الجماعة 10
رضوان محمود نموس
افتراق الأمة وبقاء الجماعة على الحق
- الإمام الشاطبي:
بعد أن ساق الإمام الشاطبي غالب روايات الحديث قال: فإذا تقرر هذا تعدى النظر في الحديث في مسائل وعددها ست وعشرون مسألة نقتبس منها باختصار شديد , نسأل الله أن لا يكون مخلا.
قال: وهو يحتمل أن يكون افتراقا على ما يعطيه مقتضى اللفظ ويحتمل أن يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاق ولكن يحتمله فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق فإن الخلاف في زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية. وإنما يراد افتراق مقيد وإن لم يكن في الحديث نص عليه ففي الآيات ما يدل عليه , قوله تعالى {ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وقوله تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وما شابه من الآيات الدالة على التفرق الذي صاروا به شيعا أي جماعات بعضهم قد فارق البعض ليسوا على تآلف ولا تعاضد ولا تناصر وهذه الفرقة مشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعداوة والبغضاء.
إن هذه الفرق افترقت بسبب موقع في العداوة والبغضاء فإما أن يكون راجع إلى أمر هو معصية غير بدعة... وإما أن يرجع إلى أمر هو بدعة.. وإما أن يراد المعنيان معا وقوله صلى الله عليه وسلم { من فارق الجماعة قيد شبر } لا يدل على الحصر وكذلك { إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما } وكذلك الحديث { ليأتين على أمتي من يصنع ذلك } فجعل الغاية في أتباعهم ما هو معصية وكذلك الحديث { حتى لو دخلوا حجر ضب لاتبعتموهم } فجعل الغاية ما ليس ببدعة.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه { أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء , قال: وما إمارة السفهاء ؟ قال أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على الحوض , ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم ويردون على الحوض}([1]) وكل من لم يهتد بهديه ولا يستن بسنته فإما إلى بدعة أو معصية فلا اختصاص بأحدهما.إن هذه الفرق تحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا فهم فارقوا أهل الإسلام بإطلاق وليس ذلك إلا الكفر إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور. ويدل على هذا الاحتمال ظواهر القرآن والسنة مثل { إن الذين فارقوا دينهم } هي قراءة حمزة والكسائي و {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء }. ومثل { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } وهي عند العلماء منزلة في أهل القبلة وهم أهل البدع وهذا كالنص وقوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج { يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية }.
ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأصوله ويحتمل وجها ثالثا وهو إن يكونوا هم ممن فارق الإسلام لكن مقالته كفر وتؤدي معنى الكفر الصريح ومنهم من لم يفارقه بل انسحب عليه حكم الإسلام وإن عظم مقاله وشنع مذهبه لكم لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح.
إذ لا شك أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر ومنها ما ليس بكفر.
وأما على رواية من قال في حديثه كلها في النار إلا واحدة فإنما يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهرا ويبقى الخلود وعدمه مسكوتا عنه فلا دليل فيه على شيء.
وإن من قال إن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص تحكم فإشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص وهو رأي الطرطوشي أفلا ترى إلى قوله تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } لا تعطي خصوصا في اتباع المتشابه لا في العقائد ولا في غيرها بل الصيغة تشمل ذلك كله.
وكذلك قوله تعالى { إن الذين فرقوا دينهم } فجعل ذلك التفريق في الدين ولفظ الدين يشمل العقائد وغيرها واستدل الطرطوشي على أن البدع لا تختص بالعقائد بما جاء عن الصحابة والتابعين وسائر العلماء من تسميتهم الأقوال والأفعال بدعا إذا خالفت الشريعة وأن هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئية من الجزئيات ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات وإذا كانت الفرقة تدعو إلى ضلالاتها وتزينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس وهم من شياطين الإنس فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة.
إن قوله عليه السلام إلا واحدة قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف إذ لو كان للحق فرق أيضا لم يقل إلا واحدة ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول } إذ رد التنازع إلى الشريعة فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة وقوله في شيء نكرة في سياق الشرط فهي صيغة من صيغ العموم فتنتظم كل تنازع على العموم فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقا قال تعالى { وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } وهو نص فيما نحن فيه فإن السبيل الواحد لا يقتضي الافتراق بخلاف السبل المختلفة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين في الفرق إلا فرقة واحدة وإنما تعرض لعدها خاصة وأشار إلى الفرقة الناجية حين سئل عنها وإنما وقع ذلك كذلك لأن يقين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر. فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله ما أنا عليه وأصحابي.أن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه السلام وأوصاف أصحابه وكان ذلك معلوما عندهم غير خاف فاكتفوا به وربما يحتاج إلى تفسيره من بعد تلك الأزمان.
وفي بيان معنى رواية أبي داود وهي قوله صلى الله عليه وسلم وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله . وذلك أن معنى هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق وأنه سيكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالهم عنها وتوبتهم منها على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى في ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه وأشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهني وعمر بن عبيد فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة محجوبين عن كل لسان مبعدين عند كل مسلم ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديا على ضلالهم ومداومة على ما هم عليه { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا }. ودل على أن كل خارج عما هو عليه - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إنما خرج باتباع الهوى وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى فإن أصل الكلب واقع بالكلب ثم إذا عض ذلك أحدا صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة وكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته.
هذا بخلاف سائر المعاصي وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالمتهم وكلام مكالمهم وأغلظوا في ذلك. ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال: من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ألصق من الجرب.
ثم قال: فإن الرأي من حيث هو رأي لا ينضبط إلى قانون شرعي إذا لم يكن له أصل شرعي فإن العقول تستحين ما لا يستحسن شرعا وتستقبح ما لا يستقبح شرعا وإذا كان كذلك صار القياس على غير أصل , فتنة على الناس , ثم أخبر في الحديث أن المعلمين لهذا القياس أضر على الناس من سائر أهل الفرق وأشد فتنة.
ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأي لا يمكن أن يكون المقصود بها ذم الاجتهاد على الأصول في نازلة لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع فمن يعرف الأشباه والنظائر ويفهم معاني الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتعليل قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه فإن هذا ليس فيه تحليل وتحريم ولا العكس وإنما القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنة أو ما عليه سلف الأمة أو معانيها المعتبرة.
ثم إن مخالفة هذه الأصول على قسمين:
أحدهما أن يخالف أصلا مخالفة ظاهرة من غير استمساك بأصل آخر فهذا لا يقع من مفت مشهور إلا إذا كان الأصل لم يبلغه كما وقع لكثير من الأئمة حيث لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ.
والثاني أن يخالف الأصل بنوع من التأويل هو فيه مخطئ بأن يضع الاسم على غير مواضعه أو على بعض مواضعه أو يراعي فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصود أو غير ذلك من أنواع التأويل.
والدليل على أن هذا هو المراد بالحديث وما في معناه أن تحليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمه بغير تأويل أو التحريم مشهورا فحرمه بغير تأويل كان كفرا وعنادا ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأسا قط إلا أن تكون الأمة قد كفرت.
فإن تعدم أئمة يفتون ويقتدى بهم بأقوالهم وأعمالهم سكنت إليهم الدهماء ظنا أنهم بالغوا لهم في الاحتياط على الدين وهم يضلونهم بغير علم. ولا شيء أعظم على الإنسان من داهية تقع من حيث لا يحتسب فإنه لو علم طريقها لتوقاها ما استطاع فإنها لو جاءته على غرة فهي أدهى وأعظم على من وقعت به وهو ظاهر. فكذلك البدعة إذا جاءت العامي من طريق الفتيا لأنه يستند في دينه إلى من ظهر في رتبة أهل العلم فيضل من حيث يطلب الهداية.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ذكر الفرق وذكر إن فيها فرقة ناجية كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية لا عن نفس الفرقة لأن التعريف فيها من حيث لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نحت بها فالمقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل فلو سألوا ما وصفها أو ما عملها أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ فلما فهم عليه السلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك.
ونقول لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم أتى به جوابا عن سؤالهم حرصا منه صلى الله عليه وسلم على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه([2]).
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق