أرواد ومجتهدون أم فسقة وضالون؟! (36)
رضوان محمود نموس
يعرض محمد عمارة في هذه الحلقة إلى تيار التقليد وكعادته يمارس الخلط والدجل. عمارة هذا الذي وصفه القرضاوي:[بأنه أحد مجددي هذا القرن وأحد الذين هيأهم الله لنصرة الدين الإسلامي من خلال إجادته استخدام منهج التجديد والوسطية.] حسب ما نشر موقع الجزيرة وغيره من المواقع المصدر: (الجزيرة نت) 3/11/2010
1 – تخليطه بقضية تيار التقليد:
اعتبر محمد عمارة أن تيار الأزهر والمدارس الدينية المماثلة, والحركات الصوفية, والدعوة الوهابية, والسلفيون عموماً تيار واحد أسماه (تيار التقليد والمحاكاة للموروث) وهذا منافٍ لأبسط الحقائق ولأوضح البدهيات.
فكل الناس تعلم أن السلفيين وأصحاب الدعوة الوهابية ما قاموا إلا حرباً على البدع المتمثلة بالصوفية وبالتقليد الأعمى، ومن أجل هذا ثار الصوفيون والمقلدون التقليد الأعمى على هذه الحركة, كما ثار ضدهم عملاء الغرب، حيث حركت فرنسا صنيعتها في مصر محمد على باشا, وحركت بريطانيا والي الدولة العثمانية في بغداد لحرب هذه الحركة. ولكن يأبى الله إلا أن يظهر نوره ولو كره الكافرون.
كما أن وصف الأزهر والمدارس الدينية بنفس التيار منافٍ للحقيقة أيضاً, فالأزهر مثلاً قد خرَّج علماء عاملين أفاضل, كما خرَّج زنادقة مثل: طه حسين وعلي عبد الرازق, كما خرَّج مفتونين ماسون من أمثال: رفاعة الطهطاوي -عميل الفرنسيين-, ومحمد عبده -عميل الإنجليز-, والمراغي -عميل الكل-, كما خرّج ما بين ذلك. فالجمع بين الأزهر و الوهابية والصوفية ضلال بعيد.
فمحمد الخضر حسين الذي ردَّ على خريجي الأزهر مثل: طه حسين, وعلي عبد الرازق كان أيضاً من الأزهر، والأزهر نفسه هو الذي حاكم علي عبد الرازق عندما كتب كرَّاسه "الإسلام وأصول الحكم", وسحب منه الاعتراف بأنه عالم أزهري. وعلى الأزهر تقاس المدارس الدينية.
أما الحركة الوهابية وهي التي أنشأت دولة سابقاً, وجدَّدت للإسلام روحه, وبعثت نهضة إسلامية في كل العالم الإسلامي كما بيَّنا سابقاً فلا يجمعها مع الصوفية إلا رجل موغل في الجهل أو كذَّاب أفَّاك.
2 – موقف عمارة من الحركة الوهابية خاصة:
ولئن كان عمارة لا يعجبه التيار الإسلامي عموماً فهو حاقد بشكل خاص على الحركة الوهابية. كحال أساتذته في الماسونية من محمد علي سرششمه الذي أصبح باشا مروراً بمحمد عبده إلى آخر سلسلة مدرسة الأشقياء.
فقد قال محمد عبده عن التيار النصوصي والذي نقله عنه عمارة مؤيداً:[ إنهم أضيق عطناً وأحرج صدراً من المقلدين فهم وإن أنكروا كثيراً من البدع ونحوا عن الدين كثيراً مما أضيف إليه وليس منه إلا أنهم يرون وجوب الأخذ بما يفهم من اللفظ الوارد والتقيد به دون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين وإليها كانت الدعوة ولأجلها منحت النبوة فلم يكونوا للعلم أولياء ولا للمدنية أحباء]([1]).
ويقول عمارة: [ فالوهابية التي اشتهرت بتسميتها إلى داعيها وشيخها محمد بن عبد الوهاب.... إن نطاق سلفيتها هذه بسبب من بساطة البيئة وبداوتها وبسبب من المنهج النصوصي الذي ورثته عن الحركة السلفية التي تبلورت من حول الإمام أحمد بن حنبل (164-241)هـ وفكره، قد كانت نطاقاً ضيقاً جعلها تسقط من تراثنا الإسلامي والحضاري المنهج العقلي. علومه وما تأسس عليها من تمدن وتلك واحدة من أبرز سلبياتها التي حصرت تأثيرها الحقيقي في بيئتها البدوية البسيطة ]([2]).
وقد تكلمنا عن الحركة الإصلاحية في نجد المعروفة بالحركة الوهابية في أكثر من مكان, ولكن لا بأس هنا أن ننقل حواراً بين اثنين من العلمانيين تعرض أحدهما فيه لذكر الحركة الوهابية.
حوار حسن حنفي ومحمد عابد الجابري.
وقد سقت هذا الحوار على طوله ليرى القارئ المنصف أمرين:
الأول: مدى تأثير حركة الإصلاح النجدية (الوهابية) والتي يحاول محمد عمارة تهميش دورها.
والثاني: نظرة كثير من العلمانيين إلى إخوانهم اليهود مقابل نظرتهم للحركات الإسلامية.
ففي هذا الحوار يرد فيلسوف العلمانية العربي المعاصر"الدكتور محمد عابد الجابري" على حسن حنفي. عندما اعتبر حنفي أن ابتداء الصحوة كان هو الثورة الفرنسية, حيث قال حنفي: [ بعد محاولتنا للنقد الذاتي في الحلقة الماضية، وقبل أن ينتهي حوارنا على صفحات"اليوم السابع"وربما نستأنفه في وقت لاحق وفي مكان آخر أود أن أخصص آخر حلقتين للعالم العربي وفرنسا، الأولى تحية للثورة الفرنسية مشاركة منا في الاحتفال بذكراها المئوية الثانية، وبمناسبة عقد الندوة الدولية في القاهرة هذا الشهر عن"الثورة الفرنسية والعالم العربي"والثانية تحية لدولة فلسطين في عامها الأول ولأول زيارة لرئيس دولة فلسطين للجمهورية الفرنسية، فذاك حدثان معاصران لنا كمفكرين عربيين في المشرق والمغرب، فالحوار بيننا في هاتين الحلقتين الأخيرتين يتم بواسطة طرف ثالث، الثورة الفرنسية وفلسطين، وليس بطريق مباشر، صورة المشرق في المغرب وصورة المغرب في المشرق.
وبالرغم من أن صورتنا في كتابات فلاسفة التنوير، فلاسفة "دائرة المعارف أو القاموس العقلاني للعلوم والفنون والصناعات" ديدرو، دالمبير، فولتير، روسو، هولباخ، هلفسيوس، صورة مستمدة من العصر التركي وكما عبر عن ذلك فولتير في روايته "صادق" الجبرية والتسليم الأعمى بالقضاء والقدر، وعند بعض المستشرقين مثل "فولني"، الجهل، والتعصب، والخرافة، والتخلف، إلا أن صورة فلاسفة التنوير الذين مهدوا للثورة الفرنسية عندنا، عند روَّاد النهضة العربية وفي أجيالها المتعاقبة وبتياراتها المختلفة الإصلاحي، والليبرالي، والعلمي صورة مثالية: الحرية، والعقل، والعدالة الاجتماعية، والعلم، والديمقراطية، والدستور، والبرلمان في مصر وتونس والمغرب والشام. فمنذ اطلاع روَّاد النهضة الأوائل على فلاسفة التنوير منذ البعثات التعليمية التي أرسلها محمد على إلى فرنسا لبناء الدولة الحديثة، عاد هؤلاء وهم يرون في فلسفة التنوير أسس الدولة الليبرالية الحديثة والتي عاشت في مصر حتى ثورة 1952، بالرغم من دخول رافد فكري جديد وهو الفلسفة الأنكلوسكسونية لدى الجيل الثالث والرابع ومنذ الاتفاق الودي بين فرنسا وإنكلترا عام 1904. وفي مصر كتب الطهطاوي "تخليص الابريز في تلخيص باريز أو الديوان النفيس في إيوان باريس" وعبد الله فكري "إرشاد الأبناء إلى محاسن أوروبا" والمويلحي "حديث عيسى بن هشام" وفي تونس كتب خير الدين "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" وابن أبي ضياف "أتحاف أهل الزمان" وفي الشام كتب أحمد فارس الشدياق "كشف المخبا في أحوال أوروبا" وغيرهم الكثير...
فلم يهتم أديب اسحق تلميذ الأفغاني المفضل بالأسس النظرية لفلاسفة الثورة الفرنسية، وتبنى موقفهم العملي، ودافع عن نابليون ضد منتقديه.. في ضرورة تحرير العقول، وحاور محمد عبده سبنسر الآلي التطوري، وأعجب بآرائه في التربية. وعلى نمط مقاومة الكهنوت ورجال الدين والكنيسة، قام أحمد فارس الشدياق في "الساق على الساق" بنقد الكنهوت المحلي وسيطرة رجال الدين داعياً إلى تحرير العقول. وألف محمد فريد وجدي "دائرة معارف القرن العشرين" وضع فيها مجمل المعارف العقلانية العلمية للعصر كما فعل فلاسفة دائرة المعارف في القرن الثامن عشر. وفي الجيل الرابع تحدث عثمان أمين عن خصائص الروح الفرنسي المشابهة لخصائص الروح العربي مثل: القصة والالتزام، المثل العليا، الحكم السليم، البساطة والوضوح، النفور من المذهب، الاعتماد على الملكات البشرية، الملاحظة الباطنية، الحياة الروحية، وهو ما فعله الطهطاوي من قبل في بيان أن الفرنسيين أقرب إلى العرب منهم إلى الترك في حب الافتخار، والوفاء بالعهد، والأنساب والأحساب، والشجاعة، والسخاء، وحكمة اللسان، وحب الخيول... الخ ولكن ما أن أتى الجيل الخامس حتى بدأ الانغلاق، وتم تكفير كل شيء وظهرت الجماعات الإسلامية، نظراً لظروفها النفسية رافضة ثقافة الغرب بدعوى التغريب، وأصبحنا ننادي من جديد بضرورة بداية عصر تنوير جديد...وقام الجيل الثالث مثل طه حسين واستعمل الشك الديكارتي في نظرته إلى الشعر الجاهلي، وتصور الثقافة في مصر على أنها ثقافة البحر الأبيض المتوسط لا فرق بين شماله الأوروبي وجنوبه العربي.
ولم ينقل روَّاد النهضة الأوائل فلاسفة التنوير من أجل الترويج لثقافة الآخر تبعية لها، وإحساساً بالنقص دونها كما يفعل البعض منا هذه الأيام بل أعادوا بناءها لصالحهم الخاص وبرهنوا عليها بتراثهم الخاص، التراث الإسلامي القديم، القرآن والسنة والأقوال المأثورة، وتأريخ الصحابة والشعر العربي، لا فرق في ذلك بين الأفغاني وأديب إسحق، بين محمد عبده وفرح أنطون، بين الطهطاوي وشبلي شميل، بين إسماعيل مظهر وسلامة موسى. فالحرية، والعقل، والإنسان، والمساواة، والعدالة الاجتماعية والعلم، والتقدم كلها متضمنة في التراث القديم، إن لم تكن بألفاظها فبمعانيها ومضامينها، أما جيلنا الخامس فقد ترجمنا فلسفة التنوير بلا هدف واضح، مجرد نقل لتراث الغير، وبلا إعادة بناء على موروثنا القديم وكأن جذور نهضتنا الحالية يمكن أن تمتد إلى اليونان كما فعل أحمد لطفي السيد عندما ترجم "كتاب السياسة لأرسطو" أو طه حسين عندما ترجم "دستور الأثينيين" أو عادل زعيتر عندما ترجم "روح الشرائع" أو"العقد الاجتماعي" وترجم آخرون الثقافة الانكليزية، وفريق ثالث الأدب الروسي، وفريق رابع الثقافة الأميركية حتى تراكمت ثقافات الغير على السطح. وقام الواقع ممثلا في الجماعات الإسلامية بنفضها جميعاً والعودة إلى التراث القديم بلا تنوير:
وفي الفكر العلمي يشير شبلي شميل إلى "خواطر" بسكال وإلى أهمية الجانب الأدبي في فلسفة التنوير وتركيزهم على التاريخ الطبيعي، وتأسيس علم العمران، وتشبيه العمران بالجسم الحي، والإعجاب بالثورة الفرنسية التي حطمت الاكليروس ويستشهد بنقد هولباخ كوسيلة للإصلاح. ويجعل فرنسا ميزان الثقل في أوروبا كالعالم العربي ميزان الثقل بين الشرق والغرب، وكمصر ميزان الثقل بين المشرق العربي والمغرب العربي، وذلك دفاعاً عن فرنسا بعد حادثة دريفوس، "لولا تلك الثورة لما ارتقى الإنسان، واصطلح نوع الأحكام" ويكرر سلامة موسى عبارة فولتير "اسحقوا الخزي" صيحة مدوية صاح بها فولتير قبل أكثر من مائة سنة([3]).... وعادت باريس لتمتلئ من جديد بالمفكرين العرب المهاجرين من الأوطان كما فعل الأفغاني ومحمد عبده من قبل في "العروة الوثقى" وكما كانت باريس ملجأ لحركة القوميين العرب من الاضطهاد التركي، ومع ذلك كادت الجذوة أن تنطفئ. وتحول بعض ممثلي هذا التيار في الجيلين الرابع والخامس إلى الدفاع عن التراث... وانتهت الثورة إلى عودة للنظم القديمة، وحنين إلى ما كان قبل الثورة أو رد فعل إلى الداخل وتأكيد الروح المحافظ كما يبدو في الجماعات الإسلامية. ويعود جيلنا للسؤال من جديد هل يمكن التثوير قبل التنوير؟ بأيهما نبدأ: الضباط الأحرار أم المفكرون الأحرار؟ ونحن إلى بداياتنا القديمة لدى روَّاد عصر النهضة الذين كانوا على صلة بفلاسفة التنوير. وتعود الثورة الفرنسية إلينا في ذكراها المئوية الثانية لتعاود فينا هذا الحنين.
تحية..لدور فرنسا الرائد في الاعتراف بحقوق شعب فلسطين. فقد بينت مدى الارتباط الوثيق بين مبادئ الثورة الفرنسية والنهضة العربية من خلال فلاسفة التنوير الذين مهدوا للثورة الفرنسية وروَّاد النهضة العربية الذين مهدوا لتأسيس الدول العربية الحديثة. وبالتالي تم تجاوز حدود فلسفة التنوير وإطلاقها ليس فقط خارج حدود فرنسا الجغرافية إلى أوروبا وأميركا بل أيضاً على العالم العربي...
والحقيقة أن اليهود، وهم أخوتنا في الدين، عاشوا أزهر فترتين في حياتهم مرتين، الأولى بين العرب في أسبانيا، والثانية في فرنسا في عصر التنوير. ففي أسبانيا في قرطبة، وغرناطة، وطليطلة عرف الإخوة اليهود العصر الذهبي للفلسفة اليهودية التي بلغت الذروة عند موسى بن ميمون الحكيم القرطبي طبيب صلاح الدين، ومحاور ابن رشد، والحبر الأعظم, وغيره كثير: سعيد بن يوسف الفيومي (سعديا جاءون)، إسحق الإسرائيلي الطبيب الفيلسوف في بلاط القيروان، والقس داود بن مروان، وباهيا بن يوسف بن يوسف بن باقوده, وابن صادق القرجلي، ويهدوا هاليفي، وإبراهيم بن داود هاليفي، وإبراهيم بن عزرا، واستمر الدافع الإسلامي عند الفلاسفة اليهود بعد انحسار الحكم الإسلامي في الأندلس عند هلل الفيروني، وليفي بن جرشون، وهارون بن اليجا، وحسداي بن إبراهيم. ولم يكن هناك فرق كبير يذكر بين الثقافتين الإسلامية واليهودية في الشعر أو اللغة أو العقيدة أو الفلسفة أو الطب أو الفلك أو التصوف أو التفسير، وما أن انحسر الحكم الإسلامي في الأندلس حتى وقع أول اضطهاد ديني تحت محاكم التفتيش للمسلمين واليهود سواء، هاجروا بعدها إلى المغرب العربي أو إلى المشرق العربي حيث الحريات الدينية والتسامح الديني.
والفترة الثانية عصر التنوير في فرنسا والمعروف باسم"الهسكلا"Haskala والتي هي استمرار للعصر الذهبي اليهودي في أسبانيا؟ تجعل اليهود جزءاً من الشعب الأوروبي كما كانوا يعيشون من قبل مع الشعب العربي، وجعل التراث اليهودي تراثاً روحياً يحمي اليهود ثقافياً من الضياع ويحميهم سياسياً من الانعزال وحياة الجيتو. اليهودية ثقافة عقلانية أخلاقية شاملة لا فرق بينها وبين أي دين أو ثقافة أخرى تشارك في مبادئ التنوير العامة. واليهود مواطنون مثل غيرهم، متساوون في الحقوق والواجبات. اليهودية إيمان بالله، وبالعناية الإلهية، وبخلود الروح. وهي بذلك تشارك الديانات الأخرى في العقائد دون تخصيص أو تمييز اجتماعي لطائفة على غيرها. وقد تبلورت فلسفة التنوير في ألمانيا عند الفيلسوف موسى مندلسون، وتحول إلى حركة إصلاحية عامة في "إعلان بتسبرج".
وقامت الثورة الفرنسية بتحويل التنوير إلى أوضاع سياسية وقانونية. فتم إعلان حقوق الإنسان المواطن في فرنسا في 1789. وينص على أن ”الناس يولدون ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق” وفي 1791 منح المجلس الوطني الفرنسي اليهود الجنسية الفرنسية والحقوق المدنية الكاملة وشاعت الحركة في كل أرجاء أوروبا في ألمانيا، وهولندا، وإيطاليا، وسويسرا، والنمسا، والمجر، وروسيا, وفي الولايات المتحدة. وأصدرت الثورة الفرنسية عدة قوانين تجعل الأقليات غير الكاثوليكية متساوية في الحقوق والواجبات مع الأغلبية الكاثوليكية. وأعلن نابليون في 1806 إنهاء كل الأحكام الخاصة باليهود كطائفة وفي 1807 دعا السنهدرين إلى مناقشة أوضاع اليهود. وفي عام 1808 أصدرت "التنظيمات العضوية للديانة الموسوية" كما أصدر نابليون في نفس العام قانوناً بتنظيم حياة اليهود الاقتصادي. فالثورة الفرنسية استأنفت الحكم الإسلامي العربي في الأندلس. وتوجه نابليون بندائه إلى يهود فرنسا، باسم الثورة، أن يكونوا مواطنين فرنسيين لهم نفس الحقوق والواجبات كما توجه الحاكم العربي من قبل إلى جميع الطوائف باسم الإسلام، أن يكونوا مثل المسلمين، متساوين في الحقوق والواجبات.
وكما حدث رد الفعل بعد الانحسار العربي من الأندلس ممثلاً في محاكم التفتيش حدث رد الفعل أيضاً بعد انحسار حركة التنوير في الغرب عامة في القرن الثامن عشر وظهور القوميات في القرن التاسع عشر، ورفض غالبية اليهود خاصة في أوروبا الشرقية أن يصبحوا جزءاً من الحركات القومية الأوروبية، مؤثرين قومية خاصة بهم تعبر عن حياتهم في الجيتو. وهنا نشأت الصهيونية على نفس الخط القومي الأوروبي. وعرضها موسى هس على باور في ألمانيا وهو ما عرف باسم المسألة اليهودية. ورأى باور أن تحرر الشعب اليهودي إنما يتم بتحرر الشعب المسيحي وبتحرر ألمانيا، فالخاص يندرج في العام. ثم عرضها على ماركس. ورأى ماركس أن تحرر الشعب اليهودي لا يتم فقط بتحرر الشعب الألماني بل بتحرر الشعوب جميعاً فلا حل للخاص إلا في العام...
والآن، ونحن على مشارف القرن العشرين، وبعد مآسي النازية ووقوع الأخوة اليهود تحت أبشع اضطهاد عرفه التاريخ. وكرد فعل على حياة الجيتو وانعزال الطوائف اليهودية عن الأوطان التي يعيشون بها، هل تحقق قومية يهودية في دولة يهودية يحل المأساة؟ وهل يمكن حل مأساة الشعب اليهودي بخلق مأساة أخرى، مأساة الشعب الفلسطيني؟ إن السؤال مطروح الآن، كما كان مطروحا دائماً. ولكن الإجابة أيضاً موجودة في التاريخ ليس كحلم طوباوي يستحيل التحقيق بل كنظم سياسية واجتماعية عاشها اليهود مرتين، في أسبانيا مع المسلمين وفي الثورة الفرنسية مع قوانين نابليون....
ومع ذلك يظل النموذج القديم في الأندلس والحديث في الثورة الفرنسية هو القادر على أن يجذب الانتباه من خلال التنوير فجوهر اليهودية هو الإيمان بالله ذاتاً ومواصفات وأفعالاً، وبرسالات الأنبياء, وبخلود الروح، وهو جوهر كل الرسالات السماوية في المسيحية والإسلام، فالهوية تأتي من العقيدة وليس من خارجها، من الفكر والمبادئ وليس من اللون والجنس. وإن تحديد الهوية بالحدود الجغرافية لهو تحديد قومي موروث من عصر القوميات الأوروبية في القرن التاسع عشر. إن السامي لا يعرف له حدوداً جغرافية في الصحراء الشاسعة الممتدة. لا يعرف إلا النجوم الساطعة في السماء يهتدي بها في ظلمة الليل، ولا يعرف إلا الماء والكلأ ليضرب حولها الخيام. ثم ينتقل من مكان إلى مكان للرعي يتزاوج من القبائل، ويتصاهر، ويتحالف، ويراعي المواثيق.
في الوقت الذي يرجع فيه السامي إلى هويته، عربياً كان أم يهودياً، ويتخلص من التحديد الجغرافي القومي الأوروبي للهوية، في الوقت الذي يتم فيه التخلص من التغريب في تحديد الهوية والعودة إلى الأصالة يمكن للحكم في الأندلس أن يعود في العام الأول لإنشاء دولة فلسطين ولمبادئ الثورة الفرنسية أن تحيا من جديد في ذكراها المئوية الثانية. إن الحل الجذري والنهائي إلى الأمد الطويل لا ينفي الحلول المرحلية. فلنبدأ بدولتين, ثم باتحاد كونفدرالي إلى عالم تعيش فيه شعوب المنطقة ودولها متساوية في الحقوق والواجبات. ثم بخلق أمة واحدة تتكون من عدة أمم متساوية فيما بينها كما كان "ميثاق المدينة" من قبل، هويتها في مبادئها، وقوانينها في مساواتها.
وعلى هذا النحو قد نعيش الآن فترة تاريخية جديدة تحقيقاً لنموذج الأندلس والثورة الفرنسية. وتلك دلالة "إعلان الجزائر" بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وتلك دلالة الاعتراف الضمني لفرنسا بها واستقبال رئيس دولة فلسطين في الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية.
حياك الله أخي محمد، وأستودعك، وألقاك دائماً على خير.
وردَّ محمد عابد الجابري بالتالي: أخي حسن
ونعود مرة أخرى إلى قضية "الليبرالية" و "التنوير" في العالم العربي بمناسبة مرور قرنين من الزمن على الثورة الفرنسية التي اقترنت بهما، وتعود أنت فتؤكد أنه بعد مرحلة "الثورات العربية الحديثة"، مرحلة "الليبرالية" و "تأسيس الدولة الحديثة" تعود الثورات فتنقلب "من داخلها على أنفسها فتحول البعض إلى ثورة مضادة... ويعود جيلنا للسؤال من جديد هل يمكن التثوير قبل التنوير؟".
سأقف قليلاً مع "شكل" هذا السؤال الذي يستمد بعض قوته وبريقه -في اللغة العربية- من الوزن والسجع: "التثوير.. التنوير" وسأتخلص منه، واقفاً به عند حدوده، فأقول: إن التنوير، تنوير العقول، هو في حد ذاته تثوير. التنوير هو إلقاء الضوء - وإذا شئت "النور"- على الحقيقة ليراها الناس كما هي. والحقيقة عندما يرفع عنها الغطاء تصبح ثورية. وبالمثل؛ التثوير لا يكون فعالا وتاريخياً إلا إذا كان تثويراً للعقول (وليس للعواطف: التثوير للعقول والتهييج للعواطف، ومع الأسف كنا وما زلنا نخلط بينهما) والعقل عندما يثور، يثور على نفسه أولاً، أعني على السلطات التي تقيده، فيصبح "نوراً" يكشف عن الخطأ واللبس والتمويه فيرى الأشياء كما هي في حقيقتها وجوهرها. وإذن فلا داعي للانشغال بالسؤال: "هل يمكن التثوير قبل التنوير؟"، لأنه سؤال يطرح اختياراً لا مبرر له ولا معنى. إنه يفرض علينا الفصل بين "التثوير" و "التنوير" والأخذ بأحدهما قبل الآخر، وهذا موقف ينطوي على خطأ جسيم. والصواب: هو الجمع بينهما فهما لا يتناقضان ولا يتصادمان بل يتكاملان، كل منهما يشكل حقيقة الآخر وجوهره.
أما السؤال الثاني الذي جعلته فرعاً للسؤال السابق هو "بأيهما نبدأ" الضباط الأحرار أم المفكرون الأحرار؟ فيكفي أن نقول فيه ما يقوله الأصوليون في مثل هذه الحال، وهو إذا فسد الأصل فسد الفرع، وأنا لا أكتمك أنني لم أستطع أن أفهم، عقلانياً، هذا الاختيار الذي تفرضه علينا بسؤالك السالف الذكر. أنت تتحدث في موضوع يدور حول "الليبرالية" و "التنوير" بمناسبة ذكرى الثورة الفرنسية، فلماذا أقحمت "الضباط" في الموضوع؟ لماذا أقمت تقابلاً، بل تناقضاً أو على الأقل تعارضاً، بين "الضباط الأحرار"و "المفكرين الأحرار" ؟ أنت تسأل من أين نبدأ؟ وأنا أرى أن البداية والنهاية يجب أن تكون:”المواطن الحر” أما البدلات، مدنية كانت أو عسكرية، تقليدية كانت أو عصرية، فلا خوف منها، ولا أهمية لها، إذا كان الذي يرتديها هو "المواطن الحر"، المواطن الذي لا خوف عليه، أو منه، من أن تتحول بدلة جسمه إلى رداء لعقله.
ونعود بعد هذا إلى الموضوع الذي طرحته، وهو انتكاسة حركة "التنوير" التي عرفها "العالم العربي" في القرن الماضي والنصف الأول من هذا القرن بتأثير فكر "الأنوار" الذي مهد للثورة الفرنسية، والذي عملت هذه الثورة على نشره في "العالم أجمع".
هنا أيضاً لا بد من الحذر، كل الحذر، من "إلقاء الكلام على عواهنه" يجب التدقيق في الأمور. وأعتقد أنه لا بد من استحضار المعطيات التالية قبل تقديم الجواب عن السؤال الذي طرحته، سؤال؛ لماذا انتكست حركة "التنوير" في العالم العربي؟
يجب أن نلاحظ أولاً أنه ليس صحيحاً أن "العالم العربي"- هكذا بإطلاق وتعميم - قد عرف ”حركة التنوير"، التي يتحدث عنها السؤال. نعم، لقد عرفتها مصر والشام أما باقي الأقطار العربية فقد عرفت حركات أخرى مغايرة تماماً. وهنا لا بد من أن نكون واقعيين متحلين بالموضوعية التاريخية؟ ذلك أن الحقيقة التي يمدنا بها التاريخ، تاريخ العالم العربي في القرن الماضي والعقود الأولى من هذا القرن، هي أن الحركة التي كان لها صدى واسع في جميع أقطار العالم العربي، وأن لها حضوراً فعلياً في كثير منها، هي الحركة الوهابية التي قامت قبل الثورة الفرنسية باثنتين وأربعين سنة، حينما تحالف محمد بن عبد الوهاب مع أمراء آل سعود عام 1747. ولا نبالغ إذا قلنا -وهذا على سبيل التوضيح فقط- أن تأثير الحركة الوهابية في العالم العربي زمن الثورة الفرنسية كان يضاهي تأثير هذه الثورة - الفرنسية- في الأقطار الأوروبية، بل لربما كان أقوى. فقد ظهرت حركات مماثلة، تشكل نوعاً من الامتداد لها في أقطار عربية كثيرة: في اليمن قام الإمام الشوكاني (1758-1834م) على رأس دعوة مشابهة لدعوة ابن عبد الوهاب وفي المغرب الأقصى تبنت الدولة الدعوة الوهابية أيديولوجية لها، منذ أيام الثورة الفرنسية إلى أواخر القرن الماضي حينما أخذت الوهابية فيه تتطور إلى سلفية جديدة. وبين المغرب واليمن كان حضور الوهابية متعدد الأشكال: السنوسية في ليبيا، وقد انتشرت زواياها في كل من السودان ومصر و"بلاد العرب"-فضلاً عن برقة وطرابلس- ولم تخل مصر نفسها من تأثير الوهابية، ... وأما في السودان فقد كانت السيادة للمهدية الصوفية وثورتها (1881)، ولم يكن لحكم محمد علي هناك أثر تنويري يستحق الذكر بالمقارنة معها. وهكذا فالساحة العربية، من المحيط إلى الخليج كانت واقعة تحت تأثر الوهابية والسنوسية والمهدية والسلفية، زمن الثورة الفرنسية وزمن امتداداتها. أما ”حركة التنوير"، التي تتحدث عنها فقد كانت محصورة في مصر والشام وحدهما، وأصداؤها في الأقطار العربية الأخرى كانت من الضعف بحيث لا يمكن مقارنتها مع أصداء الحركة الوهابية ومثيلاتها. وهناك جانب آخر لا بد من أخذه بعين الاعتبار وهو أن” حركة التنوير” موضوع الحديث، كانت، حتى في مصر نفسها محصورة في نخبة ضيقة، هي ”النخبة العصرية” التي لا مجال لمقارنتها مع "النخبة التقليدية" والأغلبية العظمى من الجماهير التي كانت -وما زالت- مرتبطة بها، والتي لم تكن تعرف، ولا هي تعرف الآن بعمق معنى ”التنوير و "المواطنة" لأنها قد اعتادت أن تكون "رعية"، وما زالت تحلم بـ"راع"،”زعيم بطل "قائد... لـ"الطائرة".
هناك حقيقة تاريخية أخرى لا بد من أن نوليها كامل الاعتبار، وهي أن "حركة التنوير" موضوع حديثنا لم تنبع من داخل الواقع المصري، أو العربي، بل لقد كانت مظهراً من مظاهر حملة نابليون على مصر والشام، وامتداداً لها. وبالرغم من المجهود الذي بذل لنقل بعض أفكارها وأطروحاتها إلى العربية من طرف "روَّاد النهضة" في مصر فإن شعاراتها ومفاهيمها كانت -ويجب أن نقول ما تزال- غريبة عن المجال التداولي للغة العربية، وعن الحقل الثقافي العربي السائد. إن مفهوم "حالة الطبيعة" ومفهوم "العقل" ومفهوم "الحرية" ومفهوم "المساواة" ومفهوم "المواطن" ومفهوم "حقوق الإنسان" وهي المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها "فكر الأنوار" الذي مهد للثورة الفرنسية وعملت هذه على ترويجه، مفاهيم لم يحدث بعد أن تمت تبيئتها في فكرنا وثقافتنا...
وبعد فالحديث ذو شجون كما يقولون. لقد تحدثت عن ما أسميته "الثورات العربية الحديثة" وهالك أن تعود تلك الثورات فتنقلب من داخلها على أنفسها ويتحول البعض منها إلى ثورة مضادة وقد حاولت أن أجيب على السؤال بقدر ما يسمح به المقام. ومع أن الموضوع يجب أن يبقى مفتوحاً للنقاش فإني أجد نفسي مضطراً، احتراماً للحجم المخصص لهذا التعقيب، إلى تلخيص ما أردت قوله في مسألتين: الأولى هي أنه عندما نتحدث عن الثورة الفرنسية وامتداداتها إلى العالم العربي يجب أن نتذكر أن هذا "العالم العربي" لم يكن بدون أهل وأن العقل فيه لم يكن ذلك العقل الذي تصوره فلاسفة التنوير في أوروبا على أنه صفحة بيضاء.. أما المسألة الثانية فهي متفرعة عن الأولى وهي أن لغة الثورة الفرنسية، لغة عصر الأنوار في أوروبا، لم يحدث بعد أن تمت تبيئتها في حقلنا الثقافي. إنه لا يكفي أن نترجم ألفاظاً بألفاظ... إن التنوير والتثوير يجب أن يتم من الداخل أما ما يأتي من الخارج فلا معنى له إلا بالنسبة لمن يستطيع أن ينقل نفسه إلى داخل ذلك الخارج. أما من لا يستطيع فموقفه لن يختلف عن موقف أبي سعيد السيرافي النحوي المشهور الذي عارض نقل المنطق اليوناني إلى اللغة العربية، لأنه لم يكن يرى في العملية سوى إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها.
- أخي حسن
يؤسفني جداً أن نفترق في هذه الحلقة الأخيرة من حوارنا على غير اتفاق حول ما طرحته فيها، بل على اختلاف وخلاف، بعد أن سرنا منذ بداية الحوار إلى الحلقة السابقة على خطين متوازيين، لا أختلف معك في جزئية أو مسألة إلا لنلتقي في النهاية. أما بخصوص هذه الحلقة فإني لا أقول أني مضطر للاختلاف معك وحسب، بل أقول أيضاً أرى من واجبي أن أخالفك” على طول".
لقد أثار وجداني شكل رسالتك، واستنفر عقلي مضمونها. وأبادر فأسألك مخلصاً لمن نكتب مثل هذا الكلام الذي كتبته عن الحرية التي نعم بها اليهود في الأندلس زمن ابن ميمون وفي فرنسا على عهد فلاسفة التنوير. لمن نكتب ونقول:اليهود إخوتنا في الدين واليهودية ثقافة عقلانية أخلاقية شاملة لا فرق بينها وبين أي دين أو ثقافة أخرى، لمن نقول:الأخوة اليهود على وزن الأخوة العرب... لمن نقول ذلك وما أشبهه مما ملأت به مقالتك؟ هل للعرب أم لليهود أم لهم جميعاً ولغيرهم؟ هل تعتقد أنه بهذا النوع من الكلام عن التاريخ يمكن أن نحل المشكل... إن اليهود يعرفون جيداً كيف كانت وضعيتهم في الأندلس وفرنسا وغيرهما من البلدان وفي جميع الأزمان لهم رأيهم الخاص، وذاكرتهم الخاصة، وتحليلهم الخاص، وأهدافهم الخاصة. ولا أعتقد أن أحداً منهم يأخذ بجد مثل هذا الكلام الذي سطره قلمك بحسن نية، بل أخشى أن يكون من بينهم كثيرون يبتسمون عندما يقرؤون هذا النوع من الكلام، ابتسامة لا أريد أن أنعتها بنعت....
ذلك شيء مما أهاج وجداني... وهناك قليل مما استفز عقلي. إن المنطق الذي استعملته، منطق القياس غير صالح ولا مجد -حتى مع الفارق- في المقام الذي نتحدث فيه. أنت تقيس الحاضر والمستقبل على الماضي وتقول: كما عشنا في الأندلس إخوة، وكما كانوا مكرمين في فرنسا الثورة، فسيحصل ذلك في فلسطين الدولتين. إنه منطق ما تم تحقيقه في الماضي ليمكن تحقيقه في المستقبل. وأنا ضد هذا النمط من التفكير: أولاً لأنه مبنى على رؤية غير تاريخية. التاريخ لا يعيد نفسه، ولو كان يعيد نفسه لما كان تاريخاً، بل زمناً ممتداً. وثانياً لأنه مبني على مقدمات غير مسلم بها:.. وأنا أقول لك بصراحة ليس هناك شيء تطيب به اليهود نفساً - يهود إسرائيل- غير نصيب من آبار النفط العربي... وأنا هنا أتحدث عن اليهود لأنني مضطر إلى التقيد بألفاظك ونص عبارتك،..
أقول هذا لأنه من سوء حظي مع رسالتك أنني بينما كنت أتصفحها، عندما وصلتني، كنت فاتحاً جهاز الراديو، وإذا بي أسمع تصريحاً لوزير خارجية إسرائيل يتحدث فيه عن الصراع العربي الإسرائيلي، وكان مما قاله: إن العنصر الجديد من هذا الصراع هو امتلاك بعض الدول العربية لصواريخ أرض أرض تحمل رؤوساً من القنابل الكيماوية وقد لجأ العرب إلى هذا السلاح عندما تأكدوا بالتجربة استحالة اختراق مجالنا الجوي. ذلك لأننا نبني استراتيجيتنا على جعل قوتنا الجوية قوة ضاربة لا يصدها شيء. وبها نكسر شوكة العرب، ونحن سائرون في هذا الاتجاه معتمدين على طائرات ف15 وف16، كما أننا نعمل على تطوير سلاح مضاد للصواريخ العربية.
ويضيف وزير خارجية إسرائيل: إننا نفضل الحرب الخاطفة والنصر السريع ونستعمل الحرب الوقائية وهي حرب صارت مقبولة لأنها وسيلتنا للدفاع عن النفس.
ذلك ما التقطته أذناي وأنا أقرأ بعيني رسالتك، فمن منهما أصدق؟ أنا لا أكتمك أنني أخذت عبارات وزير خارجية إسرائيل مأخذ الجد. هو شخص مسؤول يقدر مسؤولية الكلمة، وربما أكثر مني ومنك، ربما أكثر ممن هم فوق في بلداننا،...
قد تحتج قائلاً: إنما كتبت ما كتبت بمناسبة زيارة عرفات لفرنسا. ولن أجيبك بشيء، وإنما أستسمحك في أن أنقل هنا فقرات من مقالة كنت كتبتها في ركن آفاق من هذه المجلة بتاريخ 17/8/1987، أي قبل اندلاع الانتفاضة المباركة بثلاثة أشهر ونصف. لقد كان التعليق يدور حول حوار سمعته في إذاعة فرنسا الدولية بين صحفي عربي ووزير خارجية الحكومة الفرنسية. لقد حاول الصحفي العربي، بكل ذكاء الصحفيين، أن يحمل الوزير الفرنسي على وصف المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة بأنها مقاومة وليس إرهاباً غير أن الوزير الفرنسي امتنع، وتهرب، وتمسك بقوله ”إننا ضد الإرهاب"، وعندما ضيق الصحفي العربي الخناق عليه أجابه لا تحاول أن تغير إجابتي، لقد قلت لك أننا ضد أشكال الإرهاب، كان ذلك قبل الانتفاضة، وعلقت أنا على كلام الوزير الفرنسي قائلاً: لا أكتم القارئ أنني شعرت ساعتئذ -ساعة استماعي لتصريح الوزير الفرنسي- بنوع من المرارة لا أستطيع التعبير عن كنهه وحقيقته، ولكنني أتذكر أنني تمنيت أنني لو كنت مقاوماً فلسطينياً في الأراضي المحتلة، إذن لمضيت بالمزيد من أعمال المقاومة للاحتلال. لقد تراءى لي بكل وضوح - لست أدري كيف- أن المزيد من المقاومة للاحتلال هو الذي يحمل الناس، أقارب وأباعد خصوماً وأعداء، على الارتفاع، في وعيهم، بما يسمونه "الإرهاب" إلى ما نسميه نحن: "المقاومة".
ذلك ما كتبته قبل الانتفاضة بثلاثة أشهر ونصف، وجاءت الانتفاضة لتجعل العالم أجمع، بما فيه أميركا وفرنسا وإنكلترا وكثيراً من اليهود والإسرائيليين يرتفع، في وعيه بـ "الإرهاب" إلى المقاومة. وكانت النتيجة ما تحدثت عنه من زيارة عرفات لفرنسا، وأشياء أخرى لم تتحدث عنها.
التاريخ أخي حسن، لا تغيره ذكريات الماضي ولا ذاكرته، بل إنما تغيره حسابات الحاضر وميزان القوى فيه.
وإلى لقاء أفضل. دمت لأخيك طيب السرية صادق النية ومفكراً حراً عقلانياً حكيماً([4]).
[3]- وحسن حنفي هنا يكذب على القراء بنقل قول فولتير. ففولتير لم يقل اسحقوا الخزي، بل قال: [ (إن الواجب اللازب علينا أن نسحق القبيح الفظيع، وهذا القبيح الشنيع ليس هو فئة الإكليريكيين، وإنما هو الله) – تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا – وهذه الكلمة هول مهول بل لفظة استنبطها من قعر الجحيم أبو الكفر والزندقة فولتير الماسوني، فانتصب بذلته لمنابذة القتال لرب السماء، فأراد أن يسحقه وما سحق غير نفسه ]انظر الماسونية ذلك العالم المجهول: صابر طعيمة، ص/ 236، 237.
0 التعليقات:
إرسال تعليق