دراسات جهادية (9)
شراء الآخرة
رضوان محمود نموس
أن طريق الجهاد ليس مفروشاً بالورود والرياحين، وإنما هو طريق شاق له متاعبه وتبعاته، ولكنه طريق المجد والشرف، وله طعمه ولذته, لذة الطاعة والتضحية في سبيل الله التي لا يعرفها إلا من ذاقها. ومن أجل ذلك قال أحد التابعين وهو في الجهاد نَحْنُ في سعادة لو عرفها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم".
وقال ابن تيمية عن الجهاد : "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"
وتمر بالمجاهد ساعات يرقص قلبه طرباً بطاعة الله وشوقاً للقاء الله وتفانياً في قتل أعداء الله حتى يقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم.
وبالجهاد تنال سلعة الله تبارك وتعالى في النهاية، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء) .
ثم يعود القرآن فيرسم للمؤمنين طريق هذه الصفقة، ويصورها بصورة أخرى رائعة، ويوضح لهم فيها الثمن، ويبين ثمارها القريبة والبعيدة، فيقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف) .
وجاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ» وقال عنه الألباني صحيح([1]).
والشرع يلفت انتباهنا إلى أمر غاية في الأهمية وهو أن من يريد الآخرة والجنة فعليه أن يجاهد لأن الجهاد هو المحك الرئيس قال الله تعالى: {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما} النساء 74
وفي الصحيحين: " تكفل الله للمجاهد في سبيل الله أن يدخله الجنة, أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر وغنيمة" ([2]) .
وفي المسند عن معاذ من حديث طويل: " ... والذي نفس محمد بيده, ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغي به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله, ولا ثقل ميزان عبد كدابة تنفق في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله" ([3]) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الأعمال إيمان بالله ثم جهاد في سبيل الله" ([4]) .
وعنه صلى الله عليه وسلم: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها"
قال في تأسيس التقديس {بعد ذكر الآية: فعلق سبحانه النجاة من عذابه ومغفرة ذنوبهم ودخولهم الجنة والنصر على الأعداء على الإيمان بالله وبرسوله والجهاد في سبيله.}([5]).
قال البيضاوي: {وهو الجمع بين الإِيمان والجهاد المؤدي إلى كمال عزهم، والمراد به الأمر وإنما جيء بلفظ الخبر إيذاناً بأن ذلك مما لا يترك.. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني ما ذكر من الإِيمان والجهاد. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم إذ الجاهل لا يعتد بفعله}([6]).
وقال الخازن: هذا جواب قوله تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون لأن معناه معنى الأمر والمعنى آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله أي إذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني هذا الجزاء الذي ذكر هو الفوز العظيم، وَأُخْرى تُحِبُّونَها أي ولكم تجارة أخرى وقيل لكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وتلك الخصلة نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ،}([7]).
وقال في السنن والمبتدعات: أَوْلِيَاء الله هم الْعَامِلُونَ على تَحْقِيق معنى: {فليقاتل فِي سَبِيل الله الَّذين يشرون الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة} .
أَوْلِيَاء الله حَقًا هم الَّذين يستجيبون لله إِذْ يَقُول: {قَاتلُوا الَّذين يلونكم من الْكفَّار وليجدوا فِيكُم غلظة، وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ}([8]).
قال أبو جعفر: {وهذا حضٌّ من الله المؤمنين على جهاد عدوه من أهل الكفر به على أحايينهم غالبين كانوا أو مغلوبين، ... يقول الله لهم جل ثناؤه:"فليقاتل في سبيل الله"، يعني: في دين الله والدعاء إليه، والدخول فيما أمر به أهل الكفر به الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، يعني: الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله أهل طاعته فيها. وبيعُهم إياها بها: إنفاقهم أموالهم في طلب رضى الله، لجهاد من أمر بجهاده من أعدائه وأعداء دينه، وبَذْلهم مُهَجهم له في ذلك.
وأخبر جل ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه فقال:"ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: ومن يقاتل في طلب إقامة دين الله وإعلاء كلمة الله أعداءَ الله "فيقتل"، يقول: فيقتله أعداء الله، أو يغلبهم}([9])
ولما ذم الله تعالى المنافق بالاحتباس عن الجهاد، أمر المؤمنين بالقتال فقال سبحانه: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي: يبيعون، يقال: شريت. بمعنى: بعت. والمعنى: أنهم يختارون الجنة على البقاء في الدنيا، فيجاهدون طلبا للشهادة في سبيل الله، {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} شهيدا أو يغلب فينظر ويقتل هو، فكلاهما سواء في الثواب، وهو قوله {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ، قال ابن عباس: ثوابا لا صفة له.([10]).
- قال الواحدي: قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْكُفَّارَ «1» ]
قال القرطبي: فِيهِ ثَلاثُ مَسَائِلَ: الأولَى (الَّذِينَ يَشْرُونَ) أَيْ يَبِيعُونَ، أَيْ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (بِالآخِرَةِ) أَيْ بِثَوَابِ الآخِرَةِ. الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) شَرْطٌ. (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَالْمُجَازَاةُ (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً). وَمَعْنَى (فَيُقْتَلْ) فَيُسْتَشْهَدُ. (أَوْ يَغْلِبْ) يَظْفَرُ فَيَغْنَمُ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ (وَمَنْ يُقاتِلْ) (فَلْيُقَاتِلْ) بِسُكُونِ لامِ الأمْرِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ (فَلِيُقَاتِلْ) بِكَسْرِ لامِ الأمْرِ. فَذَكَرَ تَعَالَى غَايَتَيْ حَالَةِ الْمُقَاتِلِ وَاكْتَفَى بِالْغَايَتَيْنِ عَمَّا بَيْنَهُمَا، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. الثَّالِثَةُ- ظَاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا أَوِ انْقَلَبَ غَانِمًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي وَإِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ)([11]).
وقال النسفي:{فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون} يببعون {الحياة الدنيا بالآخرة} والمراد المؤمنون الذين يستحبون الحياة الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها أي إن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون أو يشترون والمراد المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله حق جهاده {وَمَن يقاتل فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وعد الله المقاتل في سبيل الله ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله}([12]).
وقال المراغي: (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي فليقاتل في سبيل الله من أراد أن يبيع الحياة الدنيا ويبذلها ويجعل الآخرة ثمنا لها وعوضا منها، لأنه يكون قد أعز دين الله وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، والله عزيز ذو انتقام.
ثم رغّب في القتال بعد الأمر به بذكر الثواب عليه فقال: (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن يقاتل في سبيله فيظفر به عدوه أو يظفر هو بعدوه، فإن الله سيؤتيه أجرا عظيما من عنده خالدا أبدا في دار الجزاء.
وفى الآية إيماء إلى شرف الجهاد، لأنه إنما كان في سبيل الحق والعدل والخير لا في سبيل الهوى والطمع، كما أن فيها إيماء إلى أنه ينبغي للمقاتل أن يوطن نفسه على أحد الأمرين: إما أن يقتله العدو ويكرم نفسه بالشهادة، وإما أن يظفر به فيعزّ كلمة الحق والدين، ولا يحدّث نفسه بالهرب بحال، لأنه إن فعل ذلك فما أسرع ما يقع في ذلك الفخّ الذي نصبه لنفسه.
ثم زاد ترغيبا فيه فقال: (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وأيّ عذر لكم يمنعكم أن تقاتلوا في سبيل الله لتقيموا التوحيد مقام الشرك، وتحلّوا الخير محل الشر، وتضعوا العدل والرحمة موضع الظلم والقسوة. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي وفى سبيل المستضعفين إخوانكم في الدين ([13]).
وقال السعدي: ومن لطف الله بعباده أن لا يقطع عنهم رحمته، ولا يغلق عنهم أبوابها. بل من حصل منه غير ما يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل نفسه، فلهذا أمر هؤلاء بالإخلاص والخروج في سبيله فقال: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} هذا أحد الأقوال في هذه الآية وهو أصحها.
وقيل: إن معناه: فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الكاملو الإيمان، الصادقون في إيمانهم {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي: يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها.
فإن هؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب لأنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطَّنوها على جهاد الأعداء، لما معهم من الإيمان التام المقتضي لذلك.
وأما أولئك المتثاقلون، فلا يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا، فيكون هذا نظير قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا} إلى آخر الآيات. وقوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}
{وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله، ويكون العبد مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله. {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} زيادة في إيمانه ودينه، وغنيمة، وثناء حسنا، وثواب المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.([14]).
وقال سيد قطب: إن المؤمن لا يتمنى البلاء بل يسأل الله العافية. ولكنه إذا ندب للجهاد خرج- غير متثاقل- خرج يسأل الله إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.. وكلاهما فضل من الله وكلاهما فوز عظيم. فيقسم له الله الشهادة، فإذا هو راض بما قسم الله أو فرح بمقام الشهادة عند الله. ويقسم له الله الغنيمة والإياب، فيشكر الله على فضله، ويفرح بنصر الله. لا لمجرد النجاة! وهذا هو الأفق الذي أراد الله أن يرفع المسلمين إليه وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق «منهم» وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف من المعوقين، ليأخذوا منهم حذرهم كما يأخذون حذرهم من أعدائهم! ومن وراء التحذير والاستنهاض للجماعة المسلمة في ذلك الزمان، يرتسم نموذج إنساني متكرر في بني الإنسان، في كل زمان ومكان، في هذه الكلمات المعدودة من كلمات القرآن! ثم تبقى هذه الحقيقة تتملاها الجماعة المسلمة أبداً. وهي أن الصف قد يوجد فيه أمثال هؤلاء. فلا ييئس من نفسه. ولكن يأخذ حذره ويمضي. ويحاول بالتربية والتوجيه والجهد، أن يكمل النقص، ويعالج الضعف، وينسق الخطى والمشاعر والحركات! ثم يمضي السياق يحاول أن يرفع ويطلق هؤلاء المبطئين المثقلين بالطين! وأن يوقظ في حسهم التطلع إلى ما هو خير وأبقى.. الآخرة.. وأن يدفعهم إلى بيع الدنيا وشراء الآخرة. ويعدهم على ذلك فضل الله في الحالتين، وإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة:
«فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» ..
فليقاتل في سبيل الله- فالإسلام لا يعرف قتالاً إلا في هذا السبيل. لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة. ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي! إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض ولا للاستيلاء على السكان.. لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات، والأسواق للمنتجات أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات! إنه لا يقاتل لمجد شخص. ولا لمجد بيت. ولا لمجد طبقة. ولا لمجد دولة، ولا لمجد أمة، ولا لمجد جنس. إنما يقاتل في سبيل الله. لإعلاء كلمة الله في الأرض. ولتمكين منهجه من تصريف الحياة. ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج، وعدله المطلق «بين الناس» مع ترك كل فرد حراً في اختيار العقيدة التي يقتنع بها.. في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام..
وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله، بقصد إعلاء كلمة الله، وتمكين منهجه في الحياة. ثم يقتل..
يكون شهيداً. وينال مقام الشهداء عند الله.. وحين يخرج لأي هدف آخر- غير هذا الهدف- لا يسمى «شهيداً» ولا ينتظر أجره عند الله، بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له.. والذين يصفونه حينئذ بأنه «شهيد» يفترون على الله الكذب ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس. افتراء على الله! فليقاتل في سبيل الله- بهذا التحديد.. من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة. ولهم- حينئذ- فضل من الله عظيم في كلتا الحالتين: سواء من يُقتل في سبيل الله ومن يَغلب في سبيل الله أيضاً: «وَمَنْ يُقاتِلْ- فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» ..([15]).
وقال عبد الكريم يونس الخطيب: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً النساء (74)
التفسير: ذلك هو القتال في سبيل الله، لا يخفّ إليه، ولا يندرج به في جماعة المجاهدين، إلا من وطّن نفسه على احتمال تبعاته، وقدّر الموت قبل أن يقدر الحياة، وشرى الحياة الدنيا بالآخرة.. فذلك هو الذي يحتسب له أجر المجاهدين عند الله، إن سلم، أو عطب، لأنه بايع الله، ووفّى بما عاهد الله عليه، ووقع أجره على الله، وهو نيّة الجهاد، وعلى طريق المجاهدين، وإن لم يلتحم في معركة، أو يشارك في قتال.. إن ذلك المجاهد هو الذي يدعى للجهاد، ويقبل في صفوف المجاهدين.. أما أولئك المترددون، الذين يأخذون الجانب الهيّن اللّين من كل أمر، فلا مكان لهم في هذا المقام الكريم، الذي هو مقام الرجال!! قوله تعالى: «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» بيان كاشف لموقف المجاهد، ومكانته عند الله.. فهو في إحدى منزلتين: إما أن يقتل، فيحسب في عداد الشهداء، وإما أن يغلب([16]).
وقال مصطفى العدوي: قال الله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74] ، على أي الوجهين كان أمره (فسوف نؤتيه أجراً عظيما) ، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده لوددت أن أغدو في سبيل الله، فأقتل ثم أحيا، فأغزو فأقتل ثم أحيا، فأغزو فأقتل) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والأحاديث في هذا الباب لا تكاد تنتهي.
قال الله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} [النساء:74] أي: إذا قتل الشخص في سبيل الله.
وأجمع حديث ورد في فضل الشهيد، حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له عند أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويؤمن من عذاب القبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار: الياقوتة منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهل بيته) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74] ، سواء قتلت أو قتلت الآخرين وغلبتهم، {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74] ([17]).
[1] - سنن الترمذي ت شاكر (4/ 633)برقم 2450
[2] - رواه البخاري ورقمه (3123) ومسلم ورقمه (1876) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] - رواد (5/246) والطبراني في الكبير (20/63) ورقمه (115)
[5] - تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس (ص: 62)
[6] - تفسير البيضاوي أنوار التنزيل وأسرار التأويل (5/ 209)
[10] - التفسير الوسيط للواحدي (2 / 80)
[12] - تفسير النسفي = مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1 / 373)
[13] - تفسير المراغي (5 / 91)
[14] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 187)
[15] - في ظلال القرآن (2 / 707)
[17] - سلسلة التفسير لمصطفى العدوي (14 / 8،)
1 التعليقات:
جزاك الله خيرا /اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك و لأعلاء كلمتك عاجلا غير آجل ياالله و اجعل أعمالنا خالصة لوجهك و ابعدنا عن كل ما يحرفنا عن ذلك و صل و سلم و بارك على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين
إرسال تعليق