لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب(1)
رضوان محمود نموس
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الكوذاني، قال: أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، قال: حدثنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا الفضل بن العباس الربعي، قال: حدثني إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، قال: سمعت عمي سليمان بن أبي جعفر يقول:
كنت واقفاً على رأس المنصور ليلة وعنده إسماعيل بن علي وصالح بن علي وعيسى بن علي، فتذاكروا زوال ملك بني أمية وما صنع بهم عبد الله وقتل من قتل منهم بنهر أبي فرطس، فقال المنصور: ألا مَنَّ عليهم ليروا من دولتنا ما رأينا من دولتهم ويرغبوا إلينا كما رغبنا إليهم فلقد لعمري عاشوا سعداء وماتوا فقداء، فقال له إسماعيل بن علي: يا أمير المؤمنين إن في حبسك عبيد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وقد كانت له قصة عجيبة مع ملك النوبة فابعث إليه فاسأله عنها، فقال: يا مسيب عليَّ به، فأخرج فتىً مقيدٌ بقيد ثقيل وغل ثقيل فمثل بين يديه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال يا عبيد الله رد السلام أمن ولم تسمح لك نفسي بذلك بعد، ولكن أقعدوه فجاؤوا بوسادة فثنيت فقعد عليها فقال له: قد بلغني أنه كان لك مع ملك النوبة قصة عجيبة فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين لا والذي أكرمك بالخلافة ما أقدر على النفس من ثقل الحديد ولقد صدئ قيدي، فقال يا مسيب أطلق عنه حديده.
ثم قال نعم يا أمير المؤمنين، لما قصد عبد الله بن علي إلينا كنت المطلوب من بين الجماعة لأني كنت ولي عهد أبي من بعده فدخلت إلى خزانة فاستخرجت منها عشرة آلاف دينار ثم دعوت عشرة من غلماني كل واحد على دابة ودفعت إلى كل غلام ألف دينار وأوقرت خمسة أبغل فرشاً وشددت في وسطي جوهراً له قيمة مع ألف دينار وخرجت هارباً إلى بلد النوبة فسرت فيها ثلاثا فوقعت إلى مدينة خراب فأمرت الغلمان فعدلوا إليها فكسحوا منها ما كان قذراً ثم فرشوا بعض تلك الفرش ودعوت غلاماً لي كنت أثق بعقله، فقلت: انطلق إلى الملك فاقرئه مني السلام وخذ منه الأمان وابتع لي ميرة.
قال: فمضى ثم إنه أبطأ علي حتى سؤت ظناً ثم أقبل ومعه رجل آخر فلما دخل كَفَّرَ لي ثم قعد بين يدي، فقال لي: الملك يقرأ عليك السلام ويقول لك: من أنت وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب لي؟ أم راغب إليّ؟ أم مستجير بي؟ قلت له رد على الملك السلام وقل له: أمّا محارب لك فمعاذ الله، أما راغب في دينك فما كنت لأبغي بديني بدلاً، وأما مستجير بك فلعمري.
قال: فذهب ثم رجع إلىَّ فقال: إن الملك يقرأ عليك السلام ويقول لك: أنا صائر إليك غداً. فلا تحدثن في نفسك حدثاً ولا تتخذ شيئاً من ميرة فإنها تأتيك وما تحتاج إليه، فأقبلت الميرة فأمرت غلماني ففرشوا ذلك الفرش كله، وأمرت بفرش لي، فنصب لي وله مثله، وارتقبت في غد مجيئه فبينا أنا كذلك أقبل غلماني يخطرون، وقالوا: إن الملك قد أقبل، فقمت بين شرفتين من شرف القصر أنظر إليه، فإذا أنا برجل قد لبس بردتين، ائتزر بإحداهما وارتدى الأخرى، حاف راجل وإذا عشرة معهم الحراب ثلاثة يقدمونه وسبعة خلفه، وإذا الرجل الموجه إلى جنبه فاستصغرت أمره وهان عليّ لما رأيته في تلك الحال، وسولت لي نفسي قتله فلما قرب من الدار إذا بسواد عظيم فقلت ما هذا السواد؟ فقيل: الخيل، فوافى يا أمير المؤمنين زهاء عشرة آلاف عنان فكانت موافاة الخيل إلى الدار وقت دخوله فأحدقوا بها ثم دخل إليَّ فلما نظر إليَّ قال لترجمانه: أين الرجل؟ فأومأ الترجمان إليَّ، فلما نظر إليَّ وثبت إليه فأعظم ذلك وأخذ بيدي فقبلها ووضعها على صدره وجعل يدفع ما على الفسطاط برجله فشوش الفرش فظننت أن ذلك شيء يجلونه أن يطأ على مثله حتى انتهى إلى الأرض، فقلت لترجمانه: سبحان الله لم لا يصعد على الموضع الذي وطئ له؟ فقال: قل له: إني ملك وكل ملك حقه أن يكون متواضعاً لعظمة الله سبحانه إذ رفعه الله، ثم أقبل ينكث بإصبعه الأرض طويلاً، ثم رفع رأسه فقال لي: كيف سلبتم هذا الملك وأخذ منكم وأنتم أقرب إلى نبيكم؟ فقلت جاء من كان أقرب قرابة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ، فسلبنا وطردنا، فخرجت إليك مستجيراً بالله عز وجل ثم بك، قال: فلم كنتم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت فعل ذلك عبيد وأتباع دخلوا في ملكنا من غير رأينا، قال: فلم كنتم تركبون وعلى دوابكم الذهب والفضة وتلبسون الديباج وقد حرم ذلك عليكم؟ قلت عبيد وأتباع وأعاجم دخلوا في مملكتنا من غير رأينا، قال: فلم كنتم أنتم إذا خرجتم إلى صيدكم عبرتم على القرى وكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم بالضرب الوجيع ثم لا يقنعكم ذلك حتى تموشوا زروعهم فتفسدوها في طلب دراج قيمته درهم أو عصفور قيمته لا شيء، والفساد محرم في دينكم؟ قلت عبيد وأتباع، قال: لا ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما نهاكم عنه فسلبكم الله العز وألبسكم الذل، ولله منكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد وإني أتخوف أن تنزل بك النقمة من الظلمة فتشملني معك، وإن النقمة إذا نزلت عمّت وشملت، فاخرج بعد ثلاث فإنني إن أخذتك بعدها أخذت جميع ما معك وقتلتك وقتلت جميع من معك ثم وثب فخرج.
فأقمت ثلاثاً وخرجت إلى مصر فأخذني واليك فبعث بي إليك وها أنا ذا والموت أحب إلي من الحياة.
فهمَّ أبو جعفر بإطلاقه فقال له إسماعيل بن علي يترك في دار من دورنا ويجري عليه ما يجري على مثله قال: ففعل ذلك به.
(المنتظم المجلد السابع صفحة 306-309)
0 التعليقات:
إرسال تعليق