لا تكونوا أجراء الطاغوت وعصابته (11)
رضوان محمود نموس
لقد تكلم الباحث في الحلقة السابقة عن الأصول الدينية للأمريكان ويتابع الحديث عن نفس الموضوع في هذه الحلقة
بعد انفصال الملك هنري الثامن عن روما، اقتحمت حركة الإصلاح الديني بريطانيا وتمركزت فيها. وهناك ظهرت أول دعوة لانبعاث اليهود كأمة الله المفضلة في فلسطين، على يد عالم اللاهوت اليهودي البريطاني توماس برايتمان 1562, 1607م فقد نشر كتاب (Apocalypsis Apocalypscos) وهو الكتاب الذي قال فيه: إن الله يريد عودة اليهود إلى فلسطين ليعبدوه من هناك حيث يفضل الله أن تتم عبادته على أي مكان آخر... تحلق حول هذه الدعوة عدد من الشخصيات البريطانية الأدبية والفكرية والسياسية، أحد هؤلاء هنري فنش الذي قال في كتاب له صدر في عام 1621م: (ليس اليهود قلة مبعثرة بل إنهم أمة. ستعود أمة اليهود إلى وطنها، وستعمر كل زوايا الأرض.. وسيعيش اليهود بسلام في وطنهم إلى الأبد) !
منذ القرن السادس عشر تجاوزت اليهودية حدود العقيدة الدينية، وأصبحت أمة ورمزا للقومية، حتى الكتاب المقدس-العهد القديم- تحول منذ ذلك الوقت المبكر من كتاب دين إلى كتاب سياسي يقوم على قاعدة العهد الإلهي للأرض المقدسة للشعب اليهودي المختار. هذه المعتقدات الدينية المسيحية أصبحت جزءا من عقيدة الكنيسة البروتستانتية الجديدة ومن جوهر طقوسها، ومن خلالها تحولت إلى قاعدة عامة للتربية الدينية، خرّجت أتباعا لها ومؤمنين بها من رجال السياسة والأدب والفكر، وشهدت المرحلة البيوريتانية في القرن السابع عشر العصر الذهبي لهذه المعتقدات بعد تراجعها الكبير في العهد الإلزابيثي في هذه المرحلة ظهرت الطبعة الأولى لنسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس، وبموجبها أصبح العهد القديم المصدر الأساسي إن لم يكن المصدر الوحيد للاجتهاد، ولاستنباط الأحكام والفلسفة الدينيتين اللتين فتحتا أبوابهما بعد أن أبيح حق التأويل الشخصي على حساب إسقاط احتكار هذا الحق بالكنيسة عموما وبالبابوية خصوصا.
لعل أبرز مظاهر التطرف في هذا العهد هي:
1. استعمال العبرية لغة الصلاة في الكنائس وفي أثناء تلاوة الكتاب المقدس.
2. تعميد الأطفال في الكنائس بأسماء عبرية بعد أن كان يتم تعميدهم بأسماء القديسين المسيحيين.
3. نقل يوم الاحتفال الديني ببعث المسيح إلى يوم السبت اليهودي.
أما على الصعيد السياسي فإن مجموعة لفلرز، وهي مجموع بيوريتارنية جمهورية، طالبت الحكومة بأن تعلن التوراة دستورا لبريطانيا.
وفي العام 1649م وجه من هولندا عالما اللاهوت البيوريتيان (التطهيريان) الإنجليزيان جوانا وألينزر كارترايت مذكرة إلى الحكومة البريطانية طالبا فيها: (بأن يكون للشعب الإنجليزي ولشعب الأرض المنخفضة شرف حمل أولاد وبنات إسرائيل على متن سفنهم إلى الأرض التي وعد الله بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومنحهم إياها إرثا أبديا) .
تكمن أهمية هذه المذكرة في أمرين:
الأمر الأول: أنها تعبر عن مدى التحول في النظرة إلى فلسطين (والقدس) من كونها أرض المسيح المقدسة (التي قامت الحروب الصليبية بحجتها) إلى كونها وطنا لليهود.
الأمر الثاني: أنها كانت أول تعبير عن التحول من الإيمان بأن عودة المسيح تحتم أن تسبقها عودة اليهود إلى فلسطين، وأن العودتين لن تتحققا إلا بتدخل إلهي، إلى الإيمان بأن هاتين العودتين (عودة اليهود وعودة المسيح) يمكن أن تتحققا بعمل البشر.
كان أوليفر كرومويل أو أهم سياسي بريطاني يتبنى مضمون هذه المذكرة، ذلك أنه كان على مدى عشر سنوات 1649-1658م رئيسا للمحفل البيوريتاني. وهو الذي دعا إلى عقد مؤتمر 1655م في الهوايت هول للتشريع لعودة اليهود إلى بريطانيا (أي إلغاء قانون النفي الذي اتخذه الملك إدوارد) .
حضر المؤتمر إلى جانب كرومويل العالم اليهودي مناسح بن إسرائيل الذي ربط الصهيونية المسيحية بالمصالح الإستراتيجية لبريطانيا، ومن خلال عملية الربط تلك تحمس كرومويل لمشروع التوطين اليهودي في فلسطين منذ ذلك الوقت المبكر.
اعتمد هذا الربط فيما بعد، حاييم وايزمان مع لويد جورج (بعد عشرة أجيال) إن توظيف الدافع الديني لتحقيق مكاسب سياسية ذات بعد استراتيجي أسس القاعدة الثابتة للصهيونية المسيحية، أولا في بريطانيا وأوربا وبعد ذلك في الولايات المتحدة.
في تلك الفترة المبكرة راجت أفكار دينية تقول إن المعاناة التي واجهتها بريطانيا في الحرب الأهلية التي سبقت ظهور الحركة البيوريتانية مردها إلى غضب الله بسبب سوء معاملة اليهود.
ألف ذلك الركيزة الدينية-السياسية- الفكرية الأولى للصهيونية المسيحية في بريطانيا، أما في أوربا فقد قامت الركيزة في هولندا التي تكونت بعد الحرب الدينية بين الكاثوليكية الأسبانية والبروتستنتية الألمانية في العام 1565م بهزيمة القوات الكاثوليكية في العام 1609م تكونت جمهورية هولندا على أساس المبادئ البروتستانتية الكالفينية (نسبة إلى اللاهوتي كالفن) . هذا الانتصار البروتستنتي أدى إلى انتشار تيار المسيحية الصهيونية في أوربا، حتى إنه صدر في فرنسا كتاب للعالم الفرنسي فيليب جنتل ديلانجلير 1656, 1717م دعا فيه إلى مقايضة السلطان العثماني مدينة القدس بمدينة روما تسهيلا لتوطين اليهود في فلسطين، وصدرت كتب مماثلة في ألمانيا والدول الإسكندنافية وخاصة في السويد والدانمارك.
لم تقف أدبيات الصهيونية المسيحية عند حدود الكنيسة فمن أجل تأصيل هذه الأدبيات وتعميمها في جميع شرائح المجتمع، كان لا بد من بناء هيكل أدبي فوق قواعدها الفكرية، عكس ذلك ميلتون في قصيدته الفردوس المفقود حيث يقول: (إن الله سيشق لليهود طريق البحر ليعودوا فرحين مسرورين إلى وطنهم، كما شق لهم طريق البحر الأحمر ونهر الأردن عندما عاد آباؤهم إلى أرض الميعاد، إنني أتركهم لعناية الله، وللوقت الذي يختاره من أجل عودتهم) .
وبالإضافة إلى ميلتون، ترددت أفكار مشابهة في قصائد وأعمال أدبية للورد بايرون وكولر يدج والكسندر بوب ووليم بليك، كما ترددت في كتابات جان راسين وجاك بوسيه. وتعتبر روايات جورج آليوت دانيال ديروندا من الأدبيات التوراتية التي تنبأت بقيام إسرائيل جمهورية تسود فيها العدالة والحرية والرخاء.
هذه التوجهات فلسفها فلاسفة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا الكبار في القرن السابع عشر حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من القناعات التي تفرض نفسها في عملية اتخاذ القرار السياسي في الدوائر الحكومية في كل الدول الأوربية.
يتبع إن شاء الله
0 التعليقات:
إرسال تعليق