لا تكونوا أجراء الطاغوت وعصابته (14)
رضوان محمود نموس
لقد تكلم الباحث في الحلقة السابقة عن الأصول الدينية للأمريكان ويتابع في هذه الحلقة عن الدور الماسوني وتسابق البروتستانت في خدمة يهود
إن من أبرز الأمثلة على صحة هذا القول، الدور الذي لعبه لورد بلفور في إخراج أهم أجزاء المشروع الصهيوني، وهو إنشاء دولة إسرائيل إلى النور، والاعتراف الدولي المبكر بهذا المشروع. فقد كان لثقافته وقناعاته الدينية دور مهم في بلورة موقفه السياسي من المشروع الصهيوني، وإصداره لوعده في 2تشرين نوفمبر 1917م. والأمر كذلك كان بالنسبة إلى ديفيد لويد جورج الذي أصبح رئيسا لوزرا إنكلترا عام 1916م، وقد أقر بأن معرفته بتاريخ اليهود وبأسماء الأماكن اليهودية في فلسطين أكثر من معرفته بتاريخ بلاده. ولم تكن هذه المعرفة إلا نتاج المناخ الديني الذي أفرزته حركة الإصلاح البروتستانتي على مدى قرون، وبخاصة انتشار قصص العهد القديم في الثقافة الإنجليزية. وفي اعتقاد المؤرخة اليهودي تشمان أن تبني بلفور ولويد جورج لإعلان بلفور كان قائما، في جزء كبير منه على تعاطفها التوراتي مع اليهود، أكثر منه كمكافأة للزعيم الصهيوني اليهودي وايزمان على ما قدمه إلى إنكلترا من خدمات علمية، أو بهدف كسب اليهود الروس للتأثير على تطور الأحداث الداخلية هناك في ذلك الوقت... إضافة إلى كسب اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية واستخدام نفوذهم لمصلحة إنكلترا الحربية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحركة الصهيونية اليهودية السياسية لم تكن في تلك المرحلة ذات تأثير كبير على يهود روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية, وتذكر المؤرخة اليهودية تشمان أن الحكومة الإنجليزية كانت إما ساذجة أو جاهلة بالنسبة إلى معرفة نفوذ اليهود هناك.
ولكن كيف تشكلت صهيونية بلفور المسيحية؟
تقول ابنة أخته ومؤرخة حياته السيدة بلانش دوغاديل: لقد تأثر بلفور منذ نعومة أظفاره بدراسة التوراة في الكنيسة وكان كلما اشتد عوده زاد إعجابه بالفلسفة اليهودية، وكان دائما يتحدث باهتمام عن ذلك. وما زلت أذكر أنني في طفولتي اقتبست منه الفكرة القائلة بأن المسيحية وحضارتها مدينتان بالشيء الكثير لليهودية، لكنهما سددتا هذا الدَّيْن في أبشع صورة.
وقد كانت أطروحات "شعب الله المختار وحقه في أرض الميعاد وتحقيق النبوءة بتجميع اليهود في دولة إسرائيل في فلسطين من أبرز معتقدات بلفور التوراتية التي ورثها في طفولته وتربى عليها في نشأته في إحدى الكنائس الإنجليزية الأسكوتلندية" كما يقول دونالد واغتر.
ويلفت النظر أن بلفور لم ير في اليهود مجرد " أداة لتحقيق العصر الألفي المسيحي " بل أصر على اعتبارهم منفيين يعيشون بعيدا عن وطنهم، فخالجته الفكرة القائلة بوجوب إعادة وطنهم القديم إليهم. ومما يذكر عنه أنه حينما اجتمع في عام 1906م مع الزعيم الصهيوني اليهودي وايزمان 1952,1874م في فندق مانشستر أكد له على ضرورة أن تقدم المسيحية كل قدراتها إلى اليهود لتحقيق فرصة العودة إلى وطنهم.
وكان بلفور من السياسيين البريطانيين المطلعين على التاريخ اليهودي، وقد اعتبر أن تحطيم الرومان مملكة اليهود القديمة كان أحد أعظم الأخطاء في التاريخ، ويقول عنه بيتر غروز، أحد كبار الصحفيين في جريدة نيويورك تايمز الأمريكية الذي عمل في لجنة التخطيط في وزارة الخارجية في عهد إدارة الرئيس كارتر، والذي يشغل حاليا منصب مدير دراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك:" لقد كان بلفور أكثر فهما من هرتزل لطموحات الصهيونية ".
وهو يقول على لسان بلفور:" إذا كان لا بد من إيجاد وطن للشعب اليهودي فإنه من العبث البحث عن أي مكان غير فلسطين ".
كما يذكر أن بلفور أعلن صراحة إثر مغادرته واشنطن في أيار مايو 1917م:" أنا صهيوني ". وذلك بعد أن وضع الخطوط النهائية للوعد المسمى باسمه وإثر اجتماعه مع الرئيس الأمريكي ويلسون ولقائه القاضي الصهيوني اليهودي لويس برانديز.
تردد الكاتبة شريف التصريح وتضيف أن "بلفور ولويد جورج كان كلاهما يعترف بأنه صهيوني" فلويد جورج كانت له صلات مبكرة مع هرتزل منذ عام 1903م حتى قبل لقائه مع وايزمان عام 1915م، وحديثه وإعجابه بعبقريته الكيميائية إذ يعترف بأن الأسيتون، وهو اختراع وايزمان الكيميائي قد حوله إلى الصهيوينة. وهذا القول هو جزء من المقولة الخاطئة والقائلة بأن وعد بلفور جاء مكافأة لوايزمان على ما قدمه من خدمات لجهود إنكلترا الحربية بعد أن عمل وايزمان ككيميائي في وزارة الذخيرة الإنجليزية.
واضح أن إنكلترا كانت تدرك ما لفلسطين من أهمية إستراتيجية في توطيد مصالحها في المشرق العربي. إلا أن الخلفية الدينية المؤمنة بقصص العهد القديم وتفسيراته العبرية لكل من لويد جورج رئيس الوزراء، وآرثر بلفور وزير خارجيته، كان لهما أثر كبير في تحريك مواقفهما السياسية ودفعهما نحو إصدار الوعد الذي كان أول اعتراف دولي بالصهيونية السياسية وبمشروعها إقامة دولة لليهود في فلسطين.
وتكمن أهمية وعد بلفور من وجهة نظر صهيونية سياسية في اعترافه بوجود شعب يهودي على شكل أمة. وقد تم الاعتراف الدولي بذلك بعد تجسيد الوعد في عملية الانتداب الإنجليزي على فلسطين وإدماجه بها، وبعد إقراره في مؤتمر سان ريمو عام 1920م، وضمان عصبة الأمم المتحدة له في عام 1922م لقد تبنى وعد بلفور من وجهة نظر الأهداف الصهيونية حين أنكر وجود شعب فلسطين العربي الذي لم يشر إليه الوعد إلا بالطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين. ومن ناحية أخرى التقى هذا الوعد مع تفسيرات الصهيونية المسيحية وقناعاتها منذ حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، بأن فلسطين ليست بلدا عربيا بل هي وطن يهود. فقد جاء الوعد خاليا من ذكر عروبة الأرض والسكان العرب فيها. ولم يعن سوى أن مستقبل فلسطين سيكون دولة لليهود. وبهذا الوعد تكون الصهيونية المسيحية الأوربية قد جسدت أطروحاتها الدينية عمليا، بادئة مرحلة جديدة من التعاون الوثيق بينها وبين المصالح الإمبريالية الغربية.
وقد انتقلت الصهيونية المسيحية منذ بداياتها الأولى إلى الولايات المتحدة الأمريكية فالبيوريتانيون (التطهريون) هم مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية وكان تطور النظام العالمي يتجه باستمرار نحو إحداث تغييرات في مواقع القوى العظمى ومراكز الإدارة الدولية) ]([1]) .
والبروتستانتية هي أكثر الطوائف الدينية عددا في الولايات المتحدة الأمريكية وتضم أكثر من مائتين طائفة مثل المنهجيين والمشيفيين والأسقفيين والمعمدانيين... الخ. يجمعهم شيء واحد هو حب اليهود والعمل لأجلهم واعتبار التوراة هي الأصل.
[ ويمثل الخط العام البروتستانتي الذي يضم كنائس التنمية والطبقة العليا في المجتمع الأمريكي وتسمى كنائس البروتستانت الإنكلوسكسون البيض والتي تختصر بكلمة واسب (WASP) وهي أهم الكنائس تأثيرا في صياغة السياسة الأمريكية ]([2]) .
ويقول أنور الجندي:[ فإن البروتستانتية تختلف عن ذلك وتؤمن بالأسطورة اليهودية في الشعب المختار وقد استطاع اليهود احتواءهم وتوجيههم إلى هذا عن طريق نشر الكتاب المقدس جامعا للعهد القديم والعهد الجديد وما يتصل بتدريس هذه المعاني في مختلف معاهد البلاد التي تدين بالبروتستانتية وقد استطاع اليهود بتفسيراتهم المضللة التي قدموها إلى الغرب المسيحي تحويل هذه الأسطورة إلى حقيقة ومع أن المسيحية كانت منذ بدايتها دحضا صريحا لكل آمال اليهود قائلة:"هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا" فإننا نجد أن المسيحية قد تحولت إلى أكبر مساند عنيد لتحقيق آمال اليهود ومطامعهم. خضعت البروتستانت أولا ثم ها نحن نرى أن الكاثوليكية قد خضعت في السنوات الأخيرة حين أعلنت تبرئة اليهود من دم المسيح، وسمحت للمسيحيين بالانضمام إلى محافل الماسونية]([3]) .
وجاء في كتاب المؤامرة الخفية:[ إن المذهب البروتستانتي الذي أنشأه لوثر في ألمانيا وما لف لفه من مذاهب خرجت على الكثلكة والأرثوذكسية تعترف بالعهد القديم وهذه المذاهب حين ربطت العهد الجديد (الإنجيل) بالعهد القديم (التوراة) إنما تهودت بطريق غير مباشر وأنصارها يعلمون أو لا يعلمون، والقديم كما يلقن الماسون عميانهم آصل وأصدق من الجديد ولذلك فيهودية البروتستانتي ومن لف لفه آصل وأصدق من يهودية اليهودي لأن اليهودي يبقى طول عمره تلمودي لا توراتي، لا يؤمن إلا بما جاء في التلمود من تفاهات ويقدم أقوال الحاخامات والأحبار على أقوال التوراة لأن القضايا بالنسبة له ليست قضايا نصوص أما المسيحيون المتهودون أو اليهود المتمسحون فإنهم يؤمنون بالتوراة قبل الإنجيل هذا إذا كان فيهم من يؤمن بالإنجيل ]([4]) .
وإذا أخذنا مثلاً الكتاب المقدس طبعة عام 1983م وجدنا العهد القديم: التوراة تشكل منه 1358 صفحة, بينما إنجيل متَّى 53 صفحة, ومرقص 33 صفحة, ولوقا 55 صفحة, ويوحنا 43 صفحة, علما أن ما بالأناجيل هو مكرر فإذا اخترنا أكبرها وهو لوقا كان 55 صفحة مقابل التوراة 1358 صفحة. أما رسائل بولس وأعمال الرسل وهي من صنع بولس اليهودي فهي 205 صفحات, فصار المجموع 1563 صفحة ثقافة وتعاليم يهودية مقابل 55 صفحة تعاليم منسوبة للمسيح. إذا علمنا هذا علمنا أي جناية جناها البروتستانت في تهويد المسيحيين باعتمادهم وجمعهم التوراة مع الإنجيل, واعتبارهما الكتاب المقدس للبروتستانت. وإذا علمنا هذا فلا نستغرب هذا الاندفاع من البروتستانت في تحقيق أحلام اليهود.
وباستعراض سريع للمواقف التالية في تاريخ البروتستانت يتضح لنا الموقف أكثر:
ويقول (أيوجين روستو) مستشار الرئيس الأمريكي جونسون: [إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته وعقيدته ونظامه، وذلك يجعلها تقف معاديةً للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها ]([5]).
والجنرال اللنبي الذي تحالف معه القوميون العرب ودخلوا القدس سوية عام 1335هـ أعلن هناك قائلاً:[ الآن انتهت الحروب الصليبية ]([6]).
أما الجنرال غورو الذي دخل دمشق بعد معركة ميسلون عام 1340هـ ذهب مباشرة إلى المسجد الأموي ووقف أمام ضريح صلاح الدين الأيوبي وقال:[ ها قد عدنا يا صلاح الدين ]([7]).
ويقول (غلادستون) رئيس وزراء بريطانيا:[ مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان ]([8]).
وقال راندولف تشرشل:[ لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلم المسيحيين واليهود على السواء، إن سرور المسيحيين لا يقل عن سرور اليهود، إن القدس قد خرجت من أيدي المسلمين، ولن تعود إلى المسلمين في أية مفاوضات مقبلة ]([9]).
وصرح الكاردينال بور الألماني لمجلة تابلت الإنجليزية يوم سقوط القدس:[ (إن المسيحيين لا بد لهم من التعاون مع اليهود للقضاء على الإسلام). وفي نفس الفترة أيضاً قام جان بولسارتر في فرنسا بمسيرات ترفع لافتات (قاتلو المسلمين)، وجمع مليار فرنك فرنسي لمساعدة اليهود]([10]).
وقال الرئيس الأمريكي نكسون:[ إن صراع العرب ضد اليهود يتطور إلى نزاع بين الأصوليين الإسلاميين من جانب، وإسرائيل والدول العربية المعتدلة من جانب آخر ]([11]).
وقال أيضاً:[ يجب على روسيا وأمريكا أن تعقدا تعاوناً حاسماً لضرب الأصولية الإسلامية ]([12]).
ولقد قال بوش مرات عديدة في خطبه بعد غزوتي منهاتن وواشنطن عام 1422هـ: [ لقد بدأت الحرب الصليبية المقدسة ]([13]).
هذه أقوال الغرب الصليبي التنظيرية، أما مواقفه التنفيذية في دعم اليهود بناءً على النظريات التوراتية فهذه محطات هامة منها، ليتضح لنا الموقف أكثر:
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق