موقف أهل السنة والجماعة من أهل البدع (5)
رضوان محمود نموس
رأي فقهاء الأحناف:
قال ابن عابدين: [ قال في التتارخانية: من لم يقرّ ببعض الأنبياء, أو عاب نبياً بشيء, أو لم يرض بسنة من سنن المرسلين, صلى الله تعالى عليهم وسلم فقد كفر ]([1]).
وقال: [ إن أصحاب الشروح والفتاوى ذكروا أن المختار في الزنديق والساحر أنهما يقتلان, ولا تقبل توبتهما ]([2]).
قال: [ وقال في البحر ما نصه وفي الجوهرة: من سبّ الشيخين أو طعن فيهما كفر ويجب قتله, ثم إن رجع وتاب وجدد الإسلام هل تقبل توبته أم لا ؟ قال الصدر الشهيد لا تقبل توبته, وإسلامه, ونقتله، وبه أخذ الفقيه أبو الليث السمرقندي, وأبو نصر الدبوسي,.. وهو المختار للفتوى ]([3]).
ثم قال:[ والزنديق لا توبة له عند سائر الأئمة ]([4]).
وقال أيضاً: [ والزنديق لا تقبل توبته عندنا, لأنه متهم فيها, وهو الذي مال إليه شيخ الإسلام أبو السعود ]([5]).
ولقد أفتى ابن عابدين في رسائله بقتل المكّاسين, والساحر, والزنديق, ولو تاب ([6]).
قال: [ وقال الفقيه أبو الليث: إذا تاب الساحر قبل أن يؤخذ تقبل توبته, ولا يقتل وإن أخذ ثم تاب لم تقبل توبته, ويقتل, وكذا الزنديق المعروف الداعي ]([7]).
وقال:[ والزنديق الداعي إلى الإلحاد أشد, لأن ضرره في الدين, فإنه يُضِلّ ضَعَفَةَ اليقين بإلحاده, وإظهاره لهم سِمَةَ المسلمين, فلهذا قُتِلوا, كقطاع الطريق, بل هؤلاء أضر ]([8]).
ثم قال ابن عابدين:[ وفي الظهيرية ومن أنكر إمامة أبي بكر, فهو كافر على قول بعضهم, وقال بعضهم مبتدع, وليس بكافر, والصحيح أنه كافر, وكذا من أنكر خلافة عمر, وهو أصح الأقوال.... وقال في البزارية.... ومن أنكر خلافة أبي بكر رضي الله عنه فهو كافر, في الصحيح, ومنكر خلافة عمر رضي الله عنه كافر في الأصح. ثم قال: وفي الخلاصة: الرافضي إذا كان يسبّ الشيخين ويلعنهما فهو كافر, وإن كان يفضّل علياً فهو مبتدع ]([9]).
وقال العلامة محمد الكواكبي الحلبي في شرحه على منظومته الفقهية المسماة " الفرائد السنية في فضل الجزية " قال بعد كلام ما نصه: [ وعلى هذا المنوال أفتى العلامة أبو السعود, لمّا سئل عن الشيعة أيحل قتالهم, وهل يكون المقتول منا شهيداً, مع أنهم يدعون أن رئيسهم من آل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكيف يجوز قتالهم وهم يقولون لا إله إلا الله. فأجاب أن قتالهم جهاد أكبر والمقتول منّا في المعركة شهيد, وأنهم باغون في الخروج عن طاعة الإمام, وكافرون من وجوه كثيرة, وأنهم خارجون عن الثلاث وسبعين فرقة من الفرق الإسلامية, لأنهم اخترعوا كفراً وضلالاً مركّباً, من أهواء الفرق المذكورة, وأن كفرهم لا يستمر على وتيرة واحدة؛ بل يتزايد شيئاً فشيئاً, فمن كفرهم أنهم.... يسبون الشيخين رضي الله عنهما, وسبهما كفر, ويسبون الصدّيقة, ويطيلون ألسنتهم في حقها, وقد نزلت براءة ساحتها, ونزاهتها, رضي الله تعالى عنها, يلحقون بذلك الشين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, وهو سب منهم لحضرته عليه السلام, فلذا أجمع علماء الأمصار على إباحة قتلهم, وأن من شك في كفرهم كان كافراً, فعند الإمام الأعظم, وسفيان الثوري, والأوزاعي, أنهم إذا تابوا ورجعوا عن كفرهم إلى الإسلام نجوا من القتل, ويرجى العفو كسائر الكفار, إذا تابوا. وأما عند مالك, والشافعي, وأحمد بن حنبل, والليث بن سعد, وسائر العلماء العظام, فلا تقبل توبتهم, ولا يعتبر إسلامهم, ويقتلون حداً ]([10]).
وقال أنور شاه الكشميري, تعليقاً على قاعدة عدم تكفير أهل القبلة: [ "ما المراد بأهل القبلة" ثم قال: قال التفتازاني في المقاصد المبحث السابع في حكم مخالف الحق من أهل القبلة: ليس بكافر, ما لم يخالف ما هو من ضروريات الدين.... ونقل عن شرح الفقه الأكبر: وإن المراد بعدم تكفير أحد من أهل القبلة عند أهل السنة أنه لا يكفر, ما لم يوجد شيء من أمارات الكفر, وعلاماته, ولم يصدر عنه شيء من موجباته. وإن غلا في هواه حتى وجب إكفاره, ولا يعتبر خلافه, ووفاقه أيضاً لعدم دخوله في مسمّى الأمة المشهود لها بالعصمة, وإن صلّى إلى القبلة, واعتقد نفسه مسلماً, لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة؛ بل عن المؤمنين وهو كافر وإن كان لا يدري أنه كافر. ونحوه في الكشف عن شرح البزدوي, والأحكام للآمدي, لا خلاف في كفر المخالف في ضروريات الإسلام, وإن كان من أهل القبلة, المواظب طول عمره على الطاعات, كما في شرح التحرير, ورد المختار.
وأهل القبلة من يصدّق بضروريات الدين - أي الأمور التي علم ثبوتها بالشرع واشتهر - فمن أنكر شيئاً من الضروريات... لم يكن من أهل القبلة, ولو كان مجاهداً بالطاعات, وكذلك من باشر شيئا من أمارات التكذيب.... كالاستهانة بأمر شرعي, والاستهزاء عليه فليس من أهل القبلة, ومعنى عدم تكفير أهل القبلة أن لا يكفر بارتكاب المعاصي, ولا بإنكار الأمور الخفية غير المشهورة.... ويكفرون بإنكار القطعي, وإن لم يكن ضرورياً.... إذ لا خلاف في تكفير المخالف في ضروريات الإسلام, وإن كان من أهل القبلة, المواظب طول عمره على الطاعات, وجعل من قبيل الدجال وكفر الدعاة إلى ما يعلم بالضرورة أنه خلاف ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقاعدة عدم تكفير أهل القبلة ليست على إطلاقها, بل كما ذكره في الفقه الأكبر فسياقها: ولا نكفّر أهل القبلة بذنب. وهي في الرد على المعتزلة والخوارج لا غير. فالعبارة تعرض عن تكفير أهل القبلة, بغير ما يوجب الكفر, وهو الذنب.
وقال الحافظ ابن تيمية: ونحن إذا قلنا أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب, فإنما نريد به المعاصي, كالزنا والشرب, ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنّا لا نكفر أحداً بذنب, بل يقال إنّا لا نكفر بكل ذنب, كما يفعل الخوارج ]([11]).
وقال:[ ومن استسرّ منهم ببدعة, وأراد بالشبهة التأويل, ففيه أن المؤوِّل يستتاب, فإن تاب وإلا حكم عليه بالكفر, فهذا غايته لا النجاة بالتأويل ]([12]).
ثم قال:[ احتجّ من كفّر الخوارج وغلاة الرافضة بتكفيرهم أعلام الصحابة, لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم شهادته لهم بالجنة...لأنا نعلم تزكية من كفروه علماً قطعياً, إلى حين موته, وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفرهم. وفي الحديث: من قال لأخيه كافر فقد باء بها...وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر, مما حصل عندنا القطـع بإيمـانهم, فيجب أن نحكم بكفرهم مقتضى خبر الشارع ]([13]).
قال:[ ومنع قتل من قال لا إله إلا الله ولم يزد عليها هل يصير بمجرد ذلك مسلماً ؟ الراجح لا. بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر فإن شهد بالرسالة, والتزم أحكام الإسلام, حكم بإسلامه, وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله إلا بحق الإسلام. قال البغوي: الكافر إذا كان وثنياً, أو ثنوياً, لا يقر بالوحدانية, فإن قال لا إله إلا الله حكم بإسلامه, ثم يجبر على جميع أحكام الإسلام, ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام.
وأما من كان مقرّاً بالوحدانية منكراً للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله... ومقتضى قوله يجبر أنه إذا لم يلتزم تجري عليه أحكام المرتد, وبه صرح القفال ]([14]).
قال:[ وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري:[ ولا خلاف أن المتأوّل معذور بتأويله إذا كان مستساغاً لا مطلق التأويل, فإنه لا يدفع القتل, بل لا يدفع الكفر.
وإن إنكار القطعي كفر, ولا يشترط أن يعلم ذلك المنكر قطعيته, ثم ينكر فيكون بذلك كافراً, على ما يتوهمه " البعض " بل يشترط قطعيته في الواقع, فإذا جحد شخص ذلك القطعي استتيب فإن تاب وإلا قتل على الكفر ]([15]).
قال: [ وسئل أبو يوسف عن المعتزلة فقال: هم الزنادقة ]([16]).
قال: [ وقد روى محمد رحمه الله عدم جواز الصلاة خلف أهل الأهواء, عن أبي حنيفة رحمه الله, وأبي يوسف رحمه الله كما في فتح القدير ]([17]).
ثم قال:[ إن التأويل في الضروريات لا يدفع الكفر ]([18]).
وقال أيضاً: [ وقال في البحر الرائق وغيره: من حَسَّنَ كلام أهل الهوى أو قال: معنوي أو كلام له معنى صحيح إذا كان ذلك كفراً من القائل كَفَرَ المُحَسِّن ]([19]).
وقال ابن حجر المكي في كتابه الإعلام بقواطع الإسلام في " فصل الكفر المتفق عليه " مما نقله عن كتب الحنفية: [ من تلفظ بلفظ الكفر يكفر، فكل من استحسنه أو رضي به يكفر]([20]).
وقال أنور شاه:[ والحاصل أن من تكلم بكلمة الكفر هازلاً, أو لاعباً, كفر عند الكل, ولا اعتبار باعتقاده, كما صرح به في الخانية, ورد المختار, وفتاوى قاضي خان]([21]).
وقال: [ قال القونوي: ولو أنكر أحد خلافة الشيخين يكفر ]([22]).
ونقل الشيخ محمد بن المرتضى, اليماني, المعروف بابن الوزير في كتابه "إيثار الحق على الخلق":[ إجماع الأئمة على تكفير من خالف الدين المعلوم بالضرورة والحكم بردته ]([23]).
وقال أيضاً: [ وكذلك انعقد إجماعهم على أن مخالفة السمع الضروري كفر؛ وخروج عن الإسلام ]([24]).
وعندما سئل الإمام محمد بن عبد الوهاب عن الرافضة نقل كلام ابن تيمية: [وأما من زعم أن الصحابة ارتدوا, بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم, إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر, أو أنهم فسقوا, فلا ريب أيضاً في كفر قائل ذلك, بل لا ريب في كفر من لم يكفره, فهذا حكم الرافضة في الأصل، وأما الآن فحالهم أقبح وأشنع, لأنهم أضافوا إلى ذلك الغلوّ في الأولياء, والصالحين من أهل البيت وغيرهم, واعتقدوا فيهم النفع, والضر, في الشدة, والرخاء, ويرون أن ذلك قربة تقربهم إلى الله, ودين يدينون به, فمن توقف في كفرهم؛ والحالة هذه, وارتاب فيه, فهو جاهل بحقيقة ما جاءت به الرسل, ونزلت به الكتب، فليراجع دينه, قبل حلول رمسه. ومن تأمل القرآن, والسنة, وكلام محققي سلف الأمة, علم يقيناً أن أكثر الخلق -إلا من شاء الله- قد أعرضوا عن واضح الحجة, وسلكوا طريق الباطل ونهجه, وجعلوا مصاحبة عباد القبور وأهل البدع والفجور ديناً يدينون به, وخُلقاً حسناً يتخلقون به, ويقولون فلان له عقل معيشي, يعيش به مع الناس, ومن كانت له غيرة, ولو قلّت فهو عندهم مرفوض, ومنبوذ, كالأحلاس, فما أعظمها من بلية, وما أصعبها من رزية.. وأما مجرد السلام على الرافضة, ومصاحبتهم, ومعاشرتهم, مع اعتقاد كفرهم وضلالهم, فخطر عظيم, وذنب وخيم, يخاف على مرتكبه من موت قلبه وانتكاسه, وفي الأثر إن من الذنوب ذنوباً عقوبتها موت القلب, وزوال الإيمان ]([25]).
وقال الشيخ محمد كاظم حبيب -بعد أن قسّم الردة إلى ردة جلية, وردة خفية, وإلى وردة جهرية, وردة سرية- قال:
الردة الخفية: [ وهي الردة التي يخفى أمرها على صاحبها نفسه, فيظن نفسه مسلماّ, ولا يدري أنه من المرتدين -والعياذ بالله- ويظن نفسه من الصالحين الناجين, وهو من الخاسرين الهالكين, وفي هذه الردة كما نرى لا يتوفر عنصر الإرادة, ولا نية الارتداد, ولا القصد الإجرامي, وهي أشبه ما تكون بالشرك الخفي, الذي يقع فيه كثير من الناس, ولا يشعرون أنهم مشركون, ولكن الجهل لا يعفي صاحبه من المسؤولية في الدنيا, ولا من عذاب الآخرة يوم القيامة. والجهل بأحكام الشريعة لا يبرر الخروج عليها, والمروق من إطارها, مثل ذلك كمن يسخر من الله ورسوله مازحاً, فيخرج من الملّة والدين,, وهو يحسب نفسه من المسلمين, وكذا لو سبّ الله تعالى وهو غضبان, فإنه يصبح مرتداً, ولو لم ينو الارتداد، وكذا لو شرح صدراً بحكم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله, أو انتسب إلى حزبهم,و أو انتخبهم في الاقتراع العام, أو اعترض على حكمة تعدد الزوجات, أو الطلاق في الإسلام, أو على حكمة الميراث, وحصة الذكر والأنثى فيه, أو أصرّ على ترك الصلاة, أو اعتقد صحة دين الفرق الباطنية, أو المنشقة عن الإسلام, أو المنتسبة إليه زوراً وبهتاناً, أو استحلّ الربا, أو السفور, أو ألقى بالمودة لأعداء الله ورسوله, أو اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين, فإنه مرتد خارج عن دين الإسلام. ولو ادّعى الجهل بخطر هذه الأمور, أو الجهل بحقيقة هذه الأفعال. وردته هذه ردة خفية وقع في حمأتها وهو لا يدري, والعياذ بالله نسأل الله السلامة والعفو والعافية.
الردة السرية: [ وهي ردة يخفى أمرها على الناس, ولكن صاحبها على علم بها, فهي جلية بالنسبة له, وسرية بالنسبة للناس، لأنه أخفى أمرها عنهم, كالزنديق الذي يضمر الكفر, ويكتمه عمن حوله, ويتظاهر بالإيمان والإسلام, وهذه هي حال المنافقين, وردتهم أخطر أنواع الردة, واشدها أثراً على الإسلام والمسلمين, ولذلك جعل الله صاحبها في الدرك الأسفل من النار, وهذا النوع الخبيث من الردة اشتهر به اليهود والمنافقون, كما اشتهر به من بعدهم الفرق الباطنية التي تؤمن بالتقية, كالدروز, والنصيرية, والإسماعيلية, والجـعفرية, وغيرهم !!]([26]).
ويقول عن المرتد:[ إذا كان زنديقاً..... فهذا يقتل فوراً بلا استتابة, ولا إمهال..... أما إن تاب حقيقة فحسابه عند ربه, في الآخرة, فقد تنفعه توبته هناك, أمّا في الدنيا فيلزمه القتل حداً]([27]).
[1] - رسائل ابن عابدين: 1 / 325.
[2] - المصدر السابق: 1 / 327.
[3] - المصدر السابق: 1 / 328.
[4] - المصدر السابق: 1 / 330.
[5] - المصدر السابق: 1 / 333.
[6] - المصدر السابق: 1 / 335.
[7] - المصدر السابق: 1 / 340.
[8] - المصدر السابق: 1 / 348.
[9] - المصدر السابق: 1 / 359.
[10] - المصدر السابق: 1 / 369.
[11] - إكفار الملحدين لأنور شاه الكشميري, ص/ 15 - 23.
[12] - المصدر السابق: ص/ 24.
[13] - المصدر السابق: ص/ 25.
[14] - المصدر السابق: ص/ 30.
[15] - المصدر السابق: ص/ 33.
[16] - المصدر السابق: ص/ 38.
[17] - المصدر السابق: ص/ 38.
[18] - المصدر السابق: ص/ 45.
[19] - المصدر السابق: ص/ 59.
[20] - المصدر السابق: ص/ 79.
[21] - المصدر السابق: ص/ 55 - 60.
[22] - المصدر السابق: ص/ 69.
[23] - إيثار الحق على الخلق ص/ 116.
[24] - المصدر السابق: ص/ 121.
[25] - الدرر السنية في الأجوبة النجدية 8 / 450 - 451.
[26] - كتاب الردة لمحمد كاظم حبيب, ص/ 42 - 44.
[27] - المصدر السابق: ص/ 60.
0 التعليقات:
إرسال تعليق