فمثلاً جاء في الإرداة السنية التي صدرت لقنصل أسبانيا المقيم في مدينة صور "لرعاية مصالح رجال وتجار دولة إسبانيا"([13]) وجاء في فرمان تعيين وكيل قنصل النمسا "لرؤية مصالح دولة النمسا في الشام"([14]) أما اتصالات القناصل مع والي سورية فكانت تتم بواسطة مدير الأمور الأجنبية.
ثم أصدرت الدولة العثمانية في 22/ صفر/ 1280هـ/1863م نظام الإدارة الخارجية وصيغ في ثلاثة عشر بنداً وملحقاً، واستهدف تنظيم استخدام الموظفين من رعايا الدولة الذين يعملون في السلك القنصلي الأجنبي، وبموجب هذا النظام سمحت الدولة للقنصليات الأجنبية باستخدام عدد معين من رعايا الدولة فإذا كان رئيس القنصلية الموجودة في مركز الولاية برتبة "قنصل عام" فيحق له استخدام أربعة مترجمين وأربعة مرافقين.
أما القنصليات الفرعية في مراكز الألوية فيحق لها استخدام ثلاثة مترجمين ومثلهم من المرافقين، وحدد لوكيل القنصل مترجمان ومرافقان.
ونص النظام على وجوب الحصول على إرادة سنية من السلطان في حالة رغبة القنصلية تعيين ترجمان ذي امتياز، ويكون ذلك عن طريق سفارة القنصلية في استانبول.
وعرف النظام مفهوم الحماية الذي يتمتع به مستخدمو القنصليات على النحو التالي: "إن حماية مستخدمي القنصليات الممتازين تنحصر بأشخاصهم، وتتعلق بمأمورياتهم وتزول الحماية عند انفصالهم من الخدمة أو وفاتهم، ولا تلحق في مدة حياتهم بأقاربهم ولا تنقل إلى ورثتهم بعد وفاته، وهؤلاء المستخدمون الممتازون (المتمتعون بالامتيازات الأجنبية) يستفيدون من جميع المعافيات التي تمنحهم إياها العهود القديمة لكن أملاكهم تدفع والويركو ولا يعافون من الخدمة العسكرية بالذات، أو بالبدل، ومع هذا فخدمتهم خمس سنوات أيضاً عند القناصل تحسب لمدة خدمتهم العسكرية وكل الذين يدخلون في المستقبل من المستخدمين المذكورين بسلك الرديف وهم موجودون في خدمة القناصل لا يؤخذون من خدمتهم عند جلب الرديف([15]).
وحذر النظام من استخدام رعايا الدولة في القنصليات الأجنبية بوظيفة وكيل أو مأمور قنصل إلا في الحالات الاضطرارية([16]) التي تستوجب ذلك على أن يتم التعيين بعد المخابرة مع الباب العالي بواسطة سفارة القنصلية في استانبول وأن يبادر لتغيير هذا المأمور فور زوال الظروف الاستثنائية التي أوجبت تعيينه، كما نص النظام على وجوب حصول القناصل أو وكلائهم على براءة سلطانية قبل أن يمارس أحدهم عمله.
وقد سبب استخدام رعايا الدولة العثمانية في القنصليات الأجنبية ازدواجاً في الولاء بالنسبة للموظفين الوطنيين إذ كان لا يمكن لهؤلاء الموظفين التخلي عن الجنسية العثمانية وبالتالي عن الواجبات المفروضة عليهم (وهم لا يكونون خالين من صفة تابعية السلطنة ولا بوقت من الأوقات) وفي الوقت نفسه نص القانون على أن (المصالح الأجنبية المودعة في يد الموظف هي فقط التي تستفيد من حماية الدولة الأجنبية)([17]).
ومنع النظام قناصل الدول الأجنبية وموظفي قنصلياتها من بسط حمايتهم على دكاكين الرعايا العثمانيين أو أصحابها بأي وسيلة كانت، وأوضح النظام أن اشتغال الأهالي والذين هم تحت الحماية المؤقتة في القنصليات الأجنبية([18]) لا يعني منحهم امتيازاً على غيرهم لأن الحماية هي شخصية محضة ومحصورة في خدمتهم فقط، وأصدرت الدولة في 15/ تموز – يوليو/ 1285 مالية – 1869م نظاماً يتضمن إعفاء جميع أشياء القناصل ووكلائهم الذين لا يتعاطون التجارة من رسوم الجمارك وإعفاء جزء من أشياء القناصل العامين الذين يتعاطون التجارة بقيمة خمسة وعشرين ألف قرش سنوياً، وعشرين ألف قرش بالنسبة للقناصل، وخمسة عشر ألف قرش بالنسبة لوكلاء القناصل([19]).
وكان بعض قناصل الدولة الأجنبية في بيروت ثم وكلاء القناصل ومعظم المترجمين في ما بعد من أبناء البلاد المسيحيين لا سيما الموارنة فمثلاً شغلت أسرة الخازن منصب قنصل فرنسا في بيروت نحو مائة عام، وبقيت أسرة الخازن على ولائها لفرنسا، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى أعدم جمال باشا الشيخين فيليب وفريد الخازن، وكان الأول مترجماً بالقنصلية العامة لفرنسا في بيروت، وخدم الثاني فرنسا على صفحات الجرائد([20]): وفي دمشق عين فارس الخوري سنة 1902م مترجماً في القنصلية الإنجليزية([21]).
ب- علاقة القناصل بولاة دمشق: كانت القنصليات الأجنبية في ولاية سوريا أوكار دس وتآمر على الحكم العثماني والعمل على إثارة الاضطرابات عن طريق تحريض الطوائف على الثورة والعصيان، والوقوف إلى جانبها بل ساعدتها على ذلك مع بث الشائعات التي كانت تقلق بال الولاة فينصرفون عن إدارة شؤون الولاية.
ولا يخلو تقرير من تقارير ولاة دمشق- التي اعتادوا أن يرفعوها إلى الباب العالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر- من شكوى مريرة من دسائس القناصل الأجانب، وبالرغم من أن رجال الدولة في الولاية وفي استانبول كانوا يدركون نوايا القناصل الأجانب في استغلال الحركات الداخلية لصالح دولهم، إلا أنهم كانوا لا يجدون حلاً لدسائس القنصليات سوى أن يغمضوا أعينهم عما يجري أو يتصرفوا بحذر بالغ كي لا يصطدم الولاة مع القناصل فيكون الباب مفتوحاً أمام المداخلات الأجنبية الاستعمارية، ولم تكن علاقة ولاة دمشق مع قناصل الدول الكبرى حسنة بصفة عامة، ومن ذلك تدخل قنصل إنجلترا الذي دخل دمشق في عهد الإدارة المصرية في شؤون الولاية فور عودة العثمانيين إلى سوريا وظهر نفوذه جلياً عندما تمكن من عزل الوالي العثماني علو باشا 1840م قبل أن يمضي شهر واحد على ولايته إذ كتب إلى الأستانة: "بأن هذا الوزير ليس هو خرج حكم بل خرج دروشة فأرسلوا عزلوه"([22])
ويتبين من هذه الحادثة مدى النفوذ الذي أحرزه قناصل بريطانيا في الدولة العثمانية نظير مساهمة بريطانيا في طرد محمد علي من سوريا([23])، وعندما وفق قنصل بريطانيا في عزل علو باشا أخذ يسعى لعزل خلفه الوالي نجيب باشا "1840 – 1841م" والذي لم يمكث في ولايته أكثر من عام واحد فأخذ القنصل الإنجليزي يدس للوالي ويبث الشائعات ضده الأمر الذي دفع بالوالي نجيب باشا لأن يستكتب كبار موظفي الولاية عرائض يدحض بها افتراءات القنصل ويكذب شائعاته، فبعث الوالي والدفتردار بتقرير مشترك إلى الصدر الأعظم اتهما فيه القنصل الإنجليزي بمحاولة إيقاظ الفتنة في سوريا([24]) كما كتب قاضي دمشق عريضة مماثلة إلى السلطان دحض بها افتراءات القنصل وكذب ما ورد في تقاريره عن الوالي والتي تتلخص بان الوالي "نجيب باشا" يصادر أموال الأهالي ويتدخل بأزياء النصارى، وختم عريضته بأن الوالي "لا يعرقل التنظيمات الخيرية ولا يقبل الهدايا وهو سالك وفق التنظيمات الخيرية سلوكاً مرضياً"([25])
وعلى أثر ذلك كتبت الدولة إلى قنصل بريطانيا في بيروت بمضمون شكوى والي سوريا من تصرفات القنصل الإنجليزي في دمشق ووصف ذلك "بأنه يتنافى وأصول المعاملات الإدارية ومراعاة الوفاق الخالص بين الدولتين"([26])
ويتبين من تقارير والي سوريا أنه قد ضاق ذرعاً باتهامات القنصل وبتدخله في شؤون الولاية مما اضطره إلى الدفاع عن نفسه، فكتب التقارير المضادة إلى استانبول متهماً القنصل وموظفي القنصلية الإنجليزية في دمشق بالإيقاع بين طوائف السكان، وساعده في كتابة التقارير والي صيدا "سليم باشا" الذي شكا بدوره من تدخل القنصل الإنجليزي في بيروت في شؤون إيالة صيدا([27]) وهكذا أمضى الوالي نجيب باشا عاماً كاملاً في نزاع مستمر مع القنصل الإنجليزي، ونتيجة النزاع عزل الوالي في نهاية العام ولم تتجدد ولايته.
وشكا والي سوريا عبد اللطيف صبحي باشا "1871م" من أن الدروز قد يتجهون بأنظارهم نحو الإنجليز وأوجدوا الصلة مع إنجلترا الأمر الذي أوقع الإدارة المحلية في مشاكل، كما شكا أيضاً من مداخلات قنصل إيطاليا في دمشق، واتهمه بإثارة المتاعب أمام الحكومة المحلية، ويسرد الوالي في تقرير رفعه إلى الباب العالي مخالفات القنصل الإيطالي ومحاولاته للتدخل في شؤون طائفة الأرمن السريان واعتدائه على أحد رجال الدين المنتمين لها([28])، أما علاقة ولاة دمشق بقناصل ألمانيا في دمشق فكانت ودية لعدم ظهور أطماع لألمانيا في الدولة العثمانية وعزز هذه العلاقة زيارة ولي عهد بروسيا لدمشق ومنحه الوالي أحمد حمدي باشا وسام التاج البروسي من الدرجة الأولى، كما منح عدداً من موظفي الولاية أوسمة مماثلة([29]).
وحرصاً على استمرار العلاقات الطيبة مع ألمانيا نقلت الولاية قائمقام حيفا لحصول سوء تفاهم بينه وبين سكان المستعمرات([30]) الألمانية في قضاء حيفا، وعينت قائمقاماً آخر ذا خبرة ودراية كي يقوم بتحصيل الضرائب منهم([31]).
وبلغ نفوذ قنصل ألمانيا أوجه بعد زيارة إمبراطور ألمانيا لدمشق في سنة 1898م حيث أقيمت له احتفالات فخمة([32])، وألقى الإمبراطور خطاباً في دار بلدية دمشق، شكر فيه السلطان عبد الحميد الثاني الذي يتمتع بتأييد جميع المسلمين في العالم، وقال: بأن السلطان سيبقى قبلة تقديس واحترام لأكثر من ثلاثمائة مليون مسلم، وأعرب عن محبته الخالصة للسلطان([33]).
واستمرت العلاقات الطيبة بين ألمانيا والدولة العثمانية وكان في ولاية سورية بعثة علمية للتنقيب عن الآثار، وقعت الدولة معها اتفاقية منحت البعثة بموجبها امتيازاً للحفر والتنقيب لمدة سنة واحدة([34])، ورغم حرص الدولة على آثار البلاد -لا سيما الآثار الإسلامية -فقد تسربت الآثار إلى الخارج([35])
ولما كانت الدولة تحرص على عدم إثارة متاعب مع الدول الأوربية لذلك كانت تطلب من ولاتها أن يعاملوا قناصل الدول الأجنبية معاملة ودية، ولذلك تمتع قناصل الدول الكبرى لا سيما قناصل إنجلترا بنفوذ كبير في دمشق بشكل خاص، وفي الدولة العثمانية بشكل عام.
ولكن بالرغم من سياسة التودد واللين التي اتبعتها الدولة مع سفراء وقناصل الدول الأجنبية فقد كانت حوادث 1860م فرصة ثمينة للتدخل الأجنبي ليس على الصعيد السياسي بل على النطاق العسكري فأنزلت فرنسا قواتها في بيروت، بحجة إنقاذ مسيحيي لبنان ومنحهم الضمان والتأييد من الدول الأوربية، وكانت فرنسا تستهدف احتلال لبنان نهائياً لولا اختلاف الدول الأوربية الذي كان رحمة للدولة العثمانية ولما وافقت الدول الأوربية على تمديد إقامة القوات الفرنسية في لبنان اضطر السلطان للموافقة على ذلك([36]).
وبالرغم من أن الوثائق العثمانية تتحدث بأن الموارنة كانوا هم البادئين في قتال الدروز وتشير الوثائق أيضاً إلى أن النزاع بين الموارنة والدروز لا يمت إلى الدين بصلة، وإنما يعود في جذوره إلى العصبيات الإقطاعية([37])، ومع ذلك فقد حرصت الدولة العثمانية على إرضاء الدول الأوربية، ومنح السلطان فؤاد باشا سلطات مطلقة فوق العادة، وشكل مجلساً عرفياً أصدر أحكام الإعدام على عدد من العسكريين والمدنيين ، كان على رأسهم المشير أحمد آغا والي دمشق([38]).
ولما بدأت الدولة تعمل على حل المشكلة واجهت دسائس جديدة إذ حرضت الدول الأجنبية أهالي حاصبيا وراشيا على عدم العودة إلى منازلهم، ولما هددت الدولة بالاستيلاء على أملاكهم والتعويض عليهم بأراضٍ في قضاء صيدا بدلاً من أملاكهم، قبل هؤلاء العودة([39]).
ولولا أن وقفت بريطانيا إلى جانب الدولة العثمانية في حوادث 1860م حيث نسقت الدولتان جهودهما لما استطاعت الدولة العثمانية إرغام الفرنسيين على الجلاء عن جبل لبنان([40]).
وتنبهت الدولة العثمانية لأطماع فرنسا في ولاية سوريا وفي جبل لبنان بشكل خاص، ولفت انتباهها نشاط المبشرين الفرنسيين في مدينة بيروت والمدن السورية الأخرى، حيث أخذوا يقومون بإنشاء مدارس منظمة يستميلون بواسطتها أبناء الطوائف المسيحية، كما لاحظت الدولة اهتمام قنصل فرنسا في فرض نفوذ بلاده في منطقة بيروت، مما دفع الدولة إلى فصل بيروت عن ولاية سوريا في سنة 1887م لتشكل ولاية جديدة، وربطتها مباشرة باستانبول ليسهل عليها مراقبة نشاط القناصل الأجانب فيها، وللحد من مداخلاتهم([41]).
وبعد ازدياد مصالح فرنسا في ولاية سوريا وحصولها على كثير من الامتيازات المتعلقة بالمشاريع الاقتصادية مثل شركة الخطوط الحديدة في الشام وحلب، ودمشق –حوران، وشركة مرفأ بيروت وغيرها، أصبح الباب العالي يتوقع من القنصل الفرنسي في دمشق مداخلات وشكايات جديدة([42]).
[1] - إن منشأ الامتيازات الأجنبية في الشرق يعود إلى ما قبل الدولة العثمانية إذ كان موجوداً وطبقت مبادئه بالشكل الذي عرف في الدولة العثمانية في الدولة البيزنطية وكل ما فعله العثمانيون هو اعترافهم بالمؤسسات العامة التي كانت موجودة في ذلك الحين، كما تضافرت عوامل كثيرة في منح هذه الامتيازات للأوربيين منها دافع المصلحة الاقتصادية لتحقيق فوائد تجارية وتوطيد العلاقات الاقتصادية مع الدول الأوروبية كما كان لوجود الامتيازات قبل العثمانيين أثر كبير دفع بالعثمانيين لقبولها لأن هذا ينسجم مع سياسة العثمانيين وهي المحافظة على ما كان قائماً أو موجوداً.
هذا وقد تضاربت الآراء في منشأ الامتيازات الأجنبية في الإمبراطورية، فالبعض يؤيد الفكرة القائلة بأن الإسلام كان سبباً لمنشأ الامتيازات بحكم قبوله تطبيق القانون الشخصي (نظام شخصية القوانين) والبعض الآخر يرى أن منشأ نظام الامتيازات يرجع إلى عدم قابلية الأتراك للمحافظة على حقوق رعايا الدول المسيحية، وهذا ما حمل الدول الأجنبية على أن تحافظ على حقوق رعاياها المسيحيين بتأسيس نظام الامتيازات.
والخلاصة أن منشأ الامتيازات يرجع إلى عهد المسيحيين إذ طبق في الدولة البيزنطية، وأن الدين الإسلامي لم يكن سبباً في تأسيسي الامتيازات في الدولة العثمانية وإن كان لا بد من الاعتراف بأن اختلا ف الأديان قد شجع على نمو النظام وبقائه في الإمبراطورية العثمانية بينما كان قد ألغي في بقية الدول المسيحية الغربية. للمزيد من التفاصيل انظر نسيم سوسة: التعليل التاريخي لمنشأ الامتيازات الأجنبية الخاصة في الإمبراطورية العثمانية.
[3] - محمد فريد تاريخ الدولة العلية العثمانية ص: 91, 94.
[5] - بولس مسعد، دليل لبنان وسوريا، ج1/ ص: 383.
[6] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 2580 تاريخ: 7/ جمادي الآخرة/ 1257هـ.
[7] - مذكرات تاريخية: (لمؤلف مجهول، أحد كتاب الحكومة الدمشقيين) ص: 93- 95، يصف المؤرخ المجهول دخول قنصل إنجلترا إلى دمشق على النحو التالي: (نهار الجمعة بعد الصلاة بواحد وعشرين رمضان 1249 وكان ترتيب دخوله بأن خرج لملاقاته عمر بيك أمير اللواء وانتظره في مقر عبد الرزاق باشا الذي بالمرجة، وصحبه ألف عسكري نظامي، وعندما وصلوا به إلى بيته في باب توما حالاً رفعوا له البنديرا –العلم- فوق باب البيت على رأس السطوح وثاني يوم وضع فوق باب البيت نيشان -شعار- المملكة مصور فها تاج الملك وحصان وسبع، وكان يوجد قدام بيته على مدة سبعة ثمانية أيام مثل فرجة . فوق بعضها بعض، ويعلق ناشر المذكرات قسطنطين الباشا الخلصي على دخول القنصل الإنجليزي بهذه الأبهة الفائقة بقوله: أن هذا الاستقبال لأول قنصل إنجليزي عام دخل إلى دمشق بعد أن لبث في بيروت أربع سنين ممنوعاً من الدخول إليها، إذ كانت التقاليد القديمة في هذه المدينة لا تسمح أن يركب النصراني جواداً ولا سيما إذا كان غير ذمي أو إفرنجي، لكن سطوة إبراهيم باشا وكرامة دولة الإنجليز عنده بعد معاهدة كوتاهية وطول أناة رجال سياستها اقتضت دخول القنصل (فارون) إلى مدينة دمشق بهذه الأبهة الزائدة التي لا نزال نعهدها إلى اليوم في الإنكليز بالشرق) انظر مذكرات تاريخية -هامش- ص: 94، وانظر كذلك: الأمر الذي أصدره محمد علي بتاريخ 11/ جماد الأولى/ 1249هـ لاستقبال القنصل البريطاني (فارون) وإجراء مراسيم خاصة وبتكليف الضباط والحكام بمساعدته وأداء واجب التعظيم له، أسد رستم: بيان بوثائق الشام، مجلد2/ ص: 358.
[8] - كان لفرنسا في دمشق قبل أن يستولي عليها إبراهيم باشا وكيل قنصل. انظر: مذكرات تاريخية لمؤلف مجهول أحد كتاب الحكومة الدمشقيين ص: 187.
[9] - سالنامة ولاية سورية، دفعة 21/ ص: 68.
[10] - أثار القنصل البريطاني متاعب للحكم المصري فقد اعتدى أتباعه على الفلاحين كما وقعت مشادة بين القنصل ومحمد شريف باشا حكم دار الشام، وأثار القناصل الأجانب في بيروت مشاكل أخرى. انظر: أسد رستم: بيان لوثائق الشام، مجلد3/ ص: 20 – 21، 273، 274.
[11] - ساطع الحصري: يوم ميسلون، ص: 36.
[12] - أرشيف استانبول: خارجية، وثيقة رقم: 14934 تاريخ: 11/ جمادي الأولى/ 1288هـ.
[13] - أرشيف استانبول: خارجية، وثيقة رقم: 13484 تاريخ: 11/ شوال/ 1284هـ.
[14] - أرشيف استانبول: خارجية، وثيقة رقم: 14298 تاريخ: 9/ رمضان/ 1286هـ.
[15] - انظر البند الخامس من نظام الإدارة الخارجية في الدستور مجلد 1/ ص: 527- 528.
[16] - فسرت الحالة الاضطرارية بأنها الحالة المجبرة الناشئة عن المعاملات التجارية والتي تستوجب تعيين وكيل قنصل في محل لا يمكن به تسليم مأمورية كهذه إلا لشخص من تبعة الدولة العلية وبعد انفصال وكيل القنص المحلي لا يستطيع أن يطلب حماية الدولة التي في خدمتها.
[17] - انظر البندين الثامن والتاسع من نظام الإدارة الخارجية في الدستور، مجلد1/ ص: 528-529.
[18] - اعتاد القناصل الأجانب على فرض حمايتهم على الأهالي الذين يطلبونها فمثلاً رفع قنصل الإنكليز في بيروت إلى محافظ المدينة قائمة بأسماء بعض الأشخاص الذين يرغبون في الدخول تحت حماية دولة الإنكليز وكانت هذه القائمة تضم مسيحيين ومسلمين. انظر: أسد رستم: الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا، مجلد 5/ ص: 58- 59.
[19] - الدستور: مجلد2/ ص: 551- 553.
[20] - كانت فرنسا قد خصصت في سنة 1700م اثنتا عشرة منحة دراسية لأطفال من أبناء الطوائف المسيحية الشرقية يتعلمون في "كوليج لوى لجران" لينشأوا على المذهب الكاثوليكي والثقافة الفرنسية, ثم ليكون منهم بعد ذلك المترجمون في القنصليات الفرنسية بالشرق، ولكن التجربة فشلت فاتبعت وسيلة أخرى، وهي إعداد شبان من الفرنسيين لهذا الغرض في " كوليج لوى لجران" ثم مدرسة اللغات الشرقية بباريس، انظر أحمد عزت عبد الكريم: العلاقات بين الشرق العربي وأوربا بين القرنين السادس والتاسع عشر (الفصل الثالث من كتاب دراسات تاريخية في النهضة العربية الحديثة) ص: 249.
[21] - محمد الفرحاني: فارس الخوري وأيام لا تنسى، ص: 34.
[22] - مذكرات تاريخية: (لمؤلف مجهول، أحد كتاب الحكومة الدمشقيين) ص: 240.
[23] - اتفقت بريطانيا والنمسا وروسيا وبروسيا مع الدولة العثمانية على إعادة سوريا إلى السلطان، انظر: أسد رستم: الأصول العربية بتاريخ سورية في عهد محمد علي مجلد5/ ص: 166- 170.
[24] -: أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 2580 تاريخ: 7/ جماد الآخرة/ 1257هـ.
[25] - : أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 2580 تاريخ: 7/ جماد الآخرة/ 1257هـ.
[27] - بلغت التقارير التي رفعها الوالي إلى استانبول أكثر من عشرين تقريراً تدور كلها حول موضوع خلافه مع القنصل الإنجليزي، انظر: أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 2058 تاريخ: 25/ رجب/ 1257هـ.
[28] أرشيف استانبول: مجلس مخصوص، وثيقة رقم: 1751 تاريخ: 23/ ذو الحجة/ 1288هـ.
[29] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 66094.
[30] - كان في فلسطين مستعمرات زراعية ألمانية صغيرة على غرار مستعمرات اليهود تشبه القرى.
[31] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 62297.
[32] - أرشيف استانبول: يلديز سراي مشير شاكر باشا أوراقي، رقم: 274- 31 تاريخ: 8ت 2 (1314) مالية.
[33] - أرشيف استانبول: خصوصي إيرادات، وثيقة رقم: 629 تاريخ: 20/ شعبان/ 1316هـ.
وجريدة أقدام السنة الخامسة العدد 1585 تاريخ 28/ تشرين الثاني – نوفمبر/ 1898م
[34] - أرشيف استانبول: خارجية، وثيقة رقم: 15665 تاريخ: 10/ جماد الأولى / 1290هـ.
[35] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 551 تاريخ: 17/ ربيع الأول/ 1321هـ.
[36] - أرشيف استانبول: خارجية، وثيقة رقم: 10286 تاريخ: 6/ شوال/ 1277هـ.
[37] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 32349 تاريخ: جماد الأولى/ 1278هـ.
[38] - فيليب وفريد الخازن: مجموعة المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سوريا ولبنان، مجلد 2/ ص: 335، 357- 358.
[39] - أرشيف استانبول: داخلية، وثيقة رقم: 32349 تاريخ: جماد الأولى/ 1278هـ.
[40] - تمثلت سياسة بريطانيا بالقرن التاسع عشر بإبعاد التأثير الروسي والفرنسي عن الدولة العثمانية ومنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، من أجل ذلك وقفت بريطانيا وروسيا إلى جانب الدولة العثمانية ضد فرنسا في قضية محمد علي 1839م. ثم وقفت بريطانيا وفرنسا إلى جانب الدولة العثمانية في وجه المطامع الروسية أثناء حرب القرم 1854 إلى 1856م. ثم اتفقت روسيا وفرنسا ضد بريطانيا أثنا احتلال الأخير لمصر 1882م.
[41] - أرشيف استانبول: مجلس مخصوص، وثيقة رقم: 4011 تاريخ: 6/ ربيع الآخر/ 1305هـ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق