رسائل إلى أهل الثغر(6)
التقوى
رضوان محمود نموس
أخوتي
أهل الثغر؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله الكريم أن يلهمكم السداد
ويوفقكم للرشاد، كنت قد تكلمت في الرسالة السابقة عن سورة الأنفال وكيف أنها هي
سورة الجهاد، وكيف أن هذه السورة فيها وصايا
الله من فوق سبع سموات إلى جنده على الأرض لينفذوها ويمتثلوها.
فالجهاد الإسلامي كما تعلمون
وتمارسون ليس في قاموسه أو من مفرداته العلو والفساد في الأرض قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]
وقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في البخاري عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّه.([1]).
فشرط أن يكون الجهاد في سبيل
الله ; لازم لا
ينفك عنه أبداً .
فالمطلوب من المسلمين بذل كل
الجهد للقضاء على سائر الجاهليات القومية والوطنية والديمقراطية والدولة المدنية
وسائر منظومة الجاهليات القديمة والحديثة المعاصرة، وتكوين دولة على منهاج النبوة مجردة عن كل غرض ، مبرأة من كل هوى أو نزعة شخصية ، لا تقصد
من وراء جهودها وما تبذل في سبيل غايتها من النفوس والنفائس إلا تأسيس نظام عادل،
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]
وأخبر الله تعالى الأمة فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء: 65]
وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } [البقرة: 213]
وقال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]
فلا ينبغي الجهاد إلا لهذه الغاية وهي إقامة القسط
والحق بين الناس. وعدم البغي والعلو في الأرض، ولا
يكون من هم الإنسان خلال هذا الكفاح المستمر والجهاد المتواصل لإعلاء كلمة
الله أن ينال جاهاً وشرفاً أو سمعة وحسن
أحدوثة.
لذا بعد أن قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ } [الأنفال:
1]
صرف اهتمامهم عن الأنفال
والمتاع الزائل قال تعالى مباشرة { فَاتَّقُوا اللَّهَ} ثم قال في منتصف السورة: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:
29]
لقد
كان النداء الإلهي لصحابة المصطفى
صلى الله عليه وسلم هو التوجيه إلى التقوى وسبحان
خالق القلوب العليم بأسرارها، إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض
الحياة الدنيا ، ومتاعها الزائل إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس
رضاه في الدنيا والأخرى .
إن
التقوى زمام هذه القلوب، فإن كان الزمام قوياً قاد صاحبه وإذا كان القائد
هو التقوى فالنتيجة هي الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
فالتقوى
هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين وبالتوحيد وبها بعث الرسل فما من نبي إلا وأمر قومه {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}
[النساء: 131]
ولأهمية التقوى في حياة المسلم فلقد
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه والمسلمين من بعدهم أن يبدأوا كل أمر ذي شأن بخطبة الحاجة فقال عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ: " عَلَّمَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةَ الْحَاجَةِ ... {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:
1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:
71]([2]).
وفي
هذه الخطبة يقرأ بها بثلاث آيات وفي كل آية منها (اتقوا الله).
فالتقوى
هي القوة المحركة والطاقة العجيبة التي تسهل للإنسان حمل أعباء الدعوة
والجهاد في سبيل الله فقط دون الحرص على متاع زائل أو أغراض بالية، فمن ذا الذي
يدفع شاب في ريعان الشباب إلى عملية استشهادية؟! وما الذي يدفع بثلة من المؤمنين
لمواجهة طواغيت الأرض مجتمعين؟! إنها قوة التقوى وفاعليتها في القلب. فالتقوى هي التي تثبت الأقدام والتقوى هي التي
تدفع بصاحبها إلى الموت مبتسماً والتقوى هي سبب التعليم والإلهام. والصبر على
الطريق الشائك الطويل .
هذا
هو الزاد ، وهذه هي عدة الطريق {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. . زاد التقوى التي تحيي
القلوب وتوقظها فترى الطريق واضحة، لا عوج فيها ولا أمتا، ولا غبش ولا شبهات.
فالتقوى هي التي تقمع الهوى وترده خاسئاً مقهوراً
بما تملكه من الفرقان الذي يمكن المتقين من التفريق بين الحق والباطل والتزام الحق
وقمع الباطل.
[إن
الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة . . إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي
فطرت عليه ; والذي خلقت به السماوات والأرض . . ولكنه الهوى هو الذي يحول
بين الحق والفطرة . . الهوى هو الذي ينشر
الغبش ، ويحجب الرؤية ، ويُعمي المسالك ،
ويخفي الدروب . . والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى . . تدفعه مخافة الله ، ومراقبته
في السر والعلن . . ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة ، ويرفع اللبس ، ويكشف
الطريق .
وهو
أمر لا يقدر بثمن . . ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب
. ثم يضيف إليهما (الفضل العظيم)([3]).
ومن صفات المتقين أنهم يؤمنون بالغيب قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 1 - 3] فعرف المتقين أنهم يؤمنون بالغيب كل
الغيب الذي أخبر به الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وكم في هذا من راحة
وطمأنينة، طمأنينة إلى نصر الله وتحقيق وعده في الدنيا والآخرة بأن العاقبة
للمتقين قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]
ومن صفات المتقين أنهم إذا مسهم الشيطان يؤوبوا
بسرعة إلى الحق ويهزموا الشيطان ووسوساته فإذا هم مبصرون. مبصرون للحق آخذين به،
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]
فإذا طاف
بقلوبهم طائف من الشيطان تذكروا، فيبصرون. قال سعيد بن
جُبَيْر: هو الرجل يغضب الغَضْبَة، فيذكر الله، فيَكْظِم الغَيْظ. وقال لَيْثُ عن مجاهد:
هو الرجل يَهِمُّ بالذنب، فيذكر الله، فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر
رجع، والتذكر هو
تذكر وخوف مقام الرب، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}
ومن يتق الله فالله معه
وأكرم بها من نعمة أن يكون الإنسان بمعية الله قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]
ومن يتق الله فالله يحبه
وهل هناك غاية أكرم من هذه الغاية قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
} [آل عمران: 76].
والمتقون هم الوفد إلى
الله وما أجلها من تكرمة قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ
وَفْدًا} [مريم: 85]
ويوم الخوف الأكبر والفزع
المهول يكون المتقين في أمان وسلام قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ
* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 51، 52]
ويوم يبحث الناس عن أولياء
يكون المتقين في ولاية الله قال تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:
19]
وثمرة التقوى إضاءة الطريق
والكشف عن البصيرة، ومن أضاء طريقه وكشف عن بصيرته فلن يضل ولن يشقى، وهو على الحق
ولو كان وحده، وهو الذي يرى الأمور على حقيقتها يوم تشتبه على الناس، فيرى الحق
حقاً والباطل باطلاً، وهي أشرف وأكمل النعم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحديد:
28]
قال الإمام ابن تيمية: [ولهذا قيل: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم،
وهذا الجنس غير مقدور للعباد، وإن كان ما يقدرون عليه من الأعمال الظاهرة والباطنة
هو أيضاً بفضل الله وإعانته وإقداره لهم، لكن الأمور قسمان: منه ما جنسه مقدور لهم
لإعانة الله لهم، كالقيام والقعود، ومنه ما جنسه غير مقدور لهم، إذا قيل: إن الله يعطي
من أطاعه قوة في قلبه وبدنه يكون بها قادراً على ما لا يقدر عليه غيره، فهذا أيضاً
حق وهو من جنس هذا المعنى، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي
مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} [الأنفال: 12] ، وقد قال: {إِذَا لَقِيتُمْ
فِئَةً فَاثْبُتُواْ} [الأنفال: 45] ، فأمرهم بالثبات وهذا الثبات، يوحى إلى الملائكة
أنهم يفعلونه بالمؤمنين]([4]).
فضمن لهم سبحانه بالتقوى ثلاثة أمور أحدها أعطاهم نصيبين من رحمته نصيباً في
الدنيا ونصيباً في الآخرة وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة فيصير نصيبين، الثاني أعطاهم نوراً
يمشون به في الظلمات، الثالث مغفرة ذنوبهم، وهذا غاية التيسير، فقد جعل سبحانه التقوى
سبباً لكل يسر، وترك التقوى سبباً لكل عسر.
وهذا
النور [هبة لَدُنية يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه، وتؤمن حق الإيمان برسوله.
هبة تنير تلك القلوب فتشرق، وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز، ومن وراء الأشكال
والمظاهر فلا تتخبط، ولا تلتوي بها الطريق.. «نُوراً تَمْشُونَ بِهِ» ..
«وَيَغْفِرْ
لَكُمْ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ... فالإنسان إنسان مهما وهب من النور. إنسان يقصر
حتى لو عرف الطريق. إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله.. «وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ» ..
«يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ» . لتنالوا كفلين
من رحمة الله. ويكون لكم ذلك النور تمشون به. وتدرككم رحمة الله بالمغفرة من الذنب
والتقصير]([5]).
وما
أحوج المجاهدين لهذا النور الذي يميزوا به بين الطيب والخبيث، بين الحق والباطل،
بين اتباع الحق أو السير بركب الهوى، فالحرص الحرص على هذا النور الذي منحه الله
للمتقين، جعلنا الله وإياكم من المتقين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق