الجماعة (5)
رضوان محمود نموس
كان الحديث في الأعداد السابقة عن الجماعة لغة وشرعاً واصطلاحاً والأدلة على وجوب الالتزام بالجماعة، وترك ونبذ التفرق، في هذا العدد نستمر في سوق الأدلة على ذلك.
§ قال القاسمي في محاسن الـتأويل بعد شرح الآية، قال: لطائف: قال الكيا الهراسي في الآية دليل على منع النظر والرأي مع وجود النص.
والآية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي اختلفوا مع وحدته في نفسه فجعلوه أهواء متفرقة وكانوا شيعاً أي فرقاً تشيع كل فرقة إماماً لها بحسب غلبة تلك الأهواء فما يتعبدوا إلا بعبادات وبدع ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع.
§ قال محمد رشيد رضا في تفسير المنار: وقد نهي عن التفرق في صراط الحق وسبيله، فإن التفرق في الدين الواحد هو جعله مذاهب، يتشيع كل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له ويخطئون ما خالفه ويرمون أتباعه بالجهل والضلال أو الكفر أو الابتداع وذاك سبب لإضاعة الدين بترك الحق المنزل فيه، لأن كل شيعة تنظر فيما يؤيد مذهبها ويظهرها على مخالفيها لا في الحق لذاته والاستعانة على استبانته وفهم نصوصه، والحق لا يمكن أن يكون وقفاً محبوساً من عند الله تعالى على عالم معين وعلى أتباعه، فكل باحث من العلماء يخطئ ويصيب وهذا أمر قطعي ثابت بالنقل والعقل والإجماع ولكن جميع المتعصبين للمذاهب الملتزمين لها مخالفون له، ومن كان كذلك لم يكن متبعاً لصراط الله الذي هو الحق الواحد.
ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه هو الحق الموحد لأهل الحق الجامع لكلمتهم وتوحيدهم وجمع كلمتهم هو الحافظ للحق المؤيد له والمعز لأهله - كان التفرق فيه بما ذكر سبباً لضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم - فبهذا التفرق حل بأَتباعِ الأنبياء السابقين ما حل من التخاذل والتقاتل والضعف وضياع الحق، وقد اتبع المسلمون سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى حل بهم من الضعف والهوان ما يتألمون منه ويتململون، ولم يردعهم عن ذلك ما ورد في التحذير منه في كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين ولم يبق بينهم وبين من قبلهم من فرق إلا في أمرين: أحدهما حفظ القرآن من أدنى تغيير وأقل تحريف، وضبط السنة النبوية بما لم يسبق له في أمه من الأمم نظر. وثانيهما وجود طائفة من أهل الحق في كل زمان تدعوا إلى صراط الله وحده وتتبعه بالعمل والحجة، ولكن هؤلاء قد قلوا في القرون الأخيرة، وكل صلاح وإصلاح متوقف على كثرتهم، فنسأله تعالى أن يكثرهم.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}
...والافتراق هذه الأمة في دينها وما تبعه من ضعفها في دنياها أربعة أسباب كليه:-
1 - السياسة والتنازع على الملك.
2 - عصبية الجنس والنسب.
3 - عصبية المذاهب في الأصول والفروع.
4 - القول في دين الله بالرأي.
وهناك سبب خامس قد دخل في كل منها وهو دسائس أعداء هذا الدين وكيدهم له، فالقول في الدين بالرأي أصل ما ذكر قبله وليس له حد يقف عنده.
وقال تعالى { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} ([1])
وبمثل ما قيل في المذاهب يقال في الأحزاب بل القول في الأحزاب أنكى وأمر إذ أن مصادرهم قيادات تتراوح بين البدعة والكفر وليسوا مجتهدين ولا علماء ولا أرباع وأتباعهم همج رعاع عمي صم عن غير قول قياداتهم.
يوالون ويعادون على الحزبية مصادرهم في التلقي مقررات أحزابهم وليس لهم شأن مع كتاب الله تعالى ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- قال الإمام الطبري:.... قال ابن زيد: كل معجبون برأيهم، ليس أهل هوى إلا وهم معجبون برأيهم وهواهم وصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم.
- قال القرطبي: فتقطعوا أي جعلوا دينهم أدياناً بعدما أمروا بالاجتماع ثم ذكر تعالى أن كلاً منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال.
- قال البقاعي في نظم الدرر: فتقطعوا أمرهم أي في الدين بعد أن كان مجتمعاً متصلاً بينهم فكانوا شيعاً وهو معنى {زبراً} أي قطعاً كل قطعة منها على ما صارت إليه من الهوى والضلال ولم يرحموا أنفسهم بما دعتهم إليه الهداة من الاجتماع والألفة فأهلكوها بالبغضاء والفرقة.
- قال الإمام الطبري: {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} وأن معناه {مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أحزاباً {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} يقول كل طائفة وفرقة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحق فأحدثوا البدع التي أحدثوا {بما لديهم فرحون} يقول: بما هم به متمسكون من المذهب، فرحون مسرورون يحسبون أن الصواب معهم دون غيرهم.
- قال القرطبي: أي مسرورون معجبون لأنهم لم يتبينوا الحق وعليهم أن يتبينوه.
- وقال البقاعي: فاتقى الأنبياء الله الذي أرسلهم وتجشموا حمل ما أرسلهم به من عظيم الثقل فدعوا العباد إليه وأرادوا جمعهم عليه ومن نجا معهم أمة واحدة لا اختلاف بينها.
قال تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} ([2])
- قال الإمام الطبري: {ولا تتفرقوا فيه} ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتم بالقيام به كما اختلف الأحزاب من قبلكم، وعن قتادة تَعَلَّموا أن الفرقة هلكة وأن الجماعة ثقة {بغياً بينهم} بغياً من بعضكم على بعض وحسداً وعداوة على طلب الدنيا.
- قال الشيخ البقاعي: لمَّا عَظَّمَ الأمر بالاجتماع أتبعه التعظيم بالنهي عن الافتراق فإن التفرق سبب الهلاك والاجتماع سبب النجاة، فكونوا يداً واحدة. ولمَّا نهى عن التفرق حث على لزوم الاجتماع وعَظُمَ وشق على المشركين ولأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم، فإن تفرقتم كنتم قد تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود.
- قال القاسمي في محاسن التأويل: أي واعلموا أن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أمة واحدة، أي ملة واحدة وهي شريعة الإسلام، إسلام الوجه لله تعالى بعبادته وحده {فَاتَقونِ} أي فخافوا عقابي في مفارقة الدين والجماعة.
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} أي جعلوا دينهم بينهم قطعاً وفرقاً منوعة {كل حزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم فرح بباطله مطمئن النفس معتقد أنه على الحق {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } أي في جهالتهم ونبذهم كتاب الله {حَتَّى حِينٍ}
- يقول الشهيد سيد قطب: لقد مضى الرسل صلوات الله عليهم أمة واحدة ذات كلمة واحدة وعبادة واحدة ووجهة واحدة، فإذا الناس من بعدهم أحزاب متنازعة لا تلتقي على منهج ولا طريق، لقد تنازعوا الأمر حتى فرقوه بينهم فرقاً وقطعوه في أيديهم قطعاً ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده، مضى فرحاً لا يفكر في شيء ولا يلتفت إلى شيء.... وعاش الجميع في هذه المدة مذهولين مشغولين بما هم فيه
قال تعالى {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ([3])
وللبحث صلة
0 التعليقات:
إرسال تعليق