موقع ارض الرباط

موقع ارض الرباط
موقع ارض الرباط

الثلاثاء، 7 أغسطس 2012

أرواد ومجتهدون أم فسقة وضالون؟! (48)‏ جمال الدين الأفغاني


أرواد ومجتهدون أم فسقة وضالون؟! (48)

جمال الدين الأفغاني

رضوان محمود نموس
نتكلم في هذه الحلقة عن محاولة محمد عمارة تحديد الأسوة والقدوة والرواد للصحوة الإسلامية بل والأمة ويقدم هؤلاء على أنهم هم الرواد في الوقت الذي يحاول إهالة النسيان والجحود على جهود العلماء والرواد الحقيقيين ويصر على تشويه حقائق الإسلام بالباطل, والرائد الثالث من الناحية التاريخية وهو الأول والأساس من ناحية التأثير هو جمال الدين الشيعي الإيراني المتأفغن عمارة هذا الذي وصفه القرضاوي:[بأنه أحد مجددي هذا القرن وأحد الذين هيأهم الله لنصرة الدين الإسلامي من خلال إجادته استخدام منهج التجديد والوسطية.] حسب ما نشر موقع الجزيرة وغيره من المواقع المصدر:  (الجزيرة نت) 3/11/2010
المبحث السابع جمال الدين وأرنست رينان:
 نشرت صحيفة ديبا الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 30/3/1883م مقالة بعنوان "الإسلام والعلم" للفيلسوف الفرنسي أرنست رينان, هاجم فيها الإسلام والمسلمين. ومما جاء فيها كما نقل ذلك الدكتور عبد الرزاق قسوم عن الصحيفة من أقوال رينان ما يلي: [ (إن أي إنسان يعرف حدا أدنى من شؤون عصرنا ليرى بوضوح مدى التدني الحالي للبلدان الإسلامية فمن انحطاط الدول التي يحكمها الإسلام إلى الانعدام الفكري الذي يميز الأجناس التي تعتمد في ثقافتها وتربيتها على هذه الديانة وحدها. إن كل الذين زاروا الشرق أو أفريقا قد صدمتهم هذه الاتكالية التي تستبد بعقل أي معتنق لهذه الديانة وهذا النوع من الحلقة الحديدية التي تحيط برأسه فتغلقه تماما أمام العلم وتحول دون انفتاحه على أية فكرة جديدة... إن الطفل المسلم قد يكون في البدء مالكا لبعض الاستعدادات العقلية ولكنه ما إن يلقن بعض المبادئ الإسلامية ويبلغ سن العاشرة أو الثانية عشر حتى يصبح فجأة متعصبا مملوءا بنخوة عقيمة في كونه أصبح مالكا لما يزعم أنه الحقيقة المطلقة وكأنه سعيد بحصوله على ما يجعل منه في نظرنا شخصا في الدرجة السفلى.
إن هذا الكبر الجنوني هو العقدة الجوهرية للمسلم. فالبساطة المظهرية لمعتقده توحي إليه بنوع من الكراهية لا مبرر لها لكل الديانات الأخرى واقتناعا من المسلم بأن الله هو واهب المال والسلطة لمن يشاء دون اعتبار للمعرفة أو للقدرات فإن المسلم لديه بغض عميق لكل ما هو ثقافة أي لكل ما يشكل العقل الأوربي)
 ويتساءل: (وهل وجد حقا علم إسلامي أو على الأقل علم تبناه ويسمح به الإسلام؟).
ثم يقول: (فالعربي البدوي هو أكثر الناس اهتماما بالأدب ولكنه أقلهم تصوفا وأنقصهم ميلا إلى التفكير والتأمل).
ويقول:(إنما يميز أساسا المسلم هو كراهيته للعلم وقناعته بأن البحث العلمي غير مجد لكونه مطية للزندقة وخاصة علم الطبيعة لأنه ينافس الله في علمه... وفي ما يخصني بالذات فقناعتي أن العلم جيد وأنه وحده القادر على منحنا أسلحة ضد الشر وأن هذا العلم في النهاية لا يخدم سوى التقدم وأعني بالتقدم التقدم الحقيقي الذي لا يمكن فصله عن احترام الإنسان واحترام الحرية) ]([1]).
فجاء رد جمال الدين الذي وصفه أحبابه بأنه انتصر على رينان وأفحمه وهزمه الخ. جاء كله ممالأة لرينان ومشاركة له في أقواله وكفره. وإليك ردّه:
يقول قسوم: [ ويستهل جمال الدين الأفغاني حواره مع أرنست رينان بالإشادة بقيمته الفلسفية وتقديره لشهرته التي فاقت الحدود... فيقول: (إن خطاب رينان قد اشتمل على نقطتين أساسيتين أولاهما أنه بذل جهده في إثبات أن الإسلام في جوهره الأساسي معاد لكل تطور علمي, وثانيا أن الشعب العربي بطبيعته لا يحب العلوم الميتافيزيقية ولا الفلسفية... فإذا سلمنا جدلا بأن الدين الإسلامي قد مثل عقبة في طريق التقدم العلمي، هل يمكن التأكيد بأن هذه العقبة لا يمكنها أن تزول يوما ما؟ وأين يختلف الإسلام هنا عن باقي الديانات الأخرى؟ إن كل الديانات تملك نوعا من عدم التسامح ولكن لكل ديانة طريقتها في التعبير عن ذلك.
فإذا سلمنا مع المحاضر بحقيقة كون الإسلام قد عمل على خنق أنفاس العلم وأوقف كل تقدم وإذا قبلنا بكون الإسلام قد عرقل الحركة العقلية والفلسفية وصد العقول عن طريق البحث في الحقيقة العلمية فإن نفس المحاولة إذا لم أخطئ قد قامت بها الديانة المسيحية, وأن قادة الكنيسة الكاثوليكية حسب علمي لم يتخلوا عن أسلحتهم في محاربة ما يعتبرونه "مصدرا للصراع والخطأ" وقناعتنا أن أتباع أي دين إنما يتبعون في ذلك الخط الذي رسمه لهم علماء الدين ومفسروه ذلك أن هؤلاء الأتباع لديهم اليقين الكامل بأن دينهم يحتوي على كل معاني الأخلاق وكل معاني العلوم ولذلك فهم مصممون على أن لا يقوموا ببذل أي جهد لتجاوز هذا الدين، وما جدوى القيام بمثل هذه المحاولة؟ وما يفيد البحث عن حقيقة أخرى مادام المؤمن بهذا الدين يعتقد جازما بأن الحقيقة موجودة في معتقده؟ وهل سيكون أسعد من ذلك لو قدر له أن يفقد إيمانه في يوم من الأيام؟).
ويقول: (جاء العرب الذين كانوا آنذاك جهلة ومتخلفين جاءوا لينقذوا التراث الذي تخلت عنه الأمم المتحضرة فأعادوا إضاءة مصابيح العلوم المنطفئة وطوروها ومنحوها إشعاعا لم تعرفه من قبل. ألا يمثل هذا علامة من علامات حب العرب الطبيعي للعلم؟. صحيح أن العرب قد أخذوا عن اليونان فلسفتهم كما أخذوا عن الفرس كل معالم شهرتهم في القديم ولكن هذه العلوم التي أخذوها عن طريق الفتوحات قد عملوا على تطويرها وشرحها وتنميتها وتكملتها والتنسيق بينها بإعطائها ذوقا رائعا وتحديدا ومصداقية نادرين لكن هذا كله في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون والألمان والإنجليز أقل بعدا من مركزي إشعاع روما وبيزنطة بالنسبة للعرب الذين كانت عاصمتهم بغداد... نحن نعترف بأن البلدان التي وصلت إلى قمة الإشعاع العلمي كالعراق والأندلس قد عادت فسقطت من جديد في حظيرة الجهل والتعصب الديني ولكن لا بد لنا من أن نستخلص رغم ذلك من هذا المشهد المؤلم أن التقدم العلمي والفلسفي في العصر الوسيط إنما يعود الفضل فيه إلى الشعب العربي الذي كان نفوذه هو السائد آنذاك.

إن الإنصاف يقتضيني أن أشيد هنا بخصائص العلماء الفرس وبالدور الذي لعبوه في العالم العربي ولكنني أسمح لنفسي أيضا بأن أقول بأن الحرانيين قد كانوا عربا وأن العرب عندما فتحوا "الأندلس"([2]) لم يفقدوا جنسيتهم فقد كانوا عربا حتى قبل الإسلام بقرون عديدة وكانت اللغة العربية هي لغتهم الأصلية وكونهم احتفظوا بديانتهم القديمة الصابية لم يكن ذلك يجعل منهم غرباء عن القومية العربية فالقساوسة السوريون هم في أغلبهم عرب غساسنة اعتنقوا المسيحية).
- ثم يختم جمال الدين ردَّه فيؤكد أن إشكالية الدين والفلسفة ستظل قائمة.
ويقول: (هذه الإشكالية ستظل قائمة وأنه كلما أتيح للدين أي دين أن ينتصر في أي مكان فإن ذلك سيؤدي إلى انحصار نفوذ الفلسفة والعكس صحيح فكلما انتصرت الفلسفة وما يصاحبها من عقل حر فسيتقلص دور الدين معها) ]([3]).
وبإمعان النظر في ما قاله الأفغاني يتضح لنا أن ردَّ الأفغاني اشتمل على النقاط التالية:
  1-أن الإسلام كسائر الأديان عقبة في وجه التطور والتقدم العلمي.
  2- أن الناس كانوا أصلاً في الهمجية فجاءت الأديان ونقلت خطوة نحو الأفضل.
  3-أن كل الديانات متعصبة وأتباعها متعصبون ليس عندهم استعداد للحوار واكتشاف الحقائق.
  4- أن العرب قبل ترجمة التراث اليوناني والرماني كانوا جهلة ومتخلفين.
  5- اعتبار روما وبيزنطة مصادر إشعاع علمي.
  6- الإشادة بدور من أسماهم عرباً من الكفار الصابئة والنصارى.
  7- وهو الأهم أنه حيث ما حلَّ الدين حجب دور العقل الحر.
ولا يخفى العاقل أن هذا الكلام فيه من الضلالة والزندقة والردة الكثير:
فمساواة الإسلام بسائر الأديان هو مساواة كلام الله ودينه الحق بكلام البشر وتحريف المحرفين والأديان الموضوعة الباطلة أو المحرفة, وهذا كفر.
وأن العرب كانوا قبل ترجمة التراث اليوناني جهلة متخلفين: فيعني هذا أنهم عندما كانوا على القرآن والسنة, وقبل ترجمة الكفر كانوا جهلة, وهذا وصف للقرآن والسنة بالجهل, ووصف لفلسفة اليونان بالعلم, وهذا كفر أيضاً.
واعتبار الجهل الروماني علماً, فقد نقل عنه أحمد أمين قوله: [ وقد كانت رومة وبيزنطة المدينتين الرئيسيتين لعلوم اللاهوت والفلسفة بل مبعث أنوار المعارف الإنسانية كلها ]([4]).
وهذا يشمل الكفر والتضليل والزندقة.
كما أن الأفغاني وصف رينان بالمنصف, فقال أحمد أمين عن الأفغاني: [ فقد مدح رينان على بحثه وإنصافه وقال إنه استفاد من محاضرته استفادة كبيرة ]([5]).
  وهذه شهادة زور يعتبر فيها أن الباطل حق.
وعندما يتكلم عن نصارى الشام يقول: [ وقد كانت أكثرية نصارى الشام عربا غسانيين اهتدوا بهدى النصرانية ]([6]).
فوصف كفر النصارى بأنه هدى, وفي هذا تكذيب لله عز وجل والقرآن الكريم الذي وصفهم بالضالين, وهذا منه كفر.
ويغمز من الإسلام فيقول: [ إن العقل لا يوافق الجماهير وتعاليمه لا يفقهها إلا نخبة من المتنورين والعلم على ما به من جمال لا يرضي الإنسانية كل الإرضاء وهي التي تتعطش إلى مثل أعلى وتحب التحليق في الآفاق المظلمة السحيقة التي لا قبل للفلاسفة والعلماء برؤيتها أو ارتيادها ]([7]).
لهذا كله نال الأفغاني إعجاب الملحدين وعلى رأسهم (أرنست رينان) الذي قال فيه كما نقل لنا أحمد أمين: [ رد عليه الأستاذ رينان وبادله مدحا بمدح وإعجابا بإعجاب وقال: تعرفت بالشيخ جمال الدين من نحو شهرين فوقع في نفسي منه ما لم يقع لي إلا من القليلين وأثّر فيّ تأثيرا قويا وقد جرى بيننا حديث عقدت من أجله النية على أن تكون علاقة العلم بالإسلام هي موضوع محاضراتي في السوربون، والشيخ جمال الدين نفسه خير دليل يمكن أن نسوقه على تلك النظرية العظيمة التي طالما أعلناها وهي أن قيمة الأديان بقيمة من يعتنقها من الأجناس وقد خيّل إليّ من حرية فكره ونبالة شيمه وصراحته وأنا أتحدث إليه أني أرى أحد معارفي القدماء وجها لوجه وأني أشهد ابن سينا أو ابن رشد أو واحدا من أولئك الملحدين العظام الذين ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الآسار ]([8]).
ولما قام بعض المخلصين من المسلمين بالرد على رينان غضب الأفغاني لذلك، يقول أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح: [ نشرت هذه المحاضرة في جريدة الديبا فأثارت خواطر المسلمين فكان ممن رد عليه الأستاذ (مسمر)([9]) رئيس البعثة المصرية بفرنسا إذ ذاك وفي رده كاد يسلم بالمسألة الأولى وهي أن المدنية العربية ليست مدنية العرب وحدهم بل مدنية الأمم المختلفة التي دخلت في الإسلام.
وفي المسألة الثانية قال إنه ليس في دين الإسلام وتعاليمه ما يمنع المسلمين من التقدم العلمي وقد تقدم المسلمون في عصور مختلفة ولم يمنعهم من أن يتفوقوا على المسيحيين في بعض تاريخهم، ثم قال:" ومن الغريب أنه قبل أن يلقي المسيو رينان خطبته بيومين ألقى بعض العلماء العظام أمام المحفل نفسه محاضرة اشتملت على مكتشفات العرب في علم الحياة وقد نشرت هذه المحاضرة في المجلة العلمية وهي محاضرة ترشدنا إلى حقيقة التمدن الإسلامي في القرون المتوسطة فلو اطلع المسيو رينان عليها وعلى ما كتبه (سيديو) و(دوزي) في مؤلفاتهما عن  العلوم والآداب والفنون والصنائع المنسوبة إلى العرب وعرف ما علمته هذه الأمة في العلم مما لا يحصى عدده على حين كانت أوربا منغمسة في التوحش والجهالة ما نسب إلى العرب ما نسب وهذا العلم تقدم بمعونة الدين لا برغم الدين.
وقد تحمس الشباب المسلمون في باريس لمقال رينان ورد مسمر فاجتمعوا وكلفوا أحدهم (حسن عاصم) بتعريب المحاضرة والرد عليها فعربهما وقال في أول ذلك: لما كان الذب عن الدين فرضا على الإنسان وحب الوطن من الإيمان اجتمع جم غفير من طلبة العلم المصريين المقيمين بفرنسا وكلفوا أخاهم العبد الفقير حسن عاصم بتعريب الخطبة التي ألقاها رينان طعنا في دين الإسلام والأمة العربية وبتعريب ما كتبه الفيلسوف الكبير صاحب الفكر الصائب المسيو مسمر، والغرض أن يقف على الطعن والرد كل من كان على دين الإسلام أو من الأمة العربية حتى يمكنهم تفنيد كلام المسيو رينان فيعلموا إظهارا للحق ]([10]).
فأثار رد المسيو مسمر, وترجمة حسن عاصم له الذي نشر في جريدة البصير جمال الدين الأفغاني, لأن هذا الرد فنَّد مزاعم رينان فقام الأفغاني بالرد على المسيو مسمر وحسن عاصم, فقال في رده الذي نشر أيضا في جريدة البصير في 3 مايو 1883م: [إن رينان الفيلسوف قد ألقى في باريس كرسي الحرية خطابا جعل موضوعه الإسلام والعلم وأظهر فيه أفكاره التي ذهبت به إليها الشواهد التاريخية وما حاد في خطابه عن سنة الأدب وما تجاوز حدود الكمال الذي يقضي بها وجوب احترام الأمم في ما تنتحله دينا ومع ذلك فقد امتعض كثير من عظماء الأمة الفرنسية وتجهموا من مقاله وحسبوه خروجا عن النصفة ومروقا عن محيط العدل في الحكم وتعديا على حقوق من يجب رعايته من المسلمين عموما وسكان الجزائر وتونس خصوصا حتى قام من هذه الأمة الشريفة من له الكلمة العالية في الحكومة وكتب مقالة تذمر بها من خطاب رينان ]([11]).
ويتضح من رد الأفغاني موافقته لرينان, وأن الآراء التي أدلى بها صحيحة وعليها الشواهد التاريخية, ولم يتجاوز حدود الحق والكمال, ولا تعدى الأدب في هذا. ورينان هو الذي اتهم الدين الإسلامي بأنه سبب في التخلف, ومحاربة العلم, وضيق أفق معتنقيه.. إلى آخر هذه الافتراءات, وعندما امتدح رينان الأفغاني وصفه بأنه ملحد من الملاحدة العظام.
وبعد كل هذا أعجب الأفغاني بمحاضرة رينان ووافق عليها؛ بل دافع عنها.
وعن هذه القضية قال عبد الرحمن بدوي :
[لكن شهرة رينان في البلاد العربية منذ سنة 1883 حتى اليوم إنما ترجع إلى محاضرة ألقاها في السوربون بتاريخ 29 مارس سنة 1883 عنوانها: "الإسلام والعلم"، ونشرت في Journal des Débats بتاريخ 30 مارس 1883.وقد رد عليها السيد جمال الدين الأفغاني، وكان آنذاك في باريس، بينما كان الشيخ محمد عبده في بيروت، بمقال نشر في عدد 18 مايو سنة 1883 في نفس الجريدة، وفي اليوم التالي أجاب رينان عن هذا الرد في نفس الجريدة بتاريخ 19 مايو. وكان رينان قد تعرف قبل ذلك بشهرين تقريبا إلى السيد جمال الدين الأفغاني بتوسط من شكري غانم.
وقد كان رد جمال الدين الأفغاني على رينان شديد الترفق إلى درجة أنه ساير رينان في كثير من الملاحظات التي أبداها عن اضطهاد الإسلام للعلماء. وهذا أمر أفزع محمد عبده وكان في بيروت بسبيل ترجمة رد جمال الدين كيما ينشر في لبنان. لهذا أمسك عن الترجمة والنشر صيانة لسمعة أستاذه جمال الدين في العالم العربي والإسلامي. ونبدأ بذكر الآراء الرئيسية في محاضرة رينان، خصوصا المثيرة للجدل:
‌أ-                   ما يسمى بالعلم عند العرب ليس فيه من العروبة إلا الاسم (مجموعة مؤلفاته جـ 1 ص 954)... فكون الكتب العلمية التي كتبها ابن سينا وابن زهر وابن رشد وغيرهم قد كتبت بالعربية لا يعني أن فيها شيء أنتجه الجنس العربي. وهذه الفكرة هي التي رددها ابن خلدون في "المقدمة" مؤكدا أن حملة العلم في الإسلام من الأعاجم وليس بينهم أي عربي.
‌ب-           الإسلام اضطهد دائما "العلم والفلسفة" (ص 955 وما يليها). لكنه يميز بين فترتين: الأولى تمتد من البداية حتى القرن الثاني عشر الميلادي (السادس الهجري) والثانية تمتد من القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري) وتستمر حتى أيام رينان. في الفترة الأولى، وقد نخرت الفرق في الإسلام وطامنت من شدته المعتزلة التي هي نوع من البروتستانتية،...
‌ج-             "والأحرار الذين يدافعون عن الإسلام لا يعرفون الإسلام. إن الإسلام هو التوحيد غير المميّز بين ما هو روحي وما هو دنيوي، إنه سيطرة عقيدة، وهو اثقل قيد حملته الإنسانية. وفي النصف الأول من العصور الوسطى احتمل الإسلام الفلسفة، لأنه يستطع منعها ؛ وهو لم يستطع منعها, لأنه كان غير متماسك، ولم تكن لديه الأداة الكافية للإرهاب. فالشرطة كما قلت كانت في أيدي النصارى، وكانت مهمتها الرئيسية هي مطاردة محاولات شيعة علي. فسرب الكثير من الأشياء من خلال خروف هذه الشبكة الواسعة الخروق. لكن حينما صارت للإسلام جماهير شديدة الإيمان، فإنه دمّر كل شيء. وصار الإرهاب الديني والنفاق هو الأمر المعتاد. لقد كان الإسلام متحررا لما كان ضعيفاً، لكنه صار عنيفاً لما صار قويَّا". (ص 956)...
لكنه سرعان ما يبادر فيقرر أن هذا الوضع ليس خاصاً بالإسلام وحده، بل هو ملازم لكل دولة أو جماعة يسيطر عليها رجال الدين، إلى أيّ دين انتسبوا. يقول رينان: "إن اللاهوت (المسيحي) الغربي لم يكن أقل اضطهاداً لغيره من الدين الإسلامي. بيد أن الأول لم يفلح، ولم يسحق الروح الحديثة، كما سحق الإسلام روح البلاد التي فتحها. في الغرب لم يفلح الاضطهاد الديني إلا في بلد واحد هو إسبانيا ففيها قام نظام رهيب من الاضطهاد يخنق الروح العلمية".(ص 956).
"إن المفاخر بالإسلام بسبب ابن سينا وابن زهر وابن رشد هي مثل ما نفاخر بالكاثوليكية بسبب جاليلو" (ص 957). يعني أنه لا فضل للإسلام على ابن سينا وابن زهر وابن رشد كما لا فضل للكاثوليكية على جاليلو...
إن ما يأخذه رينان على الإسلام بخاصة هو أنه "اضطهد الفكر الحر؛ ولا أقول إنه فعل ذلك على نحو أشد وطأة من سائر المذاهب الدينية، وإنما لأن ذلك كان على نحو أكثر فاعلية. لقد جعل من البلاد التي فتحها ميدانا مغلقا دون الثقافة الفعلية للروح"(ص 957).
ويحاول أن يفسر ذلك فيقول:"إن ما  يميز المسلم تمييزا جوهريا هو كراهية العلم، والاقتناع أن البحث لا فائدة منه، وأنه عبث، وشبه كفر: علم الطبيعة لأنه منافسة لله، والعلم التاريخي، لأنه وهو يتعلق بالأزمنة السابقة على الإسلام، يستطيع أن يبعث أخطاء قديمة"(ص 957)...
تلك هي الأفكار الرئيسية في محاضرة رينان هاتيك. وإنصافا لرينان ينبغي أن نقرر ما يلي:
أولا: حينما ينعى رينان على الإسلام كراهيته للعلم العقلي والتجريبي، فإنه لا يخص الإسلام بهذا الوصف، دون غيره من الأديان. بل الأديان كلها في هذا سواء، لأن رجال الدين يرون في العلوم العقلية والتجريبية خصما لهم من ناحيتين: الأولى أن هذه العلوم العقلية تستبعد الخوارق، وترفض تدخل قوى غير طبيعية في مجرى الأحداث في هذا العالم وتقرر أن الله، أو الإله أيا كان، هو فاعل كل شيء، والثانية أن العلوم العقلية والتجريبية تقلل من دور الدين في التأثير على الناس وتجعل هؤلاء ينصرفون عن طلب النجاة في الآخرة إلى طلب السعادة في الحياة الدنيا، فلا يعود لرجل الدين أي دور.
وما يقوله هنا رينان عن الإسلام يتأيد بموقف المتشددين من أهل السنة والسلفية ودعاة العودة إلى "الإسلام الصحيح" في العصر الحاضر في مختلف بلاد المسلمين. فابن تيمية يقرر أنه "لا علم سوى العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم  وما عداه فليس علما وليس جديرا باسم العلم"(راجع كتابنا التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية).
وجمال الدين الأفغاني، في تعليقه على رينان المنشور في جريدة Journal des Débats (بتاريخ يوم الجمعة 18 مايو سنة 1883) يعترف بصحة دعوى رينان هاهنا وفي الوقت نفسه يذكره بأن هذا الموقف من العلم ليس موقف الإسلام وحده بل موقف المسيحية أيضا. يقول جمال الدين: (ننقل هنا عن نص تعليق الأفغاني كما أعادت نشره الآنسة جواشون في ترجمتها لكتاب "الرد على الدهريين" لجمال الدين الأفغاني، باريس سنة 1942، الملحق ص 174 – 185):
"الحق أن الدين الإسلامي حاول خنق العلم ووقف تقدمه. وعلى هذا النحو افلح في تعويق الحركة العقلية أو الفلسفية، وفي صرف العقول عن البحث عن الحقيقة العلمية، ومثل هذه المحاولة، إذا لم أكن مخطئا قد قام بها الدين المسيحي، بحسب علمي فإن الزعماء الموقرين للكنيسة الكاثوليكية لم يكفوا حتى الآن عن ذلك. إنهم يواصلون الكفاح القوي ضد ما يسمونه روح الحيرة والضلال".
وفي تعقيبه على رد جمال الدين أبصر رينان ما في هذه الفقرة من لفت نظر إليه لأنه لم يتكلم عن اضطهاد المسيحية كما تكلم عن اضطهاد الإسلام للعلم، فبادر إلى الإقرار بصحة هذا التنبيه فقال:
"وثم جانب بدوت، فيه للشيخ جمال الدين أنني لم أكن عادلا، وهو أنني لم أفصل القول بما فيه الكفاية عن هذه الفكرة، وهي أن كل دين موحى به منقاد إلى إبداء العداء للعلم الوضعي، وأن المسيحية في هذا الشأن صنعت صنع الإسلام. وهذا أمر لا شك فيه. إن جاليلو لم تعامله الكاثوليكية معاملة أفضل من المعاملة التي عامل بها الإسلام ابن رشد. إن جاليلو عثر على الحقيقة وهو يقيم في بلد كاثوليكي، على رغم أنف الكاثوليكية، مثلما أن ابن رشد تفلسف على نحو نبيل في بلاد الإسلام، على رغم أنف الإسلام، فإن كنت لم أقم بمزيد من الإلحاح في توكيد هذه النقطة، فذلك أن آرائي في هذا الصدد معروفة بدرجة كافية بحيث لم أحتج إلى العودة إليها أمام جمهور مطلع على أعمالي، ولقد قلت مرارا كافية تغني عن تكرار ذلك في كل مناسبة، إن العقل الإنساني يجب أن يتخلص من كل عقيدة قائمة على الخوارق، إن شاء أن يتوفر على عمله الجوهري، إن أراد هو تشييد العلم الوضعي.ولا يستوجب هذا هدما عنيفا، ولا قطيعة مفاجئة ولا يقتضي الأمر من المسيحي أن يتخلى عن مسيحيته كما لا يقتضي من المسلم أن يتخلى عن إسلامه. وإنما المطلوب من المستنيرين من المسيحيين ومن المسلمين هو أن يصلوا إلى هذه الحالة من الاستواء المتسامح التي فيها تصبح العقائد الدينية غير مؤذية. وهذا أمر قد تم في نصف البلاد المسيحية تقريبا؛ فلنؤمل أن يحدث الشيء نفسه بالنسبة إلى الإسلام".(مجموع مؤلفاته جـ 1 ص 962).
والحق أن رينان كثيرا ما نعى على الكنيسة الكاثوليكية اضطهادها للعلم وسعيها لوقف التقدم وخنق حرية الفكر. ونورد هاهنا نصا في مقدمة كتابه "ذكريات الطفولة والشباب" أعرب فيه عن إدانته لكل دولة يسيطر عليها رجال الدين أو يكون الحكم فيها لدين من الأديان:
"إن هدف العالم هو تنمية العقل، وأول شرط لإمكان تنمية العقل هو حريتة. وأسوأ مجتمع في هذا الشأن هو الدولة الثيوقراطية، مثل الإسلام والدولة البابوية، البابوية القديمة، حيث يكون الحكم المباشر للعقيدة حكما مطلقا والدول التي يكون للدولة فيها دين يستبعد سائر الأديان مثل أسبانيا ليست أحسن حالا. والبلاد التي تقر بدين للأغلبية هي أيضا مصدر متاعب خطيرة. فباسم العقائد الفعلية، أو المزعومة للأغلبية تعتقد الدولة أنها ملزمة بأن تفرض على الفكر مطالب لا تستطيع الوفاء بها. إن عقيدة أو رأي البعض ينبغي أن لا يكون قيدا يكبل به الآخرون. وطالما كانت هناك جماهير متدينة أي آراء تقول بها الكافة في أمة من الأمم على نحو شبه إجماعي، فإن حرية البحث والمناقشة لم تكن ممكنة. إن ثقلا هائلا من الحماقة قد سحق العقل الإنساني، والمغامرة المروعة التي عاشها الناس في العصور الوسطى (الأوربية)، ذلك الانقطاع الذي استمر ألف سنة في تاريخ المدنية، لم يكن سببه البرابرة بقدر ما كان سببه تغلب الروح الدوجماتيقية على الجماهير" (مجموع مؤلفاته جـ 2 ص 718 – 719).
وهكذا يمكن أن نقول إن رأي رينان في موقف الإسلام من العلم هو نفس رأيه في موقف المسيحية من العلم وكما أن التقدم العلمي في أوربا قد تحقق بعد التخلص من تسلط المسيحية ورجالها على عقول الناس، كذلك يعتقد رينان أن التقدم العلمي في البلاد الإسلامية لن يتحقق إلا إذا تخلصت هذه البلاد من تسلط الإسلام ورجاله على عقول المسلمين، يقول رينان في تعقيبه على تعليق جمال الدين:
"أعتقد أن تجديد (أو إعادة ميلاد) البلاد الإسلامية لن يتم بواسطة الإسلام: بل سيتم بإضعاف الإسلام، مثلما أن الوثبة الكبيرة للبلاد المسماة بالمسيحية قد بدأت بتدمير الكنسية الطاغية في العصور الوسطى" (مجموع مؤلفاته جـ 1 ص 963).
ثانيا: يقرر رينان، في تعقيبه على رد جمال الدين، أنه لم يقصد من محاضرته الإساءة على من يعتنقون الإسلام، حين نعى على الإسلام معاداته للعلم. وإنما أراد أن يخلص المسلمين من القيود التي تعوق تقدمهم، كما قام دعاة التنوير في أوربا بتخليص المسيحيين مما كان يعوق تقدمهم من قيود فرضتها المسيحية ورجالها.
يقول رينان: "لقد رأى بعض الأشخاص في محاضرتي فكرة مؤذية للأفراد الذين يعتنقون الدين الإسلامي. وهذا ليس بصحيح ؛ إن المسلمين هم أول ضحايا الإسلام، ومرات عديدة لاحظت أثناء رحلاتي في الشرق أن التعصب إنما يصدر عن عدد قليل من الناس الخطرين الذي يفرضون بالإرهاب على الآخرين ممارسة الدين. وتحرير المسلم من دينه هو أكبر خدمة يمكن أن تُسدَى له. وحين أتمنى لهذه الشعوب (الإسلامية)، وفيها عناصر حسنة كثيرة التخلص من النير الذي يثقل كاهلها، فإني لا أعتقد أنني بهذا أتمنى أمنية سيئة. وما دام الشيخ جمال الدين يريد مني أن أعدل في الميزان بين الأديان المختلفة فإنني لا أعتقد أنني أتمنى أمنية سيئة لبعض البلاد الأوربية حين أريد أن يكون للمسيحية فيها طابع أقل تسلطاً" (الكتاب نفسه جزء 2 ص 963 – 964).
بيد أنه يشك في أن تتم نهضة البلاد الإسلامية بتأييد من الإسلام الرسمي وهذا هو ما وقع أيضا في أوربا المسيحية، فإن نهضتها لم تتم بتأييد من الكنيسة، يقول رينان: "إن النهضة العلمية في أوربا لم تتم هي الأخرى بتأييد من الكاثوليكية، وحتى في هذه الساعة الحاضرة – وهو أمر لا ينبغي الاندهاش منه كثيرا- لا تزال الكاثوليكية تصارع من أجل منع التحقيق الكامل لما يلخص القانون العقلي للإنسانية، أعني: الدولة المحايدة التي تقف بعيدا عن العقائد التي يظن أنه موصى بها" (الكتاب نفسه، جزء 2 ص 964)...
وهنا نأتي إلى مسألة أخرى أثارها جمال الدين الأفغاني، وهي أن رينان في محاضرته بدا كما لو كان ينكر مقدما أي إمكان للنهضة العلمية والتقدم الحضاري بين المسلمين، بينما تحققت هذه النهضة العلمية وذلك التقدم الحضاري بين المسيحيين. ويندهش جمال الدين من حكم رينان السابق على مستقبل المسلمين. ويرى أنه سيحدث للمسلمين حين يتحررون من وصاية الدين الإسلامي مثلما حدث للمسيحيين حين تحرروا منذ عصر النهضة الأوربية من وصاية الدين المسيحي.
يقول جمال الدين في تعليقه على رينان:
"وإذا كان صحيحا أن الدين الإسلامية عقبة في سبيل تقدم العلوم، فهل في وسع المرء أن يؤكد أن هذه العقبة لن تزول ذات يوم ؟ وفيم يختلف الدين الإسلامي عن سائر الأديان في هذه النقطة ؟ إن الأديان جميعها غير متسامحة، كلا منها على طريقته. والدين المسيحي، أعني المجتمع الذي اتبع إلهاماته وتعاليمه وكونه على صورته – قد خرج من العصر الأول الذي أشرت إليه (أي عصر وحياة الدين المسيحي): ويبدو أنه، وقد صار حرا ومستقلا، يتقدم بسرعة على طريق التقدم والعلوم، بينما المجتمع الإسلامي لم يتحرر بعد من وصاية الدين. فإذا تذكرنا أن الدين المسيحي قد سبق وجوده في العالم وجود الدين الإسلام بعدة قرون، فإني لا أملك أن أمنع نفسي من الأمل في أن يصل المجتمع الإسلامي ذات يوم إلى تحطيم قيوده وإلى السير بعزم في طريق المدنية على غرار المجتمع الغربي الذي لم يكن الدين المسيحي عقبة في سبيله لا يمكن التغلب عليها، رغم قساوة الدين المسيحي وعدم تسامحه. كلا، لا أستطيع أن أقر بأن الإسلام محروم من هذا الأمل. وأنا هنا لا أدافع، أمام السيد رينان، عن قضية الدين الإسلامي، وإنما عن قضية عدة مئات من ملايين الناس الذين سيقضى عليهم هكذا بالعيش في الوحشية والجهل". (ص 177 – 178 من النص الوارد في ملحق الترجمة المذكورة).
لكن رينان في تعقيبه على ملاحظة جمال الدين هذه يريغ إلى أن يبرأ نفسه من تهمة سوء التمني، على النحو الذي أوردناه من قبل بحروفه، ويقدر أن النهضة التي يتمناها جمال الدين للمسلمين لن تتم بتأييد من الإسلام الرسمي، كما لن تتم النهضة في ديار المسيحيين بتأييد من المسيحية الرسمية. يقول رينان: "أما أن يسهم شيوخ الدين الإسلام في هذا العمل العظيم فهذا أمر سيسرني جدا، ولكن لأتكلم بصراحة ولأقل إنني أشك بعض الشك في أنهم سيفعلون ذلك، ستتكون شخصيات ممتازة (القليلون منهم سيكونون من الامتياز بقدر الشيخ جمال الدين) سينفصلون عن الإسلام، كما انفصلنا نحن عن الكاثوليكية وبعض البلاد مع الزمن ستقطع تقريبا علاقتها بدين القرآن، لكني أشك في أن تتم حركة النهضة بتأييد من الإسلام الرسمي" (مجموع مؤلفاته، جـ 1 ص 964).
وهنا ينبغي أن نلاحظ أن تعليق جمال الدين الأسد أبادي، المشهور بالأفغاني (وهي نسبة اتخذها في الهند للتمويه، والحقيقة أنه إيراني ولد في أسد أباد بإيران) يتسم بتحرر عقلي وصراحة فكرية يثيران الدهشة تماما، لأنهما يخالفان ما استقر قفي أذهان الناس في العالم الإسلامي منذ الربع  الأخير من القرن الماضي وحتى اليوم عن رأيه في الإسلام والحضارة الإسلامية:
1.                 فهو يصرح وبكل وضوح بأن "الحق أن الدين الإسلامي حاول خنق العلم ووقف تقدمه. وعلى هذا النحو أفلح في تعويق الحركة العلمية أو الفلسفية وفي صرف العقول عن الحقيقة العلمية " (ص 178 من النص الوارد في ملحق ترجمة كتاب "الرد على الدهريين ").
2.                 وهو يقرر أن الدين الإسلام، شأنه شأن أية ديانة أخرى هو "نير من أثقل أنواع النير ومن أشدها إذلالا للإنسان" (الكتاب نفسه، ص 177).
3.                 وأنه يؤمل في "أن يصل المجتمع الإسلامي ذات يوم إلى كسر قيوده وإلى السير بعزم في طريق المدنية على غرار المجتمع الغربي" (ص 177 – 178).
4.                 ويتساءل عن السبب في اضمحلال الحضارة العربية، ويعزو ذلك إلى الإسلام !! وهاك نص كلامه:
"ومن المسموح به أن نتساءل كيف أن الحضارة العربية، وبعد أن أشرقت على العالم بنور باهر، قد انطفأت فجاءة ؛ وكيف أن هذه الشعلة لم تعد إلى الاشتعال منذ ذلك الحين، ولماذا يبقى العالم العربي دائما مدفونا في ظلمات عميقة. هنا تتجلى مسؤولية الدين الإسلامي كاملة. من الواضح أنه حيثما استقر الإسلام، فإن هذا الدين سعى إلى خنق العلوم ووجد معوانا رائعا له في استبداد الحكام لتحقيق هذا الهدف" (الكتاب المذكور، ص 184).
5.                 ثم يورد جمال الدين نقلا عن السيوطي – دون أن يشير إلى الكتاب الذي فيه ذكر السيوطي هذا – خبرا مفاده أن الخليفة الهادي قتل في بغداد خمسة آلاف فيلسوف، قاصدا بذلك قتل جرثومة العلوم في البلاد الإسلامية. ويعلق جمال الدين قائلا: "وحتى لو أقررنا أن هذا المؤرخ بالغ في عدد الضحايا، فمن المقرر مع ذلك أن هذا الاضطهاد قد وقع، وهذه وصمة دامية في تاريخ أي دين كما هي كذلك في تاريخ أي شعب" (ص 184).
وهذه الآراء في غاية الجرأة ولقد أفزعت الشيخ محمد عبده وأصحاب الشيخ جمال الدين في بيروت، فامتنعوا عن ترجمتها ونشرها، بعد أن كانوا قد بعثوا إلى باريس يطلبون إرسال نسخة من هذا المقال الذي نشر في جريدة "الديبا"Journal des Débats بتاريخ يوم الجمعة 18 مايو سنة 1883) ممهورا بتوقيع: "جمال الدين أفغاني".
أما محاضرة رينان – وكانت قد نشرت في جريدة "الديبا"Journal des Débats بتاريخ 30 مارس سنة 1883 – فقد ترجمت إلى العربية بعد قليل ونشرت هذه الترجمة مصحوبة بتفنيد لها بقلم حسن أفندي عاصم، في طبعة على الحجر في القاهرة بدون تاريخ.
على أنه ينبغي لفهم آراء جمال الدين الأفغاني (أو على الأصح: الأسد أبادي) هذه أن نتذكر ما يلي:
‌أ-                   جمال الدين كتب هذه التعليقة – ولا نقول: الرد، لأنه يتفق في معظم النقط مع رينان – باللغة الفرنسية ولجمهر فرنسي أو أوروبي بوجه عام، وليس لجمهور إسلامي. فاستباح لنفسه التعبير عما لم يكن يجرؤ التعبير عنه لو توجه، بلغة إسلامية (عربية أو فارسية أو تركية أو أردية) على جمهور إسلامي.
‌ب-           وحاول، كما لاحظت الآنسة جواشون (في ترجمتها لكتاب "الرد على الدهريين" للأفغاني، المقدمة ص 13، باريس سنة 1942), أن "يتغلب على رينان في أرضه" أي في مجال الفكر الحر المتحرر من الدين.
‌ج-             وان يهاجم المسيحية بوصفها دين الدول الاستعمارية التي سيطرت على بلاد المسلمين إما مباشرة وإما بالنفوذ الفعلي (الهند، إيران، مصر، الجزائر، الخ) ساعية إلى نشر المسيحية بدعوى المدنية.
‌د-                 هناك خلط متعمد بين العرب والحضارة الإسلامية. وهو خلط متعمد عند كل من رينان وجمال الدين، مما جعل كلام كليهما مشوبا بالمغالطات.
لكن حسبنا ما قلنا عن محاضرة رينان عن "الإسلام والعلم" وتعليق جمال الدين الأفغاني عليها وتعقيب رينان على هذا التعليق – فلا محل لمزيد من التوسع هاهنا في هذا الموضوع. لكن لا يفوتنا أن ننبه إلى الأهمية البالغة لتعليق جمال الدين الأفغاني فيما يتعلق بتحديد موقفه الفكري: إنه موقف فكر حر، من نوع فولتير، وليس موقف مصلح ديني كما زعم تلميذه محمد عبده ومن سار في إثره ممن قدموا للناس في العالم الإسلامي صورة تتنافى كل التنافي مع حقيقة آرائه واتجاهاته. لقد كان جمال الدين الأفغاني (الأسد أبادي) سياسيا في المقام الأول، ومفكرا متحررا من العقيدة الدينية، ولم يكن الإسلام، عنده، إلا وسيلة للنضال ضد المستعمرين: الإنجليز والروس والفرنسيين، ولم يهدف أبدا إلى الإصلاح الديني بالمعنى المفهوم الدقيق لهذا التعبير. والمسؤول عن تصويره الزائف بصورة "المصلح الديني" هو الشيخ محمد عبده وأصحاب مجلة المنار ومن شابههم من السطحيين في مصر والشام. ولا بد من تحطيم هذه الأسطورة الموغلة في الزيف، أسطورة "جمال الدين الأفغاني المصلح الديني الإسلامي" .] ([12])



[1] - الدكتور قسوم أستاذ الفلسفة جامعة الجزائر انظر كتاب السيد جمال الدين - لمحمد أمان صافي، ص/ 181- 183.
[2] - كذا في الأصل، ولعل الصواب: " فتحوا بلادهم " أي بلاد الحرانيين ليستقيم الكلام.
[3] - المصدر السابق, ص / 184 - 187.
 -[4] زعماء الإصلاح - أحمد أمين, ص / 89 - 90.
[5] - المصدر السابق، ص / 91
[6] - المصدر السابق، ص / 91.
[7] - المصدر السابق، ص/ 91.
[8] - المصدر السابق، ص / 91 - 92.
[9] - فرنسي من سكان الجزائر.
[10] - زعماء الإصلاح,  أحمد أمين، ص / 87 - 88.
[11] - سلسلة الأعمال لجمال الدين, علي شلش، ص / 115.
[12] -  موسوعة المستشرقين لعبد الرحمن بدوي ترجمة ( رينان)ص\314 وما بعدها

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites

 
x

أحصل على أخر مواضيع المدونة عبر البريد الإلكتروني - الخدمة مجانية

أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا:

هام : سنرسل لك رسالة بريدية فور تسجيلك. المرجوا التأكد من بريدك و الضغط على الرابط الأزرق لتفعيل إشتراكك معنا.