الجماعة 19
رضوان محمود نموس
أما المرحلة الخامسة للقانون فهي مرحلة القاضي ابن العربي المالكي.
فقال في كتابه " قانون التأويل ":[ ولا يصح أن يأتي في الشرع ما يضاد العقل فإنه الذي يشهد بصحة الشرع ويزكيه من وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول فكيف يأتي الشاهد بتكذيب المزكي ؟ هذا محال عقلاً وعلى هذا الأصل إنبنت مسائل الدور([1]) أما إنه قد تأتي آيات متشابهات وأحاديث مشكلات يعارض بعضها بعضا ويناقض بعضها دليل الشرع، وهاهنا علم عقلي يستضاء به في هذه السرية، ودليل شرعي يرشد في هذه المضلة.
إن العقل والشرع إذا تعارضا فإنما ذلك في الظاهر لتقصير الناظر وقد يظهر للناظر المقصر أن يجعل الشرع أصلاً فيرد إليه العقل، وقد يرى غيره أن يجعل العقل أصلاً فيرد الشرع إليه، وقد يتوسط آخر فيجعل كل واحد منهما أصلا لنفسه.
فالناظر الذي قدم المعقول سيأتيه من ظاهر الشرع ما يقلب حقيقة الشرع ولا سبيل إليه والذي يجعل العقل أصلاً والشرع تبعاً إن أخذه كذلك مطلقا ورد ما ينكره القلب ببادي الرأي في مورد الشرع مما يستحيل في العقل فإن وقف في وجه الشرع فهو مكذب وإن قال بما في الشرع فهو متناقض وإن توسط فهو الناظر العدل يجعل كل واحد منهما أصلاً عقلاً ونقلاً، وينظم سلك المعرفة من دررهما ولا يعتقد أحد منكم أنه يأتي موضع يعسر فيه التأويل([2]).
المرحلة السادسة جاءت على أيدي الفخر الرازي، والذي وضع القانون بشكله الحالي، فلقد قال في كتابه أساس التقديس:[ إعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذ قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة:
إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين، وهو محال.
وإما أن يبطل فيلزم تكذيب النقيضين، وهو محال.
وإما أن يصدق الظواهر النقلية ويكذب الظواهر العقلية، وذلك باطل. لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على محمد صلى الله عليه وسلم ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهما غير مقبول القول ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معه وأنه باطل، ولمّا بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال إنها غير صحيحة أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها، ثم إن جوزنا التأويل واشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات وبالله التوفيق ([3]).
وبهذا أصبح وفق قانون إبليس بالتعديل السادس: كل نص من آية أو حديث خالف عقول الناس مرفوض وإنّ الشغل به لتأويله فهو على سبيل التبرع.
فهل يريد إبليس أكثر من ذلك، وهذا الذي عليه الأشاعرة إلى الآن.
الماتريدية:
وهي فرقة كلامية تنسب إلى أبي منصور الماتريدي، سلكوا نفس مسلك الأشاعرة من تقديم العقل على النقل وتأسست في نفس الفترة تقريبا، مؤسسها أبو منصور الماتريدي السمرقندي واسمه محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، انتشرت انتشارا واسعا، فلقد تبنت الفقه الحنفي في الأحكام الفقهية، وعندما توسعت السلطنة العثمانية انتشرت بانتشارها فهي موازية للمذهب الحنفي بالانتشار، اختلطت كالأشعرية بالفلسفة والتصوف وأخذت عنها كثيرا وتبنت أقوال أئمة الأشاعرة كالباقلاني والجويني والغزالي والرازي في هذا الباب وأصبحت خليطا من فلسفة + علم كلام + تصوف([4]**).
وما يهمنا من البحث هو قضية تقديم العقل على النقل الذي أصبح قانونا عندهم أيضا. لقد قسم الماتريدية الدّين إلى عقليات وسمعيات، فمعرفة الله وصفاته والنبوة وما إلى ذلك جعلوه من العقليات التي يتقدم فيها العقل على النقل وإذا ذكر النقل فللتعاضد، قال محمد بن عبد العزيز الفرهاري في النبراس شرح العقائد:[ إن الإسلاميين لم يزالوا يلحقون بالكلام مسائل من الفلسفة في معظم الطبيعيات والإلهيات - أي أكثرها - ومما يجب أن يعلم أن علوم الفلسفة من العلمية والعملية نيف وسبعون علما جمعناها في الياقوت، والعلمي منها يرجع إلى ثلاثة أقسام.... ومن علومها علم السيميا وعلم الليميا وعلم الريميا وعلم الهيميا وعلم الفراسة وعلم أحكام النجوم.....
وثالثها الحكمة الإلهية وهي تبحث عما لا يحتاج إلى المادة لا في الخارج ولا في الذهن كالوجود والموجودات والعلة والمعلول وعلم وجود (الواجب)([5]) وصفاته والعقول العشرة وعلم حكمة الإشراق وعلم النبوة والولاية وعلم المعاد وعلم الدعوات ]... ومن أعرض عن الفلسفة رأساً لم يستطع التكلم في دقائق الأمور، اللهم إلا أصحاب القوة القدسية وقليل ما هم فعليك بالاعتدال والإنصاف حتى غاية للإدراج كاد لا يتميز أي الكلام عن الفلسفة لو لا اشتماله على السمعيات وهي أبحاث يكون أكثر المدار فيه على الأدلة السمعية ([6]).
ثم قال عن علم الكلام العقلي:[ إنه رئيس العلوم ورئيس العلوم الدينية وهي ستة: الكلام والتفسير والحديث وأصول الفقه وفروعه والتصوف. ورئيسها الكلام لتوقف الباقي على معرفة الذات والصفات والنبوة، وكون معلومات العقائد الإسلامية أي المعتقدات التي يحصل بها الإسلام وغايته عطف على معلوماته.... جمع برهان بالضم هو الدليل اليقيني والمراد هاهنا مطلق الدلائل الحجج القاطعة أي " العقلية اليقينية "]([7]). وقال:[ إعلم أن العلم ينقسم إلى ضروري ونظري فالنظري ما يحصل بالفكر كقولنا العالم حادث ]([8]). وقال التفتازاني بعد أن ساق عدة آيات [ والجواب أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظاهرها ]([9]).
وقال الزبيدي في شرحه لإحياء علوم الدين:[ وأجيب عنه بجواب إجمالي هو كمقدمة للأجوبة التفصيلية وهو أن الشرع إنما ثبت بالعقل فإن ثبوته يتوقف على دلالات المعجزة على صدق المبلغ وإنما تثبت هذه الدلالة بالعقل فلو أتى الشرع بما يكذبه العقل وهو شاهده لبطل الشرع والعقل معا.
إذا تقرر هذا فنقول: كل لفظ يرد في الشرع مما يستند إلى الذات المقدسة بأن يطلق اسما أو صفة لها وهو مخالف للعقل ويسمى المتشابه، لا يخلو إما أن يتواتر أو ينقل آحاداً والآحاد إن كان نصّا لا يحتمل التأويل قطعنا بافتراء ناقله أو سهوه أو غلطه وإن كان ظاهرا فظاهره غير مراد، وإن كان متواتراً فلا يتصور أن يكون نصا لا يحتمل التأويل، بل لا بد وأن يكون ظاهرا وحينئذ الاحتمال الذي ينفيه العقل ليس مرادا منه ]([10]).
بل لقد قال السعد التفتازاني وهو العالم المقدم عند الماتريدية أن الشرع نزل ليناسب عقول العوام كما قال سلفه ابن سينا. يقول التفتازاني:[ فإن قيل إذا كان الدين الحق نفى الحيز والجهة فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك ؟ من غير أن يقع في موضع واحد تصريح بنفي ذلك.
كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته وحقيّة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع وأكدت غاية التأكيد والتحقيق لما تقرر في فطر العقلاء مع اختلاف الأديان والآراء من التوجه إلى العلو عند الدعاء ومدّ الأيدي إلى السماء.
أجيب: بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة. كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلى إصلاحهم والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرا في التشبيه وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمة الحدوث ]([11]).
والماتريدية اعتبرت نفسها في هذا الموضوع على نفس طريقة الأشاعرة واعتبرت أئمة الأشاعرة أئمة لهم. ولا خلاف في تقديم العقل على النقل ولهذا تراهم يقولون عن أئمة الأشاعرة ما يشعر بذلك.
قال الفرهاري في شرح العقائد:[ الإمام الرازي هو العلامة ملك المتكلمين أبو عبد الله محمد بن عمر. كان أشعري الأصول شافعي الفروع، الملقب بالإمام في كتب الأصوليين والحكمة وقد صنف كتباً كثيرة في الأصول والكلام وله التفسير الكبير المحتوي على العجائب... وذكر بعضهم أنه كان حسن الشكل جدا واحتال أبوه على ذلك برسم صورة حسنة على القرطاس والنظر إليها عند الإنزال ]([12]).
وقال كمال الدين البياضي الحنفي الماتريدي:[ إنهم _ يعني الماتريدية والأشعرية _ متحدوا الأفراد في أصول الاعتقاد وإن وقع الاختلاف في التفاريع بينهما ]([13]).
وقال عصام الدين الحنفي الماتريدي:[ ولك أن تجعل الماتريدية في من تبعة - أي الأشعرية -]([14]).
ولقد صرح الحنفية الماتريدية الديوبندية أنهم أشعرية وماتريدية في آن واحد ([15]).
ونتيجة لتقديم العقل وتحكيمه بالنصوص وصلوا إلى نتائج مزرية نذكر عليها مثالاً واحداً وهي صفة العلو لله.
قالوا:[ يلزم من علوه تعالى أن الله تعالى في جهة وأنه محاط وكل ذلك وصف الخلائق ]([16]). [ ولو كان في جهة لزم قدم المكان والجهة والحيز، ولزم كونه جوهرا وجسما ومركبا، أو يكون محلا للحوادث ]([17]).
وبناءا على هذه الشبهة حرفوا نصوص العلوم وعطلوا الصفة ووصفوا الله بصفات سلبية فقالوا:[ إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه وأنه ليس في الجهات الست ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ]([18]).
وقالوا:[ إنه ليس على العرش ولا على غيره ولا فوق العرش ]([19]).
ويكفّرون من وصف الله تعالى بأنه في السماء، أو وصفه بأنه فوق العرش ([20]). وهكذا عاملوا بقية الصفات.
ولقد رد عليهم من رد على الأشاعرة أمثال الإمام بن تيمية في كتابه القيم " درء تعارض العقل مع النقل " في إحدى عشر مجلداً وابن القيم في كتابه " الصواعق المرسلة " وعد بن القيم خمسمائة عالما ممن رد عليهم، كما رد علماء نجد في كتاب الدرر السنية في ثماني مجلدات. ومن العلماء الجدد سفر الحوالي وشمس الدين الأفغاني وغيرهما. ولا يظن ظان أن هذه المذاهب التي حرفت الكلم عن مواضعه قد انتهت، بل ما زالت في ازدياد ونشاط. بل برز أحفاد المعتزلة القدرية الجهمية الجدد وسنعرض لبعض رموزهم وأقاويلهم.
[1] - الدور: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه.
[2] - قانون التأويل ص 647 - 648 بتحقيق محمد السليماني.
[3] - أساس التقديس ص 172 - 173 طبعة مصطفى الحلبي.
[5] - واجب الوجود يعنون به الله.
[6] - النبراس شرح العقائد ص 23.
[7] - النبراس شرح العقائد ص 23.
[8] - النبراس شرح العقائد ص 34.
[9] - شرح المقاصد 2 / 50.
[10] - شرح الإحياء 2 / 105 - 106.
[11] - شرح المقاصد 2 / 50.
[12] - النبراس في شرح العقائد ص 85 - 86.
[13] - إشارات المرام ص 52.
[14] - النبراس في شرح العقائد ص 229.
[15] - المهند على المفند ص 29 - 30.
[16] - كتاب التوحيد للماتريدي ص 70.
[17] - شرح المواقف للجرجاني 8 / 20. وشرح العقائد النسفية 40.
[18] - بدء الأمالي مع شرح ضوء المعالي 23 والطريقة المحمدية 17.
[19] - أصول الدين لأبي اليسر البزدوي 28.
[20] - البحر الرائق 5 / 120.
0 التعليقات:
إرسال تعليق