أرواد ومجتهدون أم فسقة وضالون؟! (63)
من ضلالات محمد عبده
رضوان محمود نموس
نتكلم في هذه الحلقة عن محاولة محمد عمارة تحديد الأسوة والقدوة والرواد للصحوة الإسلامية بل والأمة ويقدم هؤلاء على أنهم هم الرواد في الوقت الذي يحاول إهالة النسيان والجحود على جهود العلماء والرواد الحقيقيين ويصر على تشويه حقائق الإسلام بالباطل, والرائد الرابع من الناحية التاريخية وهو الثاني والأهم من ناحية التأثير هو محمد عبده. عمارة هذا الذي وصفه القرضاوي:[بأنه أحد مجددي هذا القرن وأحد الذين هيأهم الله لنصرة الدين الإسلامي من خلال إجادته استخدام منهج التجديد والوسطية.] حسب ما نشر موقع الجزيرة وغيره من المواقع المصدر: (الجزيرة نت) 3/11/2010
المبحث العاشر العلمانية والوطنية عند محمد عبده
لئن كان رفاعة الطهطاوي أول من أتى ببذرة العلمانية الخبيثة من فرنسا وزرعها في مصر؛ فإن محمد عبده تعهدها بالسقاية والعناية وأضاف بذوراً أخرى حتى نمى العوسج والخبث وأصبح طريقاً للضالين ومنتدى للمجرمين من أحفاد قدار.
يقول المستشار سالم البهنساوي:[ لقد طلب الخديوي إسماعيل من رفاعة الطهطاوي وضع كتاب يحث الناس على تعليم المرأة، ثم طلب منه تأليف كتاب في الحقوق والعقوبات الشرعية ليطبق في المحاكم على غرار القوانين الأوربية بعد أن رفض مشايخ الأزهر القيام بهذا العمل، وأوضح الخديوي للطهطاوي أنه أقدر على هذا العمل وأقدر على إقناع شيوخ الأزهر لأنه منهم. لأن أوربا تضطرب إذا هم لم يستجيبوا لحكم شريعة نابليون، فاعتذر الطهطاوي وطلب إقالته حتى لا يتعرض لتكفير مشايخ الأزهر له في آخر حياته، فأقاله الخديوي وحلّ محله الشيخ محمد عبده... لقد كان الشيخ محمد عبده أكثر جرأة في حركة تحرير المرأة، حيث شارك الأميرة نازلي فاضل في بعض الندوات، وكانت تجعل منزلها ديواناً للندوات حيث ذكر الشيخ محمد رشيد رضا أن الشيخ محمد عبده اصطحبه ذات مرة إلى محفلها، فكان من الحضور الشيخ محمد عبده وسعد زغلول باشا وغيرهم، وكانت تتكلم بطلاقة وتحتج عليهم، وقد كان لهذه الأميرة أثر في الشيخ محمد عبده... وبعد تردده على ديوان الأميرة نازلي خفت حملته على إنجلترا، وسمع بالصداقة الشخصية للورد كرومر الذي كان صديقاً للأميرة، مما جعله محلّ نقد بعض الوطنيين وشيوخ الأزهر... وقد كتب الشيخ محمد عبده عن تعليم المرأة وتقييد الطلاق وتقييد تعدد الزوجات، وتناول ذلك في دروس التفسير التي نشرها تلميذه محمد رشيد رضا، وأخذ قاسم أمين عنه ذلك ]([1]).
يقول عنه محمد عمارة تحت عنوان هدم السلطة الدينية: [فيما يتعلق بطبيعة السلطة السياسية في المجتمع، وهل هي سلطة دينية أم مدنية؟؟ وفهم الأستاذ الإمام لموقف الإسلام من هذه القضية.. نلتقي بفكر واضح ومحدد وحاسم يقدمه الشيخ محمد عبده في هذا الموضوع ... فهو يرفض رفضاً قاطعاً أن يكون الدين الإسلامي نصيراً لقيام سلطة دينية في المجتمع بأي وجه من الوجوه وبأي شكل من الأشكال، ويقيم على ذلك الحجج ويقدم لذلك البراهين.
فهو يقول مثلاً : ((إنه ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها أدناهم)).
بل يذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فيرى أن إحدى المهام التي جاء لها الإسلام ونهض بها في المجتمع الذي ظهر فيه، والتي تعتبر أصلاً من أصوله، هي قلب السلطة الدينية واقتلاعها من الجذور، فيقول (( أصل من أصول الإسلام .. قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها. هدم الإسلام بناء تلك السلطة، ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم ، ولم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرة على أيمانه، وعلى أن الرسول عليه السلام كان مبلغاً ومذكراً، لا مهيمناً ولا مسيطراً .. وليس لمسلم، مهما علا كعبة، في الإسلام، على آخر ، مهما انحطت منزلته فيه، إلا حق النصيحة والإرشاد.. فالمسلمون يتناصحون، وهم يقيمون أمة تدعو إلى الخير، وهم المراقبون عليها، يردونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنهن وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار.]([2]).
ويقول عمارة عنه :[ومن هذا الموقع الفكري, ومن هذا الموقف العملي رفض الرجل "المقاطعة" لسلطات الاحتلال, أو إشهار الحرب عليها .. ولقد كانت بالمجتمع المصري يومئذ فئات من المتطلعين إلى ثقافة أوربا وحضارتها يدخلون مع رجالات الإنجليز في علاقات متشعبة طلباً لهذه الثقافة والتماساً لهذه الحضارة, وكانت البورجوازية المصرية الناشئة تسعى لتعلم فن البورجوازية الأوربية في الربح وإدارة المصارف والشركات والمؤسسات, بل كان العمال المصريون الذين يزاملون العمال الأجانب في المصانع والمعامل والورش يسعون لتعلم في عمال أوروبا في الصراع الطبقي وتكوين النقابات (الجمعيات) والقيام بالإضرابات (الاعتصامات) .. أي أن قوى عديدة في المجتمع يومئذ كانت تسعى للأخذ عن الأجانب العديد من الأشياء النافعة والتقدمية .. ومع هذه القوى وقف الأستاذ الإمام فأحل لهم أخذ هذا اللون النافع من "الأفكار" و"الخبرات", وأفتى بأن الاستعانة بالأجانب المخالفين لنا في الدين والجنس, والتعاون معهم في هذا السبيل هو أمر حلال يبيحه الشرع والدين .. فيكتب في فتوى (استعانة المسلمين بالكفار وأهل البدع والأهواء) أن "قد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومصلحة المسلمين..."
.... كما ساعد على مد حبال الآمال هذه أن الرجل كان يعمل أساساً في حقل الإصلاح الديني وكانت له آراؤه في أن الإنجليز أكثر تسامحاً, فيما يتعلق بالعقائد الدينية, من سواهم من المستعمرين, وأن الأمة الإنجليزية "من بين الأمم الأوروبية .. تعرف كيف تحكم من ليس على دينها, وتعرف كيف تحترم عقائد من تسوسهم وعوائدهم .. فهي وحدها الأمة المسيحية التي تقدر على التسامح حق القدرة..]([3])
وعندما قامت دعوات لإعادة الخلافة قال محمد عبده:[الإمام هو القرآن إن المسلمين ليس لهم اليوم إمام إلا القرآن, وإن الكلام في الإمامة مثار فتنة يخشى ضره ولا يرجى نفعه الآن.]([4])
ولما كتب رشيد رضا عن الإمامة عاتبه محمد عبده وألغى المقال جاء في مجلة المنار :[ وفي ضحوة اليوم الثاني ذهب –أي رشيد رضا -إلى زيارة الأستاذ الشيخ محمد عبده في داره بالناصرية، واستشار السيد أستاذه في إنشاء الصحيفة التي يريدها، وشاوره في تسميتها ، وذكر له اسم (المنار) مع أسماء أخرى، فاختار الأستاذ الإمام اسم (المنار) ، ثم شرع السيد في تحريره ، وكتب فاتحة العدد الأول بالقلم الرصاص في جامع الإسماعيلي المجاور لدار الأستاذ بالناصرية ، وكان ذلك في منتصف شوال 1315 هـ وذهب بها إلى داره وعرضها عليه ؛ فأعجب بها كل الإعجاب، ورضي كل ما ذكر فيها من المقاصد والأغراض إلا كلمة واحدة هي تعريف الأمة
بحق الإمام وتعريف الإمام بحق الأمة. فحذف السيد هذه الكلمة عن رأي أستاذه وإشارته]([5]).
قال محمد عبده في مقال بعنوان: [الحياة السياسية: .... فالمرء يوجد ساذجاً فطرياً يلتمس الغذاء والمبيت وسائر الحاجات الطبيعية مما تصل يد إمكانه إليه, ثم يدفعه الحرص على الذات إلى حفظ هذا النوع, وتلجئه كثرة الحاجات إلى طلب الإعانة, فيتألف ويجتمع فيصير مدنياً, ثم يتقدم في هذه المرتبة فينظر في شؤون نفسه ويهتم بأحوال جنسه, فيصير سياسياً, وهو الإنسان المدني الكامل الحقوق.
ولا شك في وصولنا الآن إلى هذه المرتبة العالية, وحصولنا في هذا الدور الخطير, بما أطلق لنا من الحرية وما تقرر لنا من الحقوق السياسية عفواً واختياراً من دون غصب يلزم فيه الرد, ولا تغرير يحتمل النقص, ولكنا لا نزال في دور الطفولية من هذه الحياة, فلا بد لنا من مرب حكيم يأخذ بيدنا فيما نعانيه, فلا نسقط ونحن في أول الدرجات, ومن دليل راشد يهدينا الصواب, فلا نضل ونجن في أول الطريق.
ولا يتوهمن محب الحرية أن الحاجة إلى المربي والدليل منافية لما تقتضيه حريته, أو مشعرة ببقاء الاستبداد, فإن هذه الحاجة قد عرفت وألفت في أظهر البلاد تمدناً وأحرص الأمم على الحرية السياسة, وكانت ولا تزال من لوازم النماء والبقاء في الاجتماع الإنساني, ولم نبرح كذلك ما دام في الأرض علماء وجهلاء وحكماء وسفهاء وخاصة وعامة, وما دام الإنسان محل خطأ ونسيان, ولكن يشترط في المربي والدليل أن يكون ممن اجتمعت الكلمة عليهم وحصلت الثقة بهم, وإلا فهو من ذوي السلطة الناشئة عن القوة في جانبه والخوف أو الوهم في جانب الرعية ليس إلا.
هذا الشرط حاصل لا ريب في أولي الأمر منا, فإن الجناب الخديوي المعظم, أيده الله قد عرف بالرغبة في إصلاح الوطن والميل إلى إعلاء شأن الأمة والحرص على حريتهم, حتى صار يقال وينشر في عهده ما كان يخشى بعضه من قبل. .. أما النظار الكرام فهم هم الذين اختارتهم الأمة بإرادة ذلك الأمير العلي الشأن, ثقة بهم, وعلماً بأنهم أصحاب الرئاسة الحقة والعامة المستحقة بين الذين يرومون إحياء مصر لأهل مصر, ويريدون أن يكون الوطني في مقام الإنسان فائزاً بحقوقه, ناهضاً بواجباته, .... وقد أخذ هؤلاء الأدلاء الراشدون في تمهيد سبيلنا وإزالة العقبات منه, متوسلين إلى ذلك بالحكمة والاعتدال, آخذين بأسباب التؤدة ومراعاة الأحوال, حتى وثق بهم الأجنبي فضلاً عن الوطني, وبدت مقدمات سعيهم وآثار اجتهادهم بمظاهر حسن الإدارة وإقامة العدل وتقرير المساواة وإصلاح الخلل السابق تدريجاً, فاستحكمت علائق الولاء بينهم وبين المتبوع الكريم, وتأيدت صلات الموالاة بين حكومتهم والدول العظام كما تدل عليه أقوال وزرائها على منابر المجالس وكلام وكلائها في دوائر المخابرات. ... إن هذه الحياة توجب للوطني أن يكون حراً في رأيه, متصرفاً في شأنه إلى حد أن لا يضر بالهيئة المجتمعة, ولا يمس شأن سواه... فإذا حصل هذا الأدب للوطني السياسي, وكان مع ذلك نبيل النفس, طاهر الذيل, صادق النية, قادراً على إيثار المصلحة العمومية, فله حينئذ (حينئذ فقط) ما لسائر أهل الحياة السياسية, وهي حقوق كريمة مقدسة لا ينبغي أن يمسها إلا المطهرون من درء الدنيئات: حرية رأي, وحرية قول, وحرية انتخاب.
ولكل من هذه الحقوق الثلاثة حد, لو تعداها كانت الحرية فيه شراً من القيد وأشنع من العبودية: فحد حرية الرأي أن يكون مبنياً على القياس, موافقاً للحكمة مطابقاً للصواب. وحد حرية القول أن يراد به الخير, ولا يجاوز فيه حد المنفعة والملايمة, ولا يمس شرفاً مصوناً, ولا يضر بريئاً أميناً, ولا ينشر عن غير علم يقين. وحد حرية الانتخاب أن يراد به مصلحة الوطن العزيز ليس إلا.
ولكن مهما بلغت الأمة من مبالغ السياسة وكثر عدد أفرادها المتأدبين بذلك الأدب, فلن يكون لها نماء ولا بقاء في الحياة السياسية ما لم تكن ذات وجهة معلومة, ووحدة لا تقبل النزاع والخلاف, يدل على ذلك تقدم الذين اتحدت وجهتهم, وتأخر الذين تفرقت كلمتهم من قبلنا وفي هذه الأيام.
فإن قيل: ما لنا لا نرى تفرق الأمم الأوربية أقساماً وأحزاباً مانعاً من تزايد ثروتهم وتعاظم قوتهم واستفحال أمرهم في الحياة السياسية؟؟
قلنا: إن أولئك الأمم لا يختلفون عن غايتهم المقصودة بالذات, وإنما تتنوع الطرق التي يسلكونها إلى تلك الغاية, فإن كان الفرنسوي جمهورياً أو ملكياً أو امبراطورياً فهو فرنسوي على كل حال, وقبل كل شأن, وإن كان الألماني محافظاً أو نجاحياً أو اجتماعياً فهو ألماني من وراء ذلك, وهكذا الإنكليزي والإيطالي والنمسوي وسائر أهل المدنية والحياة السياسية.
وما قيدنا الوحدة اللازمة لهذه الحياة بأن لا تقبل النزاع والخلاف إلا احترازاً مما يحسب في الظاهر موضوع ائتلاف واتحاد ولا يكون كذلك في الواقع ونفس الأمر, ومما لا يمكن أن تجتمع كلمة الأمة بجملتها عليه لاختلاف الآراء وتنوع العقائد فيه, فإن هذه الجامعات وإن كانت جديرة بالاعتبار حرية بأن تحفظ وتصان, إلا أنها بعيدة من السياسة لتعلقها بالنظر الفكري وتجردها في الذهن عن المحسوس, فضلاً عن كونها غير واحدة في مجموع الأمة, فالجدير بأهل الحياة السياسية من أي الناس كانوا, أن يجعلوا الوطن وحدتهم, لامتناع الخلاف فيه بين ذويه. ....فإذا كان الوطن هو الوحدة التي تجتمع كلمة الأمة عليها عظم بذلك شأنه المعنوي وتعلقت به المنافع الكلية, وصار المحور الذي تدور عليه المقاصد والمساعي, فيرتفع قده ويعلو مكانه, وإذا ارتفع قدر الوطن فذلك يعود بالشرف والعز على ساكنيه لأنه لا حقيقة له إلا بهم وفيهم, ولا رفعة فيه إلا منهم ولهم, فهم إياه, وهو لفظ وجودهم ومعناه.
فيا أبناء الوطن العزيز, لئن فرق بينكم اختلاف الآراء, وتنوع المشارب وتلون التصورات, قد وجدتم في الجامعة الوطنية ما تألفون به وتجتمعون عليه, فيجعلكم عصبة خير متلاحمة الأطراف, متوازرة متضافرة كالبنيان المرصوص.فهلم إلى هذه الجامعة ننشر لواءها ونرفع منارها, ونظهر للعيان أثرها بأعمال تثبت التنزه عن المقاصد الدنيئة, والتعفف عن المآرب الذاتية, وأقوال تشفي عن صحة الأبصار والبصائر, وحسن الأسرار والسرائر, لعلنا نقطع ألسنة الذين يرموننا بالجهل والغباوة والبعد عن مراتب الحياة السياسية ولعلنا نحقق آمال الذين يتمنون لنا السعادة وجسن الحال]([6])
وقال في العدد الثاني منه:[الحياة السياسية: تقرر فيما سلف أن لا بد لذوي الحياة السياسية من وحدة يرجعون إليها, ويجتمعون عليها, اجتماع دقائق الرمل حجراً صلداً, وأن خير أوجه الوحدة الوطن, لامتناع الخلاف والنزاع فيه, ونحن الآن مبينون بعون الله ماهية هذا الوطن, وبعض ما يجب على ذويه.
الوطن, في اللغة: محل الإنسان مطلقاً, فهو السكن بمعنى: استوطن القوم هذه الأرض, وتوطنوها, أي اتخذوها سكناً. وهو عند أهل السياسة: مكانك الذي تنسب إليه, ويحفظ حقك فيه, ويعلم حقه عليك, وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك. ومن أقوالهم فيه: لا وطن إلا مع الحرية. وقال "لابرويز" الحكيم الفرنساوي: لا وطن في حالة الاستبداد, ولكن هناك مصالح خصوصية, ومفاخر ذاتية, ومناصب رسمية, وكان حد الوطن عند قدماء الرومانيين: المكان الذي فيه للمرء حقوق وواجبات سياسية.
وهذا الحد الروماني الأخير لا ينقض قولهم: لا وطن إلا مع الحرية, بل هما سيان, فإن الحرية إنما هي حق القيام بالواجب المعلوم, فإن لم توجد فلا وطن, لعدم الحقوق والواجبات السياسية, وإن وجدت فلا بد معها من الواجب والحق, وهما شعار الأوطان التي تفتدى بالأموال والأبدان, وتقدم على الأهل والخلان, ويبلغ حبها في النفوس الزكية مقام الوجد والهيمان. .. على أن النسبية للوطن تصل بينه وبين الساكن صلة منوطة بأهداب الشرف الذاتي, فهو يغار عليه, ويذود عنه كما يذود عن والده, والذي ينتمي إليه, وإن كان سيء الخلق شديداً عليه, ولذلك قيل في مثل هذا المقام إن ياء النسبة في قولنا مصري وإنكليزي وفرنساوي هي من واجبات غيرة المصري على مصر والفرنساوي على فرنسا والإنكليزي على إنجلترا. .. وجملة القول أن في الوطن من واجبات الحب والحرص والغيرة ثلاثة, تشبه أن تكون حدوداً: الأول: أنه السكن الذي فيه الغذاء, والوقاء والأهل والولد, والثاني: أنه مكان الحقوق والواجبات التي هي مدار الحياة السياسية, وهما حسيان ظاهريان, والثالث: أنه موضع النسبة التي يعلو بها الإنسان ويعز أو يسفل ويذل, وهو معنوي محض.
فإذا تقرر ذلك مما قلناه, وجب على المصري حب الوطن من كل هذه الوجوه, فهو سكنه الذي يأكل فيه هنيئاً, ويشرب مريئاً, ويبيت في الأهل أميناً, وهو مقامه الذي ينسب إليه, ولا يجد في النسبة عاراً, ولا يخاف تعييراً, وهو الآن موضع حقوقه وواجباته التي حصلت له بما أوضحناه من دخوله في دور الحياة السياسية. ]([7])
0 التعليقات:
إرسال تعليق