لا تكونوا أجراء الطاغوت وعصابته (12)
رضوان محمود نموس
لقد تكلم الباحث في الحلقة السابقة عن الأصول الدينية للأمريكان ويتابع الحديث عن نفس الموضوع في هذه الحلقة
من هذه التربية الفكرية نبتت (جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود) وفي العام 1807م، وكان اللورد أنطوني إشلي كوبر (إيرلشا فتسبري) أحد أبرز أركانها.
ففي العام 1839م نشر مقالا يقع في ثلاثين صفحة أكد فيه أن اليهود سيبقون غرباء حتى يعودوا إلى فلسطين، وأن الإنسان قادر على تحقيق إرادة الله بتسهيل هذه العودة، وأن اليهود هم الأمل في تجدد المسيحية وعودة المسيح، وفي هذا المقال أيضا يرفع أنطوني كوبر، ولأول مرة شعار (وطن بلا شعب لشعب بلا وطن) ]([1]) .
وقال عبد الله التل: [ ولقد مرت الماسونية بمراحل عديدة تهمنا منها مرحلة القرن الثامن عشر الذي شهد مع القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين تطور النفوذ اليهودي وتغلغل سلطانهم عن طريق الماسونية في جميع الحكومات الأوربية والأمريكية. ففي سنة 1717م أعاد اليهود النظر في تعاليم الماسونية ورموزها وغيروا فيها لتناسب الجو البروتستانتي في بريطانيا والولايات المتحدة وأسسوا في ذلك محفل بريطانيا الأعظم وأطلقوا على أنفسهم اسم البنائين الأحرار بعد أن كانوا فيما سبق يحملون (القوة المستورة) وجعلوا من أهداف الماسونية الخادعة (الحرية -الإخاء – المساواة) وهي أهداف زائفة لأن الماسونية لا هدف لها إلا خدمة اليهودية العالمية وتأمين سيطرتها على العالم. ثم ما لبث المحفل الماسوني الأعظم في بريطانيا أن كشف عن بعض نواياه حين جعل من أهداف الماسونية:
1. المحافظة على اليهودية.
2. محاربة الأديان بصورة عامة والكثلكة بصورة خاصة.
3. بث روح الإلحاد والإباحية بين الشعوب.
ومن بريطانيا انتشر أخطبوط الماسونية بشكله الجديد فتأسس بإشراف محفل بريطانيا الأعظم أول محفل ماسوني في باريس عام 1732م وفي جبل طارق 1728م وفي ألمانيا 1733م والبرتغال 1735م وهولندا 1745م والدانمارك 1745م وسويسرا 1740م وإيطاليا 1763م والبلجيك 1765م وروسيا 1771م والسويد 1773م والهند 1752م وفي أمريكا 1733م ]([2]) .
وجاء في كتاب البعد الديني في السياسة الأمريكية: [ (لم تكن أوربا الغربية تنظر إلى اليهود قبل حركة الإصلاح الديني فيها على أنهم شعب الله المختار. كما لم تكن تقول إن فلسطين هي أرضهم التي وعدهم الله بها، ولم تكن هناك أية فكرة تدور حول إسرائيل أكثر من كونها " اسما لدين سماوي وليست كيانا وطنيا ") .
(وإذا ما تابعنا هذا السياق التاريخي، فإن تاريخ العلاقات المسيحية اليهودية يكون قد بدأ مرحلة جديدة مع هذه التغيرات الأساسية في المجتمعات الأوربية، وبخاصة مع بروز حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر، حين تداخلت في هذه الحركة أساطير صهيونية، وتسربت إليها عبر التفسيرات الحرفية للتوراة، وساعد على تناميها دوافع سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة. وجاءت البروتستانتية لتسمح لأتباعها بحقهم المتساوي في فهم الكتب المقدسة وعارضت الكنائس الأخرى التي تعتبر فهم هذه الكتب وقفا على رجال الكنيسة. والبروتستانتية تعني لغويا الاحتجاج والاعتراض وتدعو إلى حرية القول والرأي. ومن هنا يمكن تفسير العدد الكبير من الفرق والمذاهب المنبثقة عن حركة الإصلاح الديني البروتستانتي.
ويبدو أن البروتستانتية ما كانت لتنمو من دون معرفة كتاب العهد القديم، وهو الكتاب المقدس لدى اليهود والمسيحيين على حد سواء. وهو في مجمله يضم الشعر والنثر والحكم والأمثال والقصص والأساطير والغزل والرثاء... الخ.
وقد لحقه الكثير من التعديلات والإضافات طوال الأجيال. وتعددت فيه النصوص والترجمات والتصحيحات وهو تراث شعبي لا سند له إلا الذاكرة. فكانت مساهمات البشر فيه كثيرة على مدى تسعة قرون وبلغات مختلفة. وعموما، فإن العهد القديم هو تاريخ اليهود، ولم يكتسب شكله النهائي إلا في القرن الأول بعد الميلاد -ميلاد السيد المسيح عليه السلام- وقد اعتمدت المسيحية التوراة العبرية، لكنها أدخلت عليها بعض الإضافات والحذف. وحينما أمر الملك هنري الثامن ملك إنكلترا عام 1538م بترجمة التوراة للغة الإنجليزية ونشرها وإتاحتها للقراءة من قبل العامة، كان بذلك يضع اليهودية -تاريخا وعادات وقوانين- لتكون جزءا من الثقافة الإنجليزية، ولتصبح ذات تأثير هائل في هذه الثقافة على مدى القرون الثلاثة التالية.
تؤكد المؤرخة اليهودية تشمان أنه من دون هذا التراث التوراتي فإنه كان من المشكوك فيه صدور وعد بلفور باسم الحكومة الإنجليزية عام 1917م، أو انتدابها على فلسطين، رغم وجود العوامل الاستراتيجية التي برزت على المسرح فيما بعد وصار يطلق على التوراة المترجمة " التوراة الوطنية لإنكلترا " وكان لها من التأثير على روح الحياة الإنجليزية أكثر من أي كتاب آخر. وصارت قصص التاريخ اليهودي المادة الرئيسية في الثقافة الإنجليزية والمعرفة التاريخية للإنجليز. كما لوحظ أنه كلما ركزت البروتستانتية على الأصول (الفلسطينية) للمسيحية عملت على تقليص دعاوى وطموحات الكنيسة الكاثوليكية في روما.
وهكذا أخذت إنجلترا تتعرف على تاريخ اليهود من خلال هذه التوراة وأسفارها، التي تحوي أساطير وأشعارا وأمثالا ونبوءات وقصص أنبياء بني إسرائيل وملوكهم وأسباطهم وتعاليمهم وطقوسهم الاجتماعية والمدنية والدينية ونفيهم وخروجهم من مصر وفلسطين وحروبهم وأغانيهم ومراثيهم.
وأكثر من ذلك فقد أصبحت فلسطين في قراءات الكنائس ومواعظها وفي العقل المسيحي في أوربا البروتستانتية الأرض اليهودية، وصار اليهود " شعب فلسطين الغرباء في أوربا والغائبين عن وطنهم والعائدين إليه في الوقت المناسب ".
وتتحدث المؤرخة تشمان عن تأثير العهد القديم في الأدب الإنجليزي وبخاصة في الشعر والغناء. ويذكر مؤرخ يهودي آخر هو سيسيل روث عن صدور مطبوعات تمجد اليهود وتطالب بإعادتهم إلى إنكلترا. وقد ترجمت إلى الأسبانية ليسهل تداولها بين يهود هولندا وإنكلترا المهاجرين من أسبانيا والبرتغال. وبذلك فتح الباب واسعا أمام الكنسية البروتستانتية والحكومة الإنجليزية للترحيب باليهود كعقيدة وتاريخ وفقا للتوراة، وكأفراد يتمتعون بمهارات تجارية فائقة وصلات مؤثرة في عدد من الدول الأوربية وبخاصة هولندا التي كانت إنجلترا تسعى إلى جرها للتحالف معها أو لمنافستها تجاريا بمساعدة اليهود.
أخذت اللغة العبرية باعتبارها لغة التوراة تحتل مكانها بجانب اللغات الإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية. وصارت المعرفة بالعبرية جزءا معترفا به في الثقافة الأوربية، وأخذ الإصلاحيون يعتبرونها ضرورية لفهم محتوى التوراة. ومع نهاية القرن السادس عشر كانت قد دخلت العبرية حروف الطباعة. ولم يقتصر هذا الدعم للظاهرة العبرية على رجال وأتباع الكنيسة البروتستانتية، بل تعداه إلى أوساط المثقفين وأهم من ذلك إلى أوساط الهيئات القضائية ذات التأثير الكبير في المجتمع. وتبع ذلك دخول دراسات عبرية في الجامعات البريطانية ودول أوربية غربية أخرى، مما أدى إلى توافر العديد من الدارسين للعبرية ممن اعتمد عليهم الملك جيمس الأول 1603-1625م في ترجمة العهد القديم.
لقد أدى انتشار العبرية والدراسات اليهودية في الجامعات والثقافة الأوربية إلى إحداث التأثيرات التالية:
1. إمكانية قبول التفسير اليهودي للعهد القديم، ولا سيما التفسير المتعلق بمستقبل استعادة اليهود لفلسطين.
2. اقتناع طلبة الجامعات والباحثين بأن كلمة إسرائيل الواردة في العهد القديم تعني كل الجماعات اليهودية في العالم.
3. قبول التفسير بارتباط زمن نهاية العالم بعودة المسيح الثانية، وإن هذه العودة مرتبطة بمقدمة تشير إلى عودة اليهود إلى فلسطين.
ومن الملفت في هذا المجال أن البيوريتانيين أوالتطهريين صنفوا أنفسهم أبناء إسرائيل. واستخدم بعضهم العبرية في صلواته، وذهب بعضهم إلى حد اعتناق اليهودية وبشكل عام كان التعاطف مع اليهود يترسخ يوما بعد يوم وبخاصة مع الفكرة المعروفة " شعب الله القديم ".
وما إن حل القرن السابع عشر حتى أخذت ظاهرة "إحياء السامية" كما أسماها المؤرخ اليهودي سيسيل روث تفرض نفسها وتكتسب الاعتراف بها في الأوساط الرسمية والشعبية.
اتصفت هذه الظاهرة بمظاهر ثلاثة: الأول منها التعاطف مع اليهود، الثاني الخجل مما عانوه في الماضي، والثالث الأمل في تحقيق نبوءة عودة اليهود إلى فلسطين. وصارت فلسطين بالنسبة إلى إنكلترا " الوعد بإيفاء النبوءة بإعادة اليهود إليها وذلك ليس حبا باليهود بل من أجل الوعد الذي أعطي لهم ".
وصارت هذه الفكرة شائعة وشعبية بعد أن كانت فلسطين في الفكر الشعبي معروفة بأنها الأرض المقدسة المسيحية والتي من أجلها أعلنت الحروب الصليبية ضد العرب والإسلام وتبع ذلك أيضا صدور منشورات وعرائض وكتب ومؤلفات تتحدث مع شعب الله القديم وإسرائيل والقدس واستعادة مملكة إسرائيل، من أجل أن تظهر مملكة المسيح حين يتحول عندها كل اليهود إلى المسيحية. ومن بين هذه الكتابات التي كانت نتاجا طبيعيا للثقافة والمناخ الديني السائدين في ذلك الوقت البحث الذي وضعه السير هنري فنش، المستشار القانوني لملك إنجلترا ونشره عام 1621، بعنوان الاستعادة العظمى العالمية، واعتبر أول المشروعات الإنجليزية لاستعادة فلسطين لليهود " حيث طالب الأمراء المسيحيين بجمع قواهم لاستعادة إمبراطورية الأمة اليهودية ".
0 التعليقات:
إرسال تعليق