في رحاب العلماء (8)
فصل الدين عن الدولة للشيخ مصطفى صبري([1])
رضوان محمود نموس
يتحدث شيخ الإسلام مصطفى صبري رحمه الله عن خطورة فصل الدين عن الدولة وأنه يعني كفر الدولة ثم كفر الشعب المطيع والمتبع لهذه الدولة
قال مصطفى صبري، شيخ الإسلام للدولة العثمانية في معرض رده على الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد):
[ ولأن يكون معالي المؤلف قد جمع أخطاء جمة في صفحة واحدة في مقدمة كتابه أثنى في مختتم كلامه على المبدأ الغربي المتعلق بفصل الدين عن الدولة فصلا واضحا صريحا، والدين في مصر وإن كان منفصلا عن الدولة والحكومة إلى حد ما، لانقسام المحاكم فيها إلى شرعية وغير شرعية ولعدم دخول شيخ الأزهر في هيئة الوزارة. لكن معاليه يتمنى فصلا أوضح وأصرح... وهذا الفصل الواضح الصريح الذي هو آخر آمال المتعلمين العصريين وآخر منالهم من ديننا([2]).
وهنا أقول سلفا وباختصار إن معناه خروج حكومة المسلمين من ربقة الإسلام ورقابته عليها وخروج الأمة أيضا من ربقته باختيارها الحكومة الخارجة على الإسلام حكومة لها لا سيما الحكومة المستندة إلى البرلمان المستند إلى الأمة فمثل الفصل في تلك الحكومات كمثل المناداة بالردة حكومة وأمة وإذا كان في الأفراد أو على الأصح في بعضهم دين يعيش إلى أن ينقضي جيلهم يعيش محكوما للحكومة لا حاكما عليها كما كان قبل الفصل وهذا وحده كاف في أن يكون الفصل كفرا لا سيما إذا كان تنزيل الإسلام عن عرش حكمه بأيدي المسلمين أنفسهم لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه... وبالنظر إلى أن بلاد المسلمين تطلق في عرف الشرع على بلاد تحكم فيها قوانين الإسلام وإن عزل الدين عن التدخل في أمور الدولة يخرج تلك البلاد من عداد بلاد الإسلام... أما إذا خرجت –الدولة- عن حدود الدين مدعية لكون الخضوع لأمر الدين ونهيه واجباً على الأمة دون الحكومة فهذا فصل الدين عن الدولة مبدئياً أي علمياً واعتقادياً، وهذا ارتداد الدولة عن الإسلام وارتداد الأمة معها إذا رضي هذه الحالة لحكومتها، أو كانت في حكم الراضية بأن تكون الحكومة حكومة برلمانية تحكم بالنيابة عن الأمة. فينطبق عليها حينئذٍ قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)]([3]).
ويقول في المجلد الرابع تحت عنوان " الباب الرابع في عدم جواز فصل الدين عن السياسة": [قد نبهنا في مقدمة الكتاب بعض التنبيه إلى أهمية هذه المسألة في نظر الإسلام الذي له عين ساهرة على حقوقه، بالرغم من استخفاف محدثيها بما فيها من خطر عليه، وتصويرها في أعين الناس كأن الفصل بين الدين والسياسة عبارة عن مراعاتها مستقلاً أحدهما عن الآخر، من غير أن يكون أي إخلال أو إضرار بأي منهما، لكن حقيقة الأمر أن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه، وقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين, ومحاولة الخروج عليه, لكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد في غيره، فهو ثورة حكومية على دين الشعب وشق عصا الطاعة منها أي الحكومة لأحكام الإسلام؛ بل ارتداد عنه من الحكومة أولاً, ومن الأمة ثانياً إن لم يكن بارتداد الداخلين في حوزة تلك الحكومة باعتبارهم أفراداً فباعتبارهم جماعة، وهو أقصر طريق إلى الكفر([4]) من ارتداد الأفراد؛ بل إنه يتضمن ارتداد الأفراد أيضاً لقبولهم الطاعة لتلك الحكومة المرتدة التي ادعت الاستقلال لنفسها بعد أن كانت خاضعة لحكم الإسلام عليها. وما الفرق بين أن تتولى الأمر في البلاد الإسلامية حكومة مرتدة عن الإسلام وبين أن تحتلها حكومة أجنبية عن الإسلام([5]).؛ بل المرتد أبعد عن الإسلام من غيره وأشد, وتأثيره الضار في دين الأمة أكثر, من حيث أن الحكومة الأجنبية لا تتدخل في شؤون الشعب الدينية, وتترك لهم جماعة فيما بينهم تتولى الفصل في تلك الشؤون, ومن حيث أن الأمة لا تزال تعتبر الحكومة المرتدة عن دينها من نفسها فترتد هي أيضاً معها تدريجياً, إن لم نقل بارتدادها معها دفعة باعتبارها مضطرة في طاعة الحكومة, ومن حيث أن موقفها الاضطراري تجاه حكومة تأخذ سلطتها وقوتها من نفس الأمة ليس كموقفها الاضطراري تجاه حكومة لها قوة أجنبية مثلها.
ومن هذه النقاط الدقيقة المهمة كان ضرر الحكومة الكمالية بأمة الترك المسلمة أشد من أي حكومة أجنبية مفروضة الاستيلاء على بلادها وربما يعيب هذا القول عليَّ من لا خلاق له في الإسلام الصميم، والعائب يرى الوطن فوق كل شيء مع أن المسلم يرى الوطن مع الإسلام، فهو يتوطن مع الإسلام ويهاجر معه، فإن كان يقع جزء من بلاد تركيا تحت احتلال اليونان المؤقت لأزمير فتركيا كلها ببلادها وسكانها خرجت بعد حكومة الكماليين من يد الإسلام، وبينما أنا أستشهد بحال تركيا الحديثة الكمالية على مضار فصل الدين عن الدولة نرى فضيلة الأستاذ الأكبر المراغي شيخ الجامع الأزهر يقول في كلمة منشورة عنه في الجرائد ما معناه "أن في إمكان أي حكومة إسلامية أن تخرج عن دينها فتصبح حكومة لا دينية وليس في هذا مانع من أن يبقى الشعب على إسلامه كما هو الحال في تركيا الجديدة ... كأن الدين لازم للشعب فقط لا للحكومة، مع أن الحكومة ليست إلا ممثلة الشعب أو وكيلته التي لا تفعل غير ما يرضاه، فإذا أخرجها أفعالها عن الدين، فلا مندوحة من أن يخرج موكلها أيضاً لأن الرضى بالكفر كفر، وهذا ما يعود إلى الشعب من فعل الحكومة فحسب، فضلاً عما يفعل الشعب نفسه بعد فعل الحكومة الفاصل بين الدين والسياسة ويخرج به عن الدين، ولو في صورة التدريج اقتداء بحكومته التي يعدها من نفسه، لا سيما إذا كانت حكومة نيابية برلمانية ... فالمسلمون إن لم يكن الله قدر أن يقطع دابرهم بالاستمرار في سبيلهم إلى الدمار فهم في حاجة إلى تدارك أمرهم بالرجوع إلى حضانة الإسلام فيتربوا فيها ويبعثوا من جديد إلى حياة الدنيا والآخرة، ولا ينفعهم البحث عن أسباب البعث في حضانات أجنبية فينشأ أمة ممسوخة لا شرقية ولا غربية، لا مسلمة ولا كتابية.
ولا يكون منشأ هذه الفوضى الدينية والاجتماعية والسياسية اللائي لا يقيدها نظام غير نظام التطفل للأمم إلا الوهن في العقيدة فالأخلاق من غير دين عبث، كما قال الفيلسوف "فيختيه" والأمة من غير أخلاق أضل من الأنعام، وأبعد من أن يشد بعضها بعضا، والدين لا بد أن يجيء من قبل الله ليتحلى المتدين قبل كل شيء بمخافة الله التي هي رأس الحكمة ومعدن الشفقة على خلق الله.
لكن البلاد الإسلامية عامة ومصر خاصة مباءة اليوم لفئة تملكوا أزِمَّة النشر والتأليف ينفثون من أقلامهم سموم الإلحاد غير مجاهرين بها وربما يتظاهرون بالدين وقد ذكرهم الأستاذ فريد وجدي عند تهديدي بالعلم الحديث وسماهم نوابغ البلاد الإسلامية كما سبق ذكره في مقدمة الكتاب([6]) – حيث يقول وجدي: ولد العلم الحديث وما زال يجاهد القوى التي كانت تساوره فتغلب عليها، ودالت الدولة إليه في الأرض فنظر نظرة في الأديان وسرى عليها أسلوبه، فقذف بها جملة إلى عالم الميثولوجيا (الأساطير) ثم أخذ يبحث في اشتقاق بعضها عن بعض واتصال أساطير بعضها ببعض فجعل من ذلك مجموعة تقرأ لا لتقدس تقديسا ولكن ليعرف الباحثون منها الصور الذهنية التي كان يستعبد لها الإنسان نفسه ويقف على صيانتها جهوده غير مدخر في سبيلها روحه وماله، وقد اتصل الشرق الإسلامي بالغرب منذ أن أكثر من مئة سنة فأخذ يرتشف من مناهله العلمية ويقتبس من مدنيته المادية، فوقف فيما وقف على هذه الميثولوجيا ووجد دينه ماثلاً فيها فلم ينبس بكلمة لأنه يرى الأمر أكبر من أن يحاوله، ولكنه استبطن الإلحاد متيقناً انه مصير أخوانه كافة متى وصلوا إلى درجته العلمية، وقد نبغ في البلاد الإسلامية كتاب وشعراء وقفوا على هذه البحوث العلمية فسحرتهم فأخذوا يهيئون الأذهان لقبولها دساً في مقالاتهم وقصائدهم، غير مصارحين بها غير أمثالهم، تفادياً من أن يقاطعوا أو ينفوا من الأرض- ... ومقتضى هذا الأساس أن مبدأ الديانة إن كان حقاً مسلماً به وكان التمسك بالدين لازماً للأمة لا سيما الأمم الإسلامية وشرطاً حيوياً لكيانها فاللازم أن تكون حكومتها متدينة، أي خاضعة للدين، حتى يتسنى تدين الأمة، ويسلم لها البقاء على دينها.
ولا نتوقع من القارئ أن يقول عنا في نفسه: ما بال المؤلف يشتغل بهذه الأمور المعلومة، فهل من قائل بخلافها حتى يحتاج إلى تثبيتها وما صلتها بموضوع هذا الباب من كتابه وهو فصل الدين عن السياسة ولو قال ذلك كان جوابنا عليه: فها نحن أولاء أتينا هذه المسألة، لأن القول بفصل الدين عن السياسة معناه ادعاء عدم لزوم الدين للحكومة بزعم أن في دين الأمة كفاية واستغناء عن ديانة الحكومة ومعنى عدم لزومه للحكومة ألا يكون له أي للدين سلطة عليها ورقابة على أعمالها، كما كنت للحكومة سلطة على الأمة ورقابة على أعمالها. لكنا نحن القائلين بعدم جواز الفصل بين الدين السياسة نرى هذا الفصل مساوياً لفصل الدين عن الأمة، بل أشد ضرراً وأكثر مفعولاً، لأن الحكومة تستطيع التأثير في الأمة، ولا تستطيع الأمة التأثير في الحكومة، ما دامت خاضعة لحكمها، فليس في مقدور الأمة التأثير في حكومتها غير تغييرها، فإذا لم تغيرها أو عجزت عن تغييرها فلا شك في تأثير الحكومة فيها وتمشيتها على هواها، وتنشئة أبنائها على مبادئها دون تأثير من الأمة في الحكومة، فليس معنى تجويز فصل الدين عن السياسة إلا تجويز تجرد الحكومة عن الدين, وهل يجوز في حق الحكومة هذا التجرد الذي لا يجوز في حق الأمة؟ إلا أن الراغبين في تجريد الحكومة من الدين يسمونه فصل الدين عن السياسة تخفيفاً لخطره وسوء تأثيره في سمع الأمة المتدينة, فهم يتوسلون إلى القضاء على دين الحكومة بأن يعبروا عن هذا القضاء بالفصل بين الدين والسياسة, ثم يتوسلون بالقضاء على دين الحكومة إلى القضاء على دين الأمة.
وإذا لم يكن معنى فصل الدين عن السياسة تجريد الحكومة من الدين لتعمل بعقلها القصير محررة من قيود الدين وأحكامه فماذا يكون معنى هذا الفصل؟ وقد كانت الحكومات الإسلامية منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى عهد قريب مما نحن فيه اليوم من السنوات النحسات يحكمن على الأمة ويحكم عليهن الإسلام من فوقهن، فإن فعلن في خلال هذه الخطة المرسومة ما يخالف حكماً من أحكام الدين فإن ما كان ذلك يعد ذنباً على الحكومة الفاعلة كما يقترف أحد من المسلمين إثماً متبعاً هوى نفسه خافق القلب من مخافة الله ومخافة الناس، أما مجاهرة الخروج عن رقابة الإسلام, ومحاولة فصل الدين وعزله عن السياسة أي عزله عن حكمه على الحكومة ووضع هذه المسألة موضع البحث في شكل مشروع جديد ومذهب اجتماعي جديد ومحاولة تقليد الحكومات الأجنبية عن الإسلام في ذلك، فلم تكن تطوف ببال أي حكومة من حكومات المسلمين مهما كانت فاسقة مستهترة في أفعالها، لأنه إعلان حرب من الحكومة على الإسلام كما هو المعتاد في الحروب تعلنها الحكومة ثم يعتبر ذلك إعلاناً من الأمة أيضاً... لتمردها على متبوعها, وخروجها عن طاعته]([7]).
[1] - مصطفى صبري: (1286-1373هـ) من علماء الحنفية، فقيه باحث تركي الأصل والمولد والمنشأ، ولد في توقات، وتعلم بقيصريه، وعين مدرساً في جامع محمد الفاتح وهو في الثانية والعشرين من عمره، ثم تولى مشيخة الإسلام في الدولة العثمانية، وقاوم الحركة الكمالية وعلمانية الدولة بعد الحرب الأولى، وهاجر إلى مصر فرأى هناك علمانية رجال الفكر والأدب، فألف كتاب موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، في أربع مجلدات، ضمنه كثيرا من الردود على جميع أشكال الانحراف الدينية والعقلي عند نابتة المستغربين المصريين ومدرسة محمد عبده.
2- وقد وقع هذا الفصل بعد عهد المؤلف بقليل جدا وصار الفصل تاماً بل صار الدين مطارداً في مصر وغيرها.
[4] - ومن البلية أن الحركات التي تثار في الأزمنة الأخيرة وترمي إلى محاربة الإسلام في بلاده بأيدي أهله والتي لا شك أنه الكفر وأخبث أفانين الكفر يباح فعلها لفاعليها, ولا يباح تسميتها باسمها لمن عارض تلك الحركات, وحارب المحاربين, ثم إن محاربة الإسلام ومحاربة المحارب تجريان في مصر التي يقال عنها زعيمة العالم الإسلامي في أسلوب عجيب مبهم ناشئ من خبث نوايا المحاربين, ومن ضعف مركز المعارضين. (الهامش للشيخ مصطفى صبري).
[5] - وقد قلنا في مقدمة الكتاب إن مدار الفرق بين دار الإسلام ودار الحرب على القانون الجاري وأحكامه في تلك الديار، كما أن فصل الدين عن السياسة معناه أن لا تكون الحكومة مقيدة في قوانينها بقواعد الدين. (الهامش للشيخ مصطفى صبري)
[6] - موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 1/24.
0 التعليقات:
إرسال تعليق