الجماعة 14
رضوان محمود نموس
( نشرع في هذه الحلقة في تبيين أهم الأسباب التي تؤدي إلى الخلاف, وقد كنا بينا أن السبب الرئيس هو نسيان حظ مما ذكرنا به وعدم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجعل تاركي الاتباع يسيرون وراء الأهواء, وهي القسمة الثنائية التي تحدث عنها القرآن قال الله تعالى: ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) القصص:50 وهذه رؤوس الأهواء)
أولا: تقديم العقل على النقل.
ثانيا: التأويل المخترع وما يسمونه [صرف النص عن ظاهره].
ثالثا: رد السنة تحت عنوان: أحاديث الآحاد لا تفيد العلم.
رابعا: تقديم الكشف والذوق.
خامسا: المجاز.
سادسا: المصلحة.
سابعا: الضرورة.
ثامنا: اختراع الأسماء المبتدعة والألفاظ غير الشرعية.
تقديم العقل على النقل.
كانت أول معصية ارتكبت بسبب عدم امتثال العقل للشرع عندما رفض إمام الذين يقدمون العقل على الشرع "إبليس اللعين" السجود لآدم عليه السلام. فلقد قال الله تعالى له: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)} [الحجر: 28 - 35] وقال تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)} [الإسراء: 61] وقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) } [ص: 71 - 77] وقال الله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) } [الأعراف: 12 - 14] وقد قال المفسرون في تفسير آية الأعراف:
[قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس فمن قاس الدين برأيه قرن مع إبليس] تفسير القرطبي لآية الأعراف 12. وقال الطبري في تفسيره: [ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان أول من قاس إبليس].
ولقد سار أقوام على نهج إبليس في هذا القياس الفاسد وتقديم عقولهم النخرة، فقال بشار ابن برد:
إبليس أفضل من أبيكم آدم فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة والطين لا يسمو سموّ النار
ولما كان هذا القول كفر سافر ووقاحة متبجحة, لجأ إبليس وجنوده إلى أسلوب الإخفاء والتمويه, وبدأ يسلك السبل التي تؤدي إلى تقديم العقل على النقل.
فظهرت بوادر الفرقة القدرية. الذين ينكرون القدر ويقولون أن الأمر أنف إي لم يسبقه قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه, وأن العبد هو الذي أوجد وخلق أفعال نفسه، وبعضهم كان أخف من هذا فقال إن أفعال العباد ليست مقدرة لهم.
ولقد قسم الإمام ابن تيمية القدرية إلى ثلاثة أصناف:
قَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ " ثَلاثَةُ أَصْنَافٍ ": " قَدَرِيَّةٌ مشركية " وَ " قَدَرِيَّةٌ مَجُوسِيَّةٌ " وَ " قَدَرِيَّةٌ إبليسية ". فَأَمَّا الأَوَّلُونَ فَهُمْ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُوَافِقُ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} إلَى آخِرِ الْكَلامِ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ. {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} . فَهَؤُلاءِ يَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى تَعْطِيلِ الشَّرَائِعِ وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ الاعْتِرَافِ بِالرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا رَبِّي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، وَهُوَ الَّذِي يَبْتَلِي بِهِ كَثِيرًا - إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا حَالا - طَوَائِفُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ إلَى الإِبَاحَةِ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ وَرَفْعِ الْعُقُوبَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لا يَسْتَتِبُّ لَهُمْ وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ مُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ كَفِعْلِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ ثُمَّ إذَا خُولِفَ هَوَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَامَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ مُتَعَدِّيًا لِلْحُدُودِ غَيْرَ وَاقِفٍ عِنْدَ حَدٍّ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ أَيْضًا. إذْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَتَنَاقَضُ عِنْدَ تَعَارُضِ إرَادَاتِ الْبَشَرِ. فَهَذَا يُرِيدُ أَمْرًا وَالآخَرُ يُرِيدُ ضِدَّهُ، وَكُلٌّ مِنْ الإِرَادَتَيْنِ مُقَدَّرَةٌ فَلا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا أَوْ غَيْرِهِمَا أَوْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ وَإِلا لَزِمَ الْفَسَادُ. وَقَدْ يَغْلُو أَصْحَابُ هَذَا الطَّرِيقِ حَتَّى يَجْعَلُوا عَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ هِيَ اللَّهُ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَيَتَمَسَّكُونَ بِمُوَافَقَةِ الإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ فِي السَّيِّئَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى، وَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لَمَّا دَعَاهُ مكاس فَقِيلَ لَهُ هُوَ مكاس فَقَالَ: إنْ كَانَ قَدْ عَصَى الأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الإِرَادَةَ وَقَوْلُ ابْنِ إسْرَائِيلَ:
أَصْبَحْت مُنْفَعِلا لِمَا يَخْتَارُهُ *** مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ
وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ الْكَائِنَةُ أَوْ الْحَقِيقَةُ الْخَبَرِيَّةُ وَلَمَّا كَانَ فِي هَؤُلاءِ شَوْبٌ مِنْ النَّصَارَى وَالنَّصَارَى فِيهِمْ شَوْبٌ مِنْ الشِّرْكِ تَابَعُوا الْمُشْرِكِينَ فِي مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالْقَدَرِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ. هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ الَّذِي قَدَّرَ الْكَائِنَاتِ كَمَا أَنَّ هَؤُلاءِ فِيهِمْ شَوْبٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِذَا اتَّسَعَ زَنَادِقَتُهُمْ الَّذِينَ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُ إلا اللَّهَ إذْ لا مَوْجُودَ غَيْرَهُ. وَقَالَ رَئِيسٌ لَهُمْ إنَّمَا كَفَرَ النَّصَارَى لأَنَّهُمْ خَصَّصُوا فَيُشَرِّعُونَ عِبَادَةَ كُلِّ مَوْجُودٍ بِهَذَا الاعْتِبَارِ وَيُقَرِّرُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَالأَحْجَارِ؛ لَكِنَّهُمْ يستقصرونهم حَيْثُ خَصَّصُوا الْعِبَادَةَ بِبَعْضِ الْمَظَاهِرِ وَالأَعْيَانِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَفَنِّنُونَ فِي الآلِهَةِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الشِّرْكِ؛ هَذَا يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَهَذَا يَعْبُدُ اللاتَ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْعُزَّى وَهَذَا يَعْبُدُ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَعْبُدُ مَا يَسْتَحْسِنُ، وَكَذَلِكَ فِي عِبَادَةِ قُبُورِ الْبَشَرِ كُلٌّ يُعَلِّقُ عَلَى تِمْثَالِ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ. وَ " الْقَدَرِيَّةُ الثَّانِيَةُ" الْمَجُوسِيَّةُ: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي خَلْقِهِ كَمَا جَعَلَ الأَوَّلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي عِبَادَتِهِ. فَيَقُولُونَ: خَالِقُ الْخَيْرِ، غَيْرُ خَالِقِ الشَّرِّ، وَيَقُولُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مِلَّتِنَا: إنَّ الذُّنُوبَ الْوَاقِعَةَ لَيْسَتْ وَاقِعَةً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُبَّمَا قَالُوا: وَلا يَعْلَمُهَا أَيْضًا وَيَقُولُونَ: إنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ وَاقِعٌ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَلا صُنْعِهِ فَيَجْحَدُونَ مَشِيئَتَهُ النَّافِذَةَ وَقُدْرَتَهُ الشَّامِلَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ سَلْبَ الصِّفَاتِ، وَيُسَمُّونَهُ التَّوْحِيدَ كَمَا يُسَمِّي الأَوَّلُونَ التلحيد التَّوْحِيدَ فَيُلْحِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا حَالا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ. كَمَا وَقَعَ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَالشِّيعَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَابْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَقَدْ يُبْتَلَى بِهِ حَالا لا اعْتِقَادًا بَعْضُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ مُلاحَظَةٍ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. وَلِمَا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ التَّنَافِي تَجِدُ الْمُعْتَزِلَةَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الصُّوفِيَّةِ وَيَمِيلُونَ إلَى الْيَهُودِ وَيَنْفِرُونَ عَنْ النَّصَارَى وَيَجْعَلُونَ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ هُوَ قَوْلُ النَّصَارَى بِالأَقَانِيمِ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَذُمُّونَ النَّصَارَى أَكْثَرَ كَمَا يَفْعَلُ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ كَمَا أَنَّ الأَوَّلِينَ يَمِيلُونَ إلَى النَّصَارَى أَكْثَرَ. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلاءِ فِي الْحُرُوفِ وَالْكَلامِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا كَانَ الأَوَّلُونَ فِي الأَصْوَاتِ وَالْعَمَلِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا اقْتَسَمَ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ وَالْيَهُودُ غَالِبُهُمْ قَدَرِيَّةٌ بِهَذَا الاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرِيعَةٍ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ. وَلِهَذَا تَجِدُ أَرْبَابَ الْحُرُوفِ وَالْكَلامِ الْمُبْتَدَعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ يُوجِبُونَ طَرِيقَتَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ مَا سِوَاهَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ لاحِقَةٌ مَنْ خَالَفَهَا حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ: بِتَخْلِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ مِنْ فِرَقِ الأُمَّةِ وَهَذَا التَّشْدِيدُ وَالآصَارُ وَالأَغْلالُ شِبْهُ دِينِ الْيَهُودِ. وَتَجِدُ أَرْبَابَ الصَّوْتِ وَالْعَمَلِ الْمُبْتَدَعِ لا يُوجِبُونَ وَلا يُحَرِّمُونَ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَحِبُّونَ وَيَكْرَهُونَ فَيُعَظِّمُونَ طَرِيقَهُمْ وَيُفَضِّلُونَهُ وَيُرَغِّبُونَ فِيهِ حَتَّى يَرْفَعُوهُ فَوْقَ قَدْرِهِ بِدَرَجَاتِ. فَطَرِيقُهُمْ رَغْبَةٌ بِلا رَهْبَةٍ إلا قَلِيلا كَمَا أَنَّ الأَوَّلَ رَهْبَةٌ فِي الْغَالِبِ بِرَغْبَةِ يَسِيرَةٍ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنْ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا مَعَ انْحِلالِهِمْ مِنْ الإِيجَابِ وَالاسْتِحْبَابِ لَكِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتِ كَثِيرَةٍ وَيَبْقَوْنَ أَزْمَانًا كَثِيرَةً عَلَى سَبِيلِ الاسْتِحْبَابِ. وَالْفَلاسِفَةُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا الطَّرِيقُ كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية الَّذِينَ صَدَّقُوا بِأَنَّ اللَّهَ صَدَرَ عَنْهُ الأَمْرَانِ. لَكِنَّ عِنْدَهُمْ هَذَا تَنَاقُضٌ وَهُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَهَؤُلاءِ كَثِيرٌ فِي أَهْلِ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ مِنْ سُفَهَاءِ الشُّعَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ كَقَوْلِ أَبِي الْعَلاءِ المعري:
صرف الزمان مفرق الإلفين ... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
أنهيت عن قتل النفوس تعمدا ... وبعثت أنت لقبضها ملكين
وزعمت أن لها معادا ثانيا ... ما كان أغناها عن الحالين
وقول بَعْضِ السُّفَهَاءِ الزَّنَادِقَةِ:
يَخْلُقُ نُجُومًا وَيَخْلُقُ بَيْنَهَا أَقْمَارًا. يَقُولُ يَا قَوْمُ غُضُّوا عَنْهُمْ الأَبْصَارَ.
تَرْمِي النسوان وَتَزْعَقُ مَعْشَرَ الْحُضَّارَ. اُطْفُوا الْحَرِيقَ وَبِيَدِك قَدْ رَمَيْت النَّارَ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ كُفْرَ صَاحِبِهِ وَقَتْلِهِ.
فَتَدَبَّرْ كَيْفَ كَانَتْ الْمِلَلُ الصَّحِيحَةُ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادَوْا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئُونَ لَيْسَ فِيهَا فِي الأَصْلِ قَدَرِيَّةٌ؛ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمِلَّتَيْنِ الْبَاطِلَتَيْنِ: الْمَجُوسُ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا. لَكِنَّ النَّصَارَى وَمَنْ ضَارَعَهُمْ مَالُوا إلَى الصَّابِئَةِ وَالْيَهُودُ وَمَنْ ضَارَعَهُمْ([1]).
وأول من قال بالقدر رجل نصراني اسمه سوسن، قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فأسلم فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد ([2]).
فأما معبد الجهني فقتله عبد الملك بن مروان ردة وصلبه بدمشق في سنة 180هـ([3]).
وغيلان بن يونس أبو مروان القدري يقال له غيلان الدمشقي كان نصرانيا فأسلم، استتابه عمر بن عبد العزيز لكنه عاد إلى مقالته فقتله هشام بن عبد الملك هو وصالح بعد أن ناظره الإمام الأوزاعي وأفتى بقتله، وصلب غيلان وصالح في دمشق ([4]).
ولقد أورد ابن أبي عاصم في سننه حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن القدرية فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم}([5]). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن لكل أمة مجوساً وإن مجوس هذه الأمة القدرية فلا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا على جنائزهم إذا ماتوا}([6]).
ثم جاءت الجهمية وحكّموا عقولهم أكثر حتى تطاولوا إلى ذات الله تعالى، وبدؤوا يحدّدون كيف يجب أن يكون، فقالوا:[ لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقضي تشبيهاً، فنُفي كونه حياً عالماً، وأُثبت كونه قادرا فاعلاً خالقاً... وقالوا لا يجوز أن يعلَمَ الشيء قبل خلقه لأنه لو علم ثم خلق أفبقي علمه على ما كان أم لم يبق ؟ فإن بقي فهو جهل فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد وإن لم يبق فقد تغير والمتغير مخلوق ليس بقديم... ومنها قوله الجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما وتلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بجحيمها إذ لا تتصور حركات لا تتناهى آخراً كما لا تتصور حركات تتناهى أولاً... ومنها قوله من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد فهو مؤمن، والإيمان لا يتبعض أي لا ينقسم إلى عقد وقول وعمل ولا يتفاضل أهله فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد إذ المعارف لا تتفاضل ([7]).
وأعلام هذه الفرقة هي الجعد بن درهم الذي قتله خالد ابن عبد الله القسري بالكوفة يوم الأضحى بعد خطبة العيد إذ قال: [ضحوا ضحاياكم تقبل الله منكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه يقول إن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلاً تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيراً، ثم نزل عن المنبر وحز رأسه بالسكين بيده]([8]).
وأما الجهم بن صفوان وهو من سكان برفد أخذ عن الجعد بن درهم وقد قتله سلم بن أحوز في أصبهان([9]).
ثم تطورت هذه البدع لتؤصل وتقنن في فرقة المعتزلة والتي كانت امتداداً للقدرية ثم الجهمية.
وللبحث صلة
[1] - مجموع الفتاوى (256:8/ 261)
[2]- أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي 4 / 750 والإبانة لابن بطة 2 / 415 والشريعة للآجري 242.
[3] - مختصر تاريخ دمشق 25 / 114 - 119.
[4] - مختصر تاريخ دمشق 20 / 239 - 249.
[5] - السنة لابن أبي عاصم 1 / 149 - 150 وأخرجه أبو داود 4692 وأحمد 5 / 406 والآجري في الشريعة 191، وقال عنه الألباني حديث حسن.
[6] - أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1 / 151 والآجري في الشريعة، وقال الألباني حديث صحيح.
[7] - الملل والنحل للشهرستاني ص 88.
[8] - مختصر تاريخ دمشق 6 / 50 - 51.
0 التعليقات:
إرسال تعليق