موقع ارض الرباط

موقع ارض الرباط
موقع ارض الرباط

الثلاثاء، 29 مايو 2012

في رحاب العلماء(37) لله الحكم والأمر للشهيد عبد القادر عودة


في رحاب العلماء(37)

رضوان محمود نموس

لله الحكم والأمر للشهيد عبد القادر عودة([1])
لمن الحكم ؟
هذا سؤال لا تصعب الإجابة عليه بعد أن علمنا أن الله هو خالق الكون ومالكه ، وأنه أستعمر البشر واستخلفهم في الأرض ، وأمرهم أن يتبعوا هداه ، وأن لا يستجيبوا لغيره ، فكل ذي منطق سليم لا يستطيع أن يقول بعد أن علم هذا إلا أن الحكم لله ، وأنه جل شأنه هو الحاكم في هذا الكون ما دام هو خالقة ومالكه ، وأن على البشر أن يتحاكموا إلى ما أنزل ويحكموا به ، لأنهم من وجه قد استخلفوا في الأرض استخلافاً مقيداً باتباع هدى الله ، ولأنهم من وجه آخر خلفاء لله في الأرض ، وليس للخليفة أن يخرج على أمر من استخلفه . وقد جاءت نصوص القرآن مؤيدة لهذا المنطق البشري السليم ، فهي تلزم البشر باتباع ما جاء من عند الله ، وتحرم عليهم تحريماً قاطعاً اتباع ما يخالفه : ((اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)) 
الأنعام :106 ((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء)) الأعراف/3. وقد علمنا الله أن الحق شيئا واحد لا يتعدد ، وأنه ليس في الدنيا إلا حق أو باطل ، وليس بعد الحق إلا الضلال ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) يونس 32. كما علمنا أنه أرسل رسوله محمداً صلى الله علية وسلم بالحق ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)) البقرة/119. وأن الكتاب الذي أنزل عليه جاء بالحق : ((نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)) آل عمران /3.(( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ  ))النساء /105.

وإذا كان الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق : ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ))  التوبة /33. فإن الذين يستجيبون للرسول ولما جاء به أنما يستجيبون للحق ويتبعون الهدى .
أما الذين لا يستجيبون للرسول ولما جاء به من الحق فقد علمنا الله أنهم يستجيبون للضلال ويتبعون أهواءهم ، وأن أعظم الناس ضلالا هو من اتبع هواه ولم يهتد بهدي الله : ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) القصص/50.
وقد جعل الله ما أنزله على رسوله شريعة لنا ، وأوجب علينا أن نتبعها ونلتزم حدودها ، ونهانا عن اتباع تشريعات الناس وقوانينهم ، فما هي إلا أهواؤهم وضلالاتهم يصوغونها تشريعات وقوانين يضلون بها البشر ويصرفونهم عن شريعة الله ، وهم مهما تعلموا وعلموا لا يعلمون شيئاً في جنب علم الله الذي أحاط بكل شيء علما، والذي يعلم ما فيه هداية البشر وخيرهم : ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) الجاثية /18.

والشريعة التي أنزلها الله على رسوله وألزمنا أتباعها والعمل بها ليست إلا كتاب الله الذي يقرؤه المسلمون ويستمعون إليه في كل صباح ومساء ((وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) الأنعام /155. وهذا الكتاب هو القرآن الكريم ، ((كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) فصلت /3.
ولقد كان في النصوص السابقة ما يكفي للقطع بأن الحكم في البلاد الإسلامية يجب أن يكون طبقاً للشريعة الإسلامية ، لأن اتباع ما أنزل الله يقتضي أن يكون الحكم بما أنزل الله ، وأن يكون الحكام قائمين على أمر الله ، ذلك أنه إذا استطاع البعض أن يتبعوا أمر الله فيما يتصل بذواتهم وفيما هو في أيديهم فما يستطيعون أن يتبعوا أمر الله فيما يتصل بغيرهم وفيما هو في أيدي الغير، وإذا استطاعوا أن يتبعوا أمر الله عند الاتفاق فما يستطيعون أن يتبعوه عند الاختلاف ، وإذا استطاعوا أن يتبعوا أمر الله فيما هو للأفراد فكيف يستطيعون أن يتبعوه فيما هو للحكام إذا لم يكن الحكام مقيدين باتباع ما أنزل الله ؟ .
وكان يكفي أن نعلم أن الله أوجب علينا عند التنازع والاختلاف أن نتحاكم إلى ما أنزل الله ونحكم فيه المتنازع عليه والمختلف فيه بحكم الله ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرسول)) النساء /59. ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) الشورى /10. كان يكفي أن نعلم هذا لنقطع بأن الحكم لله ، وان الحكام والمحكومين في كل بلد إسلامي يجب أن يتقيدوا في كل تصرفاتهم واتجاهاتهم بإتباع ما أنزل الله ، وأن يجعلوا دستورهم الأعلى كتاب الله .
ولكن الله جل شأنه ، وهو أعلم بالإنسان ، وبأنه أكثر شي جدلاً جاءنا بنصوص لا سبيل فيها إلى جدال أو استنتاج ، تقضي بأن الحكم لله في الدنيا وفي الآخرة ((وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) القصص/70. وتبين لنا أن الله لم يرسل الرسل إلا مبشرين ومنذرين ولم ينزل الكتب إلا ليتخذها الناس دستوراً في حياتهم الدنيا ، يحكمونها ويحكمون بمقتضاها في كل شؤونهم ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)) البقرة /213.
ومن هذه النصوص القاطعة نعرف أن الله أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون دستور البشرية وقانونها الأعلى ، وليقضي الرسول بين الناس على مقتضى أحكامه كما علمه الله ((إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)) النساء /105.
ونعرف أن الله جل شأنه نفى الإيمان عن العباد وأقسم بنفسه على ذلك حتى يحكموا الرسول فيما يشجر بينهم ليحكم فيه بحكم الله ، ولم يكتف الله تعالى في أثبات الإيمان لهم بهذا التحكيم المجرد بل اشترط لاعتبارهم مؤمنين أن ينتفي عن صدور الحرج والضيق من قضاء الرسول وحكمه ، وأن يسلموا تسليماً وينقادوا انقيادا لما حكم به ، ولن يحكم إلا بما أنزل الله وبما أراه إياه ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) النساء /65.
ومن هذه النصوص القاطعة نعرف أن الله أمر أن يتحاكم الناس إلى ما أنزله على رسوله ويحكموا به ، وأنه تعالى حذر من أتباع الأهواء والحكم بها ، وأمر أن يكون الحكم كله مطابقاً لما أوحى به ، كما حذر الحاكم من أن يترك بعض ما أنزل الله أو أن يفتن عنه ((َفاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)) المائدة /48, ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)) المائدة/49,((وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ)) الرعد/37.
ومن هذه النصوص نعرف أن الله جعل الحكم بما أنزله أحسن حكم وأفضله ، وأنه نسب الحكم بما أنزل إلى نفسه فجعله حكم الله وأنه جعل الحكم بما عداه حكماً جاهلياً يقوم على الباطل ، وأنه وصف من يبتغي غير حكم الله بأنه يبغي حكم الجاهلية القائم على الأهواء والضلال((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) المائدة/50.
ومن هذه النصوص القاطعة نعرف أن الله حرم الحكم بغير ما أنزل ، كما حرم عليهم الكفر والظلم والفسوق والعصيان ، وجعل من لم يحكم بما أنزل الله كافراً وظالماً وفاسقاً ، فقال جل شأنه ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))المائدة/44. ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) المائدة 45. ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) المائدة 47.
ولقد عبر القرآن عن الكفر بلفظ الظلم ، ومن ذلك قوله تعالى ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) لقمان /13. وقوله ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) البقرة 254وقولة ((وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ)) العنكبوت /49. كذلك عبر القرآن عن الكفر والظلم بالفسق من ذلك قوله تعالى ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ )) البقرة /99. وقولة ((إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ )) التوبة : 84 ، وقولة ((وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) النور /55. وقولة ((فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)) البقرة /59. وقولة ((وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)) الأعراف/165.
وإذا كان الظلم والفسق بمعنى الكفر فيكون فسق من لم يحكم بما أنزل الله و ظلمه هو الكفر ، ويكون من لم يحكم بما أنزل الله كافراً في كل الأحوال بنص القرآن , ولكن بعض المفسرين يفسرون الظلم بالانحراف عن الحق ويفسرون الفسق بالعصيان ، ويجمعون بين الآيات الثلاث في التفسير ، فيرون أن من يستحدث من المسلمين أحكاماً غير ما أنزل الله ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته ، فإنه يصدق عليه ما قاله الله ، كل بحسب حاله ، فمن أعرض عما أنزل الله لأنه يفضل عليه غيره من أوضاع البشر فهو كافر قطعاً ، ومن لم يحكم به لعله أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان في حكمه مضيعاً لحق أو تاركاً لعدل أو مساواة ، وإلا فهو فاسق.
الحكم من طبيعة الإسلام :
هذه بعض نصوص القرآن التي تعرضت للحكم ، وليس بعد ما ذكرنا حجة لمحتج ولا سبيل لجدال ، فليعرف المسلمون أحكام دينهم ونصوص شريعتهم ، ثم ليأخذوا عن بينة وليدعوا عن بينه ، أما أن ينطلقوا وراء تلاميذ المبشرين وأذناب المستعمرين ويدعوا مثلهم أن الإسلام لا علاقة له بالحكم ، ولم ترد فيه نصوص عن الحكم فذلك هو الجهل المطبق والجدل المنكر وأي جهل أشد من جهل رجل يدعي لنفسه صفة لا يعرف ماهيتها ، فيدعي لنفسه الإسلام وهو يجهل حقيقة الإسلام ، وأي جدل أنكر من جدال جاهل ويحتج على الناس بجهلة ، ويريد منهم أن ينكروا ما علموه لأنه بجهله أو لا يريد أن يتعلمه .
أن الإسلام يلزم الناس باتباع ما أنزل الله ويوجب عليهم أن يتحاكموا إلى ما جاء من عند الله ويحكموا به وحده دون غيره وليس لذلك معنى إلا أن الحكم هو الأصل لجامع في الإسلام وللدعامة الأولى التي يقوم عليها الإسلام .
إن كل من له إلمام بالإسلام يعلم حق العلم أن الحكم في الإسلام تقضي به طبيعة الإسلام أكثر مما تقضي به نصوص القرآن ، ففي طبيعة الإسلام أن يسيطر على الأفراد والجماعات ويوجههم ويحكم تصرفاتهم ، وفي طبيعة الإسلام أن يعلو ولا يعلى عليه ، وأن يفرض حكمه على الدول ، وان يبسط سلطانه على العالم كله .
إن الإسلام ليس عقيدة فقط ولكنه عقيدة ونظام ، وليس ديناً فحسب ولكنه دين ودولة ، ومن المؤلم حقاً أن يجهل أكثر المسلمين ذلك لأنهم يجهلون كل شيء عن حقيقة الإسلام ، ولا يعلمون عنه إلا أنه عبادات يتلقونها عن طريق التقليد والمحاكاة
الإسلام عقيدة ونظام :
والإسلام عقيدة ومبدأ ما في ذلك شك ولكنه ما كان عقيدة تعتقد ومبدأ يعتنق إلا بعد أن استوى نظاماً دقيقاً شاملاً ينظم كل شأن من شؤون النفس البشرية ، وينظم كل ما تحيط به النفوس من المعاني وما تدركه من المحسوسات ، سواء اتصلت بالأفراد أو الجماعات ، وسواء اتصلت بدنيانا التي نعيش فيها أو بالحياة الأخرى التي نرجوها حياة طيبة .
والإسلام كعقيدة هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولكنه كنظام يسيطر على الإنسان سيطرة تامة ويرسم له منهاجه في الحياة وهدفه منها ، كما يرسم له طرائق العمل التي تؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة .
الإسلام كنظام يسيطر على المسلم في كل حركاته وسكناته ، يسيطر عليه في تفكيره ونيته ، وفي قوله وعمله ، ويسيطر عليه في سره وجهره وفي خلوته وجلوته ويسيطر عليه في  قيامة وقعوده  وفي نومه ويقظته، يسيطر عليه في طعامه وشرابه وفي ملبسه وحليته ، يسيطر عليه في بيعه وشرائه وفي تصرفاته ومعاملاته ، يسيطر عليه في جده ولهوه وفي فرحه وحزنه وفي رضاه وغضبه ، يسيطر عليه في بأسائه ونعمته وفي مرضه وصحته وفي ضعفه وقوته ، يسيطر عليه غنياً وفقيراً صغيراً وكبيراً عظيماً وحقيراً ، يسيطر عليه في بنيه وأهله وفي صداقته وعداوته وفي سلمه وحربه ، يسيطر عليه فرداً وفي جماعة وحاكماً ومحكوماً ومالكاً وصعلوكاً وليس ثمة تصرف يتصوره العقل أو حال يكون عليها الإنسان إلا سيطر فيها الإسلام على المسلم ووجهه الوجهة التي رسمها .
والذين يظنون أن الإسلام عقيدة وليس نظاماً أنما هم جهال لا يعلمون من الإسلام شيئاً ، أو هم أغبياء لا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة الإسلام ، فالإسلام في حقيقته صبغة  يصبغ الله بها عباده المؤمنين((صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)) البقرة /138. ولا يكون المسلم مسلماً آلا إذا أصطبغ بصبغة الإسلام ، ولون نفسه وأهله وتصرفاته وما يحيط به باللون الإسلامي الخالص .
وأجهل من هؤلاء وأشد غباء من يظنون أن مصلحة المسلمين في أن يحافظوا على الإسلام عقيدة وينبذوه نظاماً ، ذلك أن العقائد والمبادئ الإسلامية لا يمكن أن تعيش وتنتشر إلا في ظل النظام الإسلامي الذي تكفل بوضعه الخلاق العليم.
ولست أدري كيف يؤمن هؤلاء بالإسلام عقيدة ولا يؤمنون به نظاماً، أتراه عقيدة من عند الله، ونظاماً من عند غير الله ((قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)) النساء /78.
إن الله الذي جعل الإسلام ديناً هو الذي جعله عقيدة ونظاماً وأن الله ليأبى على الناس أن يبتغوا لأنفسهم ديناً غير هذا الدين ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) آل عمران /85.
ولقد أكمل الله الدين الإسلامي وأتم بإكماله نعمته على الخلق ورضيه ديناً للناس فما يجوز لهم أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه ، وما يجوز لهم أن يرضوا لأنفسهم غير ما رضيه الله لهم ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) المائدة/3, وإذا كان الله جل شأنه قد أختار الإسلام ديناً ورضيه للناس عقيدة ونظاماً ، فكيف يكون لمؤمن أن يختار وقد حرم الله عليه الاختيار ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) الأحزاب /36.
أفلا يعلم هؤلاء أن أحكام الإسلام لا تتجزأ ولا تقبل الانفصال، وأن نصوصه تمنع من العمل ببعضها وإهمال البعض الآخر ، كما تمنع من الإيمان ببعضها والكفر ببعض ، وأن الله جل شأنه توعد من يفعل ذلك بالخزي في الحياة الدنيا وبالعذاب الشديد في الآخرة ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ)) البقرة /85.
ولقد تمنى قوم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يترك الرسول بعض ما أنزل الله ليحكم بما يتفق مع أهوائهم ، فنزل الوحي يأمر الرسول بأن يتمسك بما أنزل الله ، ويحذره من أتباع أهواء هؤلاء الفساق ، ويعلمه أن تحكيم الأهواء هو حكم الجاهلية ، وأن أفضل حكم وأحسنه هو ما أختاره الله لعباده ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ،  أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) المائد/49-50.
أن الذين يريدون أن يفصلوا بين العقيدة الإسلامية والنظام الإسلامي أنما هم أعداء الإسلام عن عمد أو جهل ، فالنظام الإسلامي أشبه ما يكون بالآلة التي تنتج الكهرباء والعقيدة الإسلامية هي النور الذي تعمل الآلة لإنتاجه ، فإذا عطلت الآلة أنقطع النور وانتهى الإسلام , أن الدين الإسلامي يمتاز بأنه أستطاع أن يوحد بين الأجناس والألوان والأمم ، وأن يوجههم جميعاً وجهة واحدة ، وأن يحملهم على نهج واحد وغاية واحدة ، وما استطاع الدين الإسلامي أن يصل لهذا إلا لأنه عقيدة ونظام .
ولقد جاءنا الإسلام بعقائد معينة ولكنه لم يأتنا بها مجردة ، وإنما أتى معها بالنظام الذي تقوم عليه وتحيا به ، وألزمنا أتباعه والتزامه ، وهو نظام دقيق من التربية والتوجيه ، يشمل كل شيء كما قدمنا ، ويتدخل في كل حالة من حالات الإنسان ، وينتقل بالفرد من مرحلة إلى مرحلة حتى ينتهي به إلى مرحلة التخلي عن أنانيته وأهوائه ، ويصل به إلى مرحلة التجرد  لخدمة المبادئ القرآنية والفناء فيها .
وهكذا يربي الإسلام المسلمين تربية واحدة ، ويوجههم توجيهاً موحداً ، ويجردهم لخدمة أهداف واحدة ، فما يطلبه أحدهم وهو ما يطلبه الآخر ، وما تعمل له مجموعة منهم هو نفسه ما تعمل له كل مجموعة أخرى ، وما يؤمله صغيرهم هو ما يؤمله كبيرهم ، وما يضر أحدهم يضر مجموعهم ، فهم على تعدد أشخاصهم وتباعد بلادهم نفس واحدة ، وقلب واحد ، ورجل واحد ، وعلى هذا الأساس شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالجسد الواحد إذا شكا منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
وإذا كان الإسلام في حقيقته عقيدة ونظاماً . فإن طبيعته نقتضيه أن يكون حكماً ، ذلك أن قيام العقيدة يقتضي قيام النظام الذي أعد لخدماتها ، ولا يمكن أن يقوم النظام الإسلامي إلا في ظل حكم إسلامي يماشي النظام الإسلامي ويؤازره ، إذا أن كل حكم غير إسلامي لا بد أن يؤدي إلى تعطيل النظام الإسلامي وإذا كان قيام النظام الإسلامي يقتضي قيام حكم إسلامي فمعنى ذلك أن الحكم الإسلامي من مقتضيات الإسلام أو هو من طبيعة الإسلام .
 عن الإسلام وأوضاعنا السياسية ص 67-79


[1] - (عبد القادر عودة (1321هـ  - 1374 هـ 
عبد القادر عودة  أحد كبار قادة العمل الإسلامي وعَلََمٌ من أعلام الحركة الإسلام المعاصرين.
ولد سنة 1321هـ = 1903 م بقرية كفر الحاج شربيني من أعمال مركز شربين بمحافظة الدقهلية بمصر لأسرة عريقة تعود أصولها إلى الجزيرة العربية
التحق بكلية الحقوق بالقاهرة، وتخرج فيها عام 1930 م، وكان من أول الناجحين.
التحق بوظائف النيابة، ثم القضاء، وكانت له مواقف غايةً في المثالية.
وفي عهد اللواء محمد نجيب عُين عضوًا في لجنة وضع الدستور المصري، وكان له فيها مواقف لامعة في الدفاع عن الحريات، ومحاولة إقامة الدستور على أسس واضحة من أصول الإسلام، وتعاليم القرآن ...
وفي عام 1953 م انتدبته الحكومة الليبية لوضع الدستور الليبي؛ ثقةً منها بما له من واسع المعرفة، وصدق الفهم لرسالة الإسلام.
اشتهر عبد القادر عودة كعالم وفقيه ورجل قانون محنك وخطيب مفوه حصل على قدر كبير من المعرفة بالقوانين الجنائية في مصر، التي درسها دراسة وافية وهو أحد أعلام الفقه الإسلامي المعاصرين، وقد دفعه حبه للشريعة الإسلامية إلى دراسة علوم الفقه الإسلامي، وأكسبته خبرته الواسعة في سلك القضاء بالمحاكم المصرية قناعة وإيمانا بضرورة إحياء علوم الشريعة والمبادرة إلى تطبيقها.
 تعود أسباب تنفيذ حكم الإعدام في الشهيد عبد القادر عودة إلى ما يلي:
1 - أنه وقف موقفًا وطنيًّا خالدًا حين عمد الضباط إلى اتخاذ قرار بعزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية، فأقدم على استلام الراية وابتدر قيادة الحركة، ونظم عشرات الآلاف من الجماهير في مظاهرة لم يشهدها تاريخ مصر كله؛ وهو ما أرغم الضباط والوزراء على الرضوخ لإرادة الشعب وإعادة اللواء «محمد نجيب» رئيسًا للجمهورية المصرية.
ومن هذا اليوم تقرر انتهاز الفرص للانتقام من عبد القادر عودة وإخوانه ... بعد افتعال مسرحية حادثة المنشية (مسرحية اغتيال عبد الناصر).
2 - معارضة عبد القادر عودة لعبد الناصر على إقدامه حل جماعة الإخوان المسلمين سنة 1945 ونصحه له بالعدول عن ذلك لما سيسبب لمصر من قلاقل وآثار سلبية.
3 - ومن الأسباب كذلك أن عبد الناصر أقدم على توقيع معاهدة مع الإنجليز، فقام «عبد القادر عودة» بتناول الاتفاقية تناولاً قانونيًّا، بعيدًا عن أسلوب التحامل والتشهير، فجاءت الدراسة التي سلمت إلى السلطات المصرية في ذلك الوقت، دراسةً قانونيةً تبرز للعيان ما تجره الاتفاقية على البلاد من استبقاء الاحتلال البريطاني مقنعًا، مع إعطائه صفة الاعتراف الشرعية، فضلاً عما يجره على مصر والبلاد العربية من ويلات الحروب دفاعًا عن مصالح الإنجليز والأمريكان، وبذلك ازداد الحكم رغبةً في الانتقام من عبد القادر عودة.
4 - قال الزركلي في الأعلام: لما أمر جمال عبد الناصر بتنظيم «محكمة الشعب» كتب صاحب الترجمة نقدا لتلك المحكمة، وفي جملة ما ذكر أن رئيسها جمال سالم طلب من بعض المتهمين أن يقرأوا له آيات من القرآن بالمقلوب! واتهم بالمشاركة في حادث إطلاق الرصاص على جمال (1954) وأعدم شنقا على الأثر مع بضعة متهمين آخرين.
استشهد عبد القادر عودة في 9 ديسمبر عام 1954 م.
له مجموعة من الكتب الموسوعية التي لا تستغني عنها أي مكتبة قانونية مثل:
- «الإسلام وأوضاعنا القانونية»
- «الإسلام وأوضاعنا السياسية»
- «الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه»
- «المال والحكم في الإسلام»
- «التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي»

يبقى عبد القادر عودة علما من أعلام الدعوة الإسلامية، ورائدا من رواد الفقه والتشريع الإسلامي في العالم العربي والإسلامي، ورمزا للثبات على الحق، متفانيا في دعوته مضحيا بروحه في سبيلها، وشهيدا وفيا لدعوته، صامدا في وجه الظلم والظالمين، وتظل ذكراه محفورة في الوجدان على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على استشهاده، ويظل تراثه الفكري منبعا صافيا ينهل منه طلاب العلم عبر السنين.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites

 
x

أحصل على أخر مواضيع المدونة عبر البريد الإلكتروني - الخدمة مجانية

أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا:

هام : سنرسل لك رسالة بريدية فور تسجيلك. المرجوا التأكد من بريدك و الضغط على الرابط الأزرق لتفعيل إشتراكك معنا.