رسائل إلى الثغر (8)
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
رضوان محمود نموس
أخوتي
أهل الثغر؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله الكريم أن يلهمنا وإياكم العمل بكتابه جل وعلا وسنة نبيه صلى الله عليه
وسلم ويوفقنا وإياكم لطاعته وطاعة رسوله
صلى الله عليه وسلم .
ما
زلنا نستلهم الوصايا للمجاهدين من سورة الأنفال "سورة الجهاد" فبعد أن
أمر الله تعالى المؤمنين بإصلاح ذات البين, ووجَّهَهم لقارب النجاة في الدنيا
والآخرة, وهو طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال الله
تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ } [الأنفال: 1]وكرر ذلك على المسلمين لمزيد من الاهتمام {وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأنفال: 46]
وإن
أول المعارك هي مع أنفسنا, فإن انتصرنا بها يمكن أن ننتصر بالمعارك الخارجية,
ومعركتنا مع أنفسنا هي أن نطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ونعصي الشيطان
والهوى فإن النصر في هذه المعركة بالتزام الطاعة هو مقدمة لكل نصر بعده, والهزيمة
في هذه المعركة لا سمح الله هي مقدمة لكل هزيمة بعدها.
علينا
أن نمارس الطاعة حتى تكون أكبر لذة في حياتنا وأعظم نشوة نشعر بها هي في ممارستنا
لهذه الطاعة.
فالطاعة
شرط الإيمان قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء:
59]
والطاعة
سبب الرحمة قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]
والطاعة
هي الضمان والأمان قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 33]
والطاعة
هي سبب للفوز الأكبر قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]
والطاعة
هي التي تفضي لصحبة كرام الخلق قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقًا } [النساء: 69]
والطاعة
هي طريق الفائزين قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ
اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] وقال الله
تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
[الأحزاب: 71]
قال
الإمام ابن تيمية [وَالدّين الْحق هُوَ طَاعَة الله وعبادته كَمَا بَينا أَن الدِّين
هُوَ الطَّاعَة الْمُعْتَادَة, الَّتِي صَارَت خلقا وَبِذَلِك يكون المطاع محبوبا
مرَادا, إِذْ أصل ذَلِك الْمحبَّة والإرادة وَلَا يسْتَحق أحد أَن يعبد ويطاع على
الْإِطْلَاق إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَرُسُله, وأولو الْأَمر أطِيعُوا
لأَنهم يأمرون بِطَاعَة الله, كَمَا قَالَ النَّبِي فِي الحَدِيث الْمُتَّفق
عَلَيْهِ من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله وَمن أطَاع أَمِيري فقد أَطَاعَنِي وَمن
عَصَانِي فقد عصى الله وَمن عصى أَمِيري فقد عَصَانِي]([1])
قال
الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }
[الصافات: 171 - 173]
وقال
الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا
لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105، 106]
ففي
هذه الآيات ركن من أركان النصر الذي يمنحه الله سبحانه لنا ويرشدنا إلى طريقه وهو
طاعة الله حق طاعته التي يشعر معها الإنسان أنه عبد ذليل بين يدي ربه سبحانه,
فالإنسان خلق ليكون عبداً .
قال
الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56]
و
التعبُّد لله إنما هو تمام ذل المخلوق لله، وكمال حُبِّهِ له، و منتهى الطاعة
والانقياد لشرعه .
والتبصر
في قوله تعالى بإضافة المطيعين لجنابه في قوله سبحانه (لعبادنا) و (عبادي) وإنما
حصلت هذه الإضافة لجناب كرم الله سبحانه عندما أخلصوا الطاعة وجردوا التعبد لله فأثابهم
نصراً وعزة .
ومن
يستنكف عن طاعة الله سيطيع الشيطان لا محالة.
[وَهَذَا
الْمَفْهُومُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ فِيمَنِ اتَّبَعَ
تَشْرِيعَ الشَّيْطَانِ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ بِدَعْوَى أَنَّهَا ذَبِيحَةُ
اللَّهِ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَإِنَّه لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فَصَرَّحَ
بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِطَاعَتِهِمْ. وَهَذَا الْإِشْرَاكُ فِي الطَّاعَةِ،
وَاتِّبَاعِ التَّشْرِيعِ الْمُخَالِفِ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ
الْمُرَادُ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يابَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ، وَقَوْلِهِ
تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: {يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ
إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِن
يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً
مَّرِيداً} أَيْ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا، أَيْ وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ
تَشْرِيعِهِ؛ وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يُطَاعُونَ فِيمَا
زَيَّنُوا مِنَ الْمَعَاصِي شُرَكَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذلك زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} . وَقَدْ
بَيَّنَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} فَبَيَّنَ لَهُ إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي
ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُمْ أَرْبَابًا ([2])
.
وكل
نكسات الأمة وانهياراتها هي بسبب نقص الطاعة وتخلخلها وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يفزع إلى طاعة الله في الملمات.
فعَنْ
حُذَيْفَةَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى»([3])
فالطاعة
هي التي يُسْتَجْلَبُ بها نصر الله تعالى،
و بدونها؛ وحين تخلُّفها وعدم الإتيان بما أراده الله وطلبه فهيهات أن ينصر من تخلف
عن طاعته ولم يتبع هداه,
و
كلما كانت الطاعة أتم وأخلص وأصوب كان النصر أعلى وأكمل وأقرب .
وهذا
الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه يوصي قائد جيشه أسد الإسلام سعد بن أبي وقاص رضي
الله عنه فيقول:
[أوصيك
ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدو،
وأقوى المكيدة في الحرب، وأن تكون أنت ومن معك أشدّ احتراسا من المعاصي فيكم من
عدوّكم، فإنّ ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن
عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل
علينا في القوة، وإن لا ننصر عليهم بطاعتنا لم نغلبهم بقوتنا، وَاعْلَمُوا أَن
عَلَيْكُم فِي سيركم حفظَة من الله تَعَالَى يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ, فاستحيوا
مِنْهُم وَلَا تعملوا بمعاصي الله وَأَنْتُم فِي سَبِيل الله, وَلَا تَقولُوا إن
عدونا شَرّ منا فَلَنْ يسلطوا علينا وَإِن أسأنا فَرب قوم سلط عَلَيْهِم شَرّ
مِنْهُم كَمَا سلط على بني إِسْرَائِيل لما عملُوا بمعاصي الله كفرة الْمَجُوس
{فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا} فاسألوا الله العون على أَنفسكُم
كَمَا تسألونه على عَدوكُمْ أسأَل الله ذَلِك لنا وَلكم]([4])
وهذا
الصديق رضي الله عنه كان رأس أمره الإصرار على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم
رغم تقلب الحال وشدة الزلزال لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهز جيش
أسامة قبل وفاته فلما توفي صلى الله عليه وسلم [رجع أسامة بنفسه إلى أبي بكر
الصديق وقال له: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني وأنا على غير
حالكم هذه، وأنا أتخوف أن تكفر العرب، فإن كفرت كانوا أول من يقاتل، وإن لم تكفر
مضيت، فإن معي سراة الناس وخيارهم ... "، فقال أبو بكر: "والله لأن
تخطفني الطير أحبَّ إليَّ من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- " لقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، يريد أن يعلِّم المسلمين أهمية
الطاعة وضرورة التحلي بالضبط المتين، فطبّق ذلك على نفسه أولاً ملتزماً بالطاعة
إلى أقصى الحدود، حتى يستطيع مطالبة غيره بالطاعة.
وكانت
بعثة أسامة العنوان الأول لسياسةٍ عامة في الدولة الإسلامية، هي في ذلك الحين خير
السياسات. كان قوام تلك السياسة، طاعة ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، وكانت الطاعة -جد الطاعة- مناط السلامة وعصمة المعتصمين من الخطأ الأكبر في ذلك
الحين.
وحيث
يكون التمرُّد هو الخطأ الأكبر، فالطاعة - بل الطاعة الصارمة - هي العصمة التي ليس
من ورائها اعتصام]([5]).
وكما
أن طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سبب لكل انتصار؛ فالمعصية هي سبب
لكل خسار, وأوضح مثال يمكن أن يقدم: [هو
مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعهم في الخطأ الفظيع الذي قلب
الموازين، وأدى إلى الخسائر الفادحة التي لحقت
بالمسلمين. ولكي نعرف أهمية الطاعة لولي الأمر، نلحظ أن انخذال عبد الله بن أبي
ومن معه من المنافقين لم يؤثر على المسلمين، بينما الخطأ الذي ارتكبه الرماة الذين
أحسن الرسول صلى الله عليه وسلم تربيتهم، وأسند لكل واحد منهم عملا، ثم خالفوا
أمره صلى الله عليه وسلم كان ضرره على المسلمين عامة، حيث سلط الله عليهم عدوهم،
وذلك بسبب عصيان الأوامر، ثم اختلطت أمورهم وتفرقت كلمتهم، وكاد يُقضى على الدعوة
الإسلامية وهي في مهدها.
ونلحظ من خلال أحداث غزوة أحد: أن المسلمين انتصروا في أول
الأمر حينما امتثلوا لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقادوا لتعليمات قائدهم
وأميرهم عبد الله بن جبير - رضي الله عنه - , بينما انهزموا حينما خالفوا أمره صلى
الله عليه وسلم ونزل الرماة من الجبل لجمع الغنائم مع بقية الصحابة رضي الله عنهم، قال تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ
فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ
مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 153]([6]).
يقول
الشيخ محمد بن عثيمين: (ومن آثار عدم الطاعة ما حصل من معصية بعض الصحابة رضي الله
عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وهم يجاهدون في سبيل الله، لإعلاء
كلمة الله، والذي حصل أنه لما كانت الغلبة للمؤمنين، ورأى بعض الرماة أن المشركين
انهزموا تركوا الموضع الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوه، وذهبوا مع
الناس، وبهذا كر العدو عليهم من الخلف، وحصل ما حصل من الابتلاء والتمحيص
للمؤمنين، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله تعالى:
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ
وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152] هذه المعصية التي فات بها نصر انعقدت أسبابه،
وبدأت أوائله، هي معصية واحدة والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، فكيف
بالمعاصي الكثيرة؟ ولهذا نقول: إن المعاصي من آثارها أن الله يسلط بعض الظالمين
على بعض بما كانوا يكسبون، ويفوتهم من أسباب النصر والعزة بقدر ما ظلموا فيه
أنفسهم ([7]).
وعن
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ، يَقُولُ: "
بلَغَنَا أَنَّ أَبْنَاءَ الْأَنْبِيَاءِ وَحَمَلَةَ الْكِتَابِ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ لَمَّا عُذِّبُوا بِبُخْتَ نَصَّرَ وَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْمُلُوكِ
الْجَبَابِرَةِ، شَكَوْا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالُوا: يَا رَبُّ
بِالْعَارِ الَّذِي أَتَيْنَا سَلَّطْتَ مَنْ لَا يَعْرِفُكَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ
عَلَى مَا فِينَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَعَذَّبْتَنَا بِأَيْدِي قَوْمٍ لَا
يَعْرِفُونَكَ وَلَا يُقِرُّونَ لَكَ بِرُبُوبِيَّتِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِمْ: إِنِّي إِذَا عَصَانِي مَنْ يَعْرِفُنِي
سَلَّطْتُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَعْرِفُنِي، وَإِنِّي أَنَا اللَّهُ تَسَمَّيْتُ
شَدِيدَ الْغَضَبِ، لَآخُذَنَّ مُطِيعَكُمْ بِعَاصِيكُمْ حَتَّى لَا أُعْصَى
عَلَانِيَةً بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ "([8]).
إن
تماسك الصف ومتانة اللحمة لا يتأتى إلا باجتناب المعاصي والإقلاع عن كل الذنوب؛
والمصابرة والمرابطة على قلاع الطاعات وحصون التعبد لله.
وأهم
عوامل الهزيمة والخذلان والفشل هو المعاصي سواء كانت في باب الاعتقاد: أو كانت من
المعاصي العملية.
والمتتبع للقرآن يجد أن هذا هو سبب هلاك الأمم: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. فالأمم السابقة أخذت بسبب ذنوبها، وظلمها لأنفسها، والأدلة على هذا كثيرة، وما علينا إلا الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنرى مصداق ذلك.
والمتتبع للقرآن يجد أن هذا هو سبب هلاك الأمم: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. فالأمم السابقة أخذت بسبب ذنوبها، وظلمها لأنفسها، والأدلة على هذا كثيرة، وما علينا إلا الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنرى مصداق ذلك.
عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ
إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ
تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا
فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي
أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ،
إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ
عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ
مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا
عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا
مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ
أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ،
إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ "([9]).
قال
الإمام ابن تيمية: [ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا
وبما شهد به في كتابه: أن المعاصي سبب المصائب، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات
الأعمال، وأن الطاعة سبب النعمة، فإحسان العمل سبب لإحسان الله، قال تعالى: {وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
[الشورى: 30]([10])
وقبل
أن نغادر لا بد من بيان أن الطاعة المطلقة هي لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه
وسلم وأما ما سواهما فهي طاعة مقيدة طاعة في المعروف طاعة لا يشوبها معصية لله
تعالى: [عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ
الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ:
أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ
حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا فَجَمَعُوا حَطَبًا،
فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرَارًا مِنَ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ
كَذَلِكَ، إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا
أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ]([11])
وعَنْ
ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا
لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ عَلَيْهِ
وَلَا طَاعَةَ]([12]).
وعَنْ
عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَا
طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ" ([13])
وعن
أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
[مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تُطِيعُوهُ]([14])
وعن
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ، قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: ... لَا يَدَعُ قَوْمٌ
الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالْفَقْرِ، وَلَا
ظَهَرَتْ - أَوْ قَالَ: شَاعَتِ - الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلَّا عَمَّهُمُ
الْبَلَاءُ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ، ]([15]).
وقال
الإمام ابن تيمية [وإذا اشْتبهَ الْأَمر استثبت الْمُؤمن حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ
الْحق فَلَا يقدم على الطَّاعَة إلا بِعلم وَنِيَّة]([16]).
وفقنا الله وإياكم لطاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلى الله
عليه وسلم وطاعة أمراء جهادنا بالمعروف وجنبنا المعاصي فهو وحده الهادي لكل خير
والحمد لله رب العالمين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق