موقع ارض الرباط

موقع ارض الرباط
موقع ارض الرباط

الخميس، 9 فبراير 2012

في رحاب العلماء(18)حكم موالاة أهل الإشراك للشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى:


في رحاب العلماء(18)
حكم موالاة أهل الإشراك للشيخ سليمان([1]) بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى:
رضوان محمود نموس
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم، رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة خوفاً منهم ومداراة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره ما هم عليه ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف استدعى بهم، ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على باطلهم، وأعانهم عليه فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يستثنى من ذلك إلا المكره،
وهو الذي يستولي عليه المشركون، فيقولون له: اكفر، أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان. وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً: أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا. وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك بعون الله وتأييده:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [سورة البقرة آية: 120] ، فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى، وكذلك المشركون، لا يرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم ويشهد أنهم على حق. ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [سورة البقرة آية: 120] ، وفي الآية الأخرى: {إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة آية: 145] . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لو يوافقهم على دينهم ظاهراً من غير عقيدة القلب، لكن خوفاً من شرهم ومداهنة، كان من الظالمين، فكيف بمن أظهر لهم أنهم على حق وهدى مستقيم؟ فإنهم لا يرضون إلا بذلك.

الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 217] . فأخبر تعالى أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، ولم يرخص في موافقتهم خوفاً على النفس والمال والحرمة؛ بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوه ليدفع شرهم، أنه مرتد، فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون، فإنه من أهل النار الخالدين فيها. فكيف بمن وافقهم من غير قتال؟ فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه لا عذر له، عرفت أن الذين يأتون إليهم ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهم أولى بعدم العذر، وأنهم كفار مرتدون.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] ، فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحاباً من دون المؤمنين، وإن كانوا خائفين منهم، وأخبر أن من فعل ذلك فليس من الله في شيء، أي: لا يكون من أولياء الله الموعودين بالنجاة في الآخرة، {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] ، وهو: أن يكون الإنسان مقهوراً معهم، لا يقدر على عداوتهم، فيظهر لهم المعاشرة وقلبه مطمئن بالبغضاء والعداوة، وانتظار زوال المانع، فإذا زال رجع إلى العداوة والبغضاء. فكيف بمن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين من غير عذر، إلا استحباب الدنيا على الآخرة، والخوف من المشركين، وعدم الخوف من الله؟ فما جعل الله الخوف منهم عذراً، بل قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] .
الدليل الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 149] ، فأخبر تعالى أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلا بد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر، وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة؛ ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفاً منهم. وهذا هو الواقع، فإنهم لا يقنعون ممن وافقهم إلا بالشهادة أنهم على حق، وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين، وقطع اليد منهم. ثم قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 150]، فأخبر تعالى أنه ولي المؤمنين وناصرهم، وهو خير الناصرين؛ ففي ولايته وطاعته كفاية، وغنية عن طاعة الكفار. فيا حسرة على العباد الذين عرفوا التوحيد ونشؤوا فيه، ودانوا به زماناً، كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين وخير الناصرين، إلى ولاية الكافرين ورضوا بها بدلاً من ولاية من بيده ملكوت كل شيء؟! {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} .
الدليل الخامس: قوله تعالى:{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة آل عمران آية: 162]، فأخبر تعالى أنه لا يستوي من اتبع رضوان الله، ومن اتبع ما يسخطه ومأواه جهنم يوم القيامة؛ ولا ريب أن عبادة الرحمن وحده ونصرها، وكون الإنسان من أهلها من رضوان الله، وأن موافقة الكفار مما يسخط الله؛ فلا يستوي عند الله من نصر توحيده ودعوته بالإخلاص، وكان مع المؤمنين، ومن نصر الشرك. فإن قالوا: خفنا، قيل لهم: كذبتم. وأيضاً، فما جعل الله الخوف عذراً في اتباع ما يسخطه، واجتناب ما يرضيه، وكثير من أهل الباطل إنما يتركون الحق خوفاً من زوال دنياهم، وإلا فيعرفون الحق ويعتقدونه، ولم يكونوا بذلك مسلمين.
الدليل السادس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا} [سورة النساء آية: 97] ، أي: في أي فريق كنتم؟ أفي فريق المسلمين، أم في فريق المشركين؟ فاعتذروا عن كونهم لم يكونوا في فريق المسلمين بالاستضعاف، فلم تعذرهم الملائكة: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] .
ولا يشك عاقل أن أهل البلدان الذين صاروا مع المشركين، وفي فريقهم وجماعتهم، أعظم ممن ترك الهجرة مشحة بوطنه وأهله وماله؛ هذا مع أن الآية نزلت في أناس من أهل مكة، أسلموا واحتبسوا عن الهجرة، فلما خرج المشركون إلى بدر، أكرهوهم على الخروج معهم، فخرجوا خائفين، فقتلهم المسلمون يوم بدر، فلما علموا بقتلهم تأسفوا، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم هذه الآية. فكيف بأهل البلدان، الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، ودخلوا في طاعتهم وآووهم ونصروهم، وخذلوا أهل التوحيد، وابتغوا غير سبيلهم وخطؤوهم، وظهر فيهم سبهم وشتمهم وعيبهم والاستهزاء بهم، وتسفيه رأيهم في ثباتهم على التوحيد، والصبر عليه وعلى الجهاد فيه، وعاونوهم على أهل التوحيد طوعاً لا كرهاً، واختياراً لا اضطراراً؟! فهؤلاء أولى بالكفر والنار، من الذين تركوا الهجرة شحاً بالوطن، وخوفاً من الكفار، وخرجوا في جيشهم مكرهين خائفين. فإن قال قائل: هلا كان الإكراه على الخروج عذراً للذين قتلوا يوم بدر؟ قيل: لا يكون عذراً، لأنهم في أول الأمر لم يكونوا معذورين، إذ أقاموا مع الكفار، فلا يعذرون بعد ذلك الإكراه، لأنهم السبب في ذلك، حيث أقاموا معهم وتركوا الهجرة.
الدليل السابع: قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] ، فذكر تعالى أنه نزل على المؤمنين في الكتاب، أنهم إذا سمعوا آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فلا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وأن من جلس مع الكافرين بآيات الله، المستهزئين بها في حال كفرهم واستهزائهم، فهو مثلهم؛ ولم يفرق بين الخائف وغيره إلا المكره؛ وهذا وهم في بلد واحد في أول الإسلام، فكيف بمن كان في سعة الإسلام وعزه وبلاده، فدعا الكافرين بآيات الله المستهزئين بها إلى بلاده، واتخذهم أولياء وأصحاباً وجلساء، وسمع كفرهم واستهزاءهم وأقرهم، وطرد أهل التوحيد وأبعدهم؟!
الدليل الثامن: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51] ، فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وأخبر أن من تولاهم من المؤمنين فهو منهم؛ وهكذا حكم من تولى الكفار من المجوس وعباد الأوثان، فهو منهم. وهكذا حال هؤلاء المرتدين، خافوا من الدوائر، فزال ما في قلوبهم من الإيمان بوعد الله الصادق، بالنصر لأهل التوحيد، فبادروا وسارعوا إلى الشرك، خوفاً أن تصيبهم دائرة، قال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا} [سورة المائدة آية: 52] .
الدليل التاسع: قوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة المائدة آية: 80] ، فذكر تعالى أن موالاة الكفار موجبة لسخط الله، والخلود في النار، بمجردها، وإن كان الإنسان خائفاً، إلا المكره بشرطه؛ فكيف إذا اجتمع ذلك مع الكفر الصريح، وهو معاداة التوحيد وأهله، والمعاونة على زوال دعوة الله بالإخلاص، وعلى تثبيت دعوة غيره؟!
الدليل العاشر: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 81] ، فذكر تعالى أن موالاة الكفار منافية للإيمان بالله والنبي، وما أنزل إليه، ثم أخبر: أن سبب ذلك كون كثير منهم فاسقين، ولم يفرق بين من خاف الدائرة ومن لم يخف؛ وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين قبل ردتهم، كثير منهم فاسقون، فجر ذلك إلى موالاة الكفار، والردة عن الإسلام، نعوذ بالله من ذلك.
الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] ، وهذه الآية نزلت لما قال المشركون: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله، فأنزل الله هذه الآية. فإذا كان من أطاع المشركين في تحليل الميتة مشركاً، من غير فرق بين الخائف وغيره، إلا المكره، فكيف بمن أطاعهم في تحليل موالاتهم، والكون معهم، ونصرهم، والشهادة أنهم على حق، فهؤلاء أولى بالكفر والشرك، ممن وافقهم على أن الميتة حلال.
الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الأعراف آية: 175] ، وهذه الآية نزلت في رجل عالم عابد، في زمان بني إسرائيل، يقال له: "بلعام" وكان يعلم الاسم الأعظم; قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: "لما نزل بهم موسى عليه السلام - يعني بالجبارين - أتوه بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد موسى ومن معه. قال: إني إن دعوت الله، ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه، فذلك قوله تعالى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الأعراف آية: 175] ". وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه. فذكر تعالى أمر هذا المنسلخ من آيات الله، بعد أن أعطاه الله إياها، وعرفها وصار من أهلها، ثم انسلخ منها، أي: ترك العمل بها، وذكر في انسلاخه منها، ما معناه، أنه مظاهرة المشركين ومعاونتهم برأيه، والدعاء على موسى، عليه السلام، ومن معه، أن يردهم الله عن قومه، خوفاً على قومه، وشفقة عليهم، مع كونه يعرف الحق ويقطع به، ويتكلم به ويشهد به، ويتعبد، ولكن صده عن العمل به متابعة قومه، وعشيرته، وهواه، وإخلاده إلى الأرض؛ فكان هذا انسلاخاً من آيات الله. وهذا هو الواقع من هؤلاء المرتدين، وأعظم؛ فإن الله تعالى أعطاهم آياته التي فيها الأمر بتوحيده ودعوته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك به، ودعوة غيره، والأمر بموالاة المؤمنين، ومحبتهم ونصرتهم، والاعتصام بحبل الله جميعاً، والكون مع المؤمنين، والأمر بمعاداة المشركين وبغضهم، وجهادهم وفراقهم، وعرفوها وأقروا بها، ثم انسلخوا من ذلك كله، فهم أولى بالانسلاخ من آيات الله، والكفر والردة، من بلعام، أو هم مثله.
الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] ، فذكر تعالى أن الركون إلى الظلمة والكفار والظالمين، موجب لمسيس النار، ولم يفرق بين من خاف منهم وغيره، إلا المكره؛ فكيف بمن اتخذ الركون إليهم ديناً ورأياً حسناً، وأعانهم بما قدر عليه من مال ورأي، ؟! فإن هذا من أعظم الكفر والركون.
الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 106-107] ، فحكم تعالى حكماً لا يبدل: أن من رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر، سواء كان له عذر خوفاً على نفس أو مال أو أهل أم لا، وسواء كفر بباطنه وظاهره أم بباطنه دون ظاهره، وسواء كفر بفعاله أو مقاله، أو بأحدهما دون الآخر، وسواء كان طامعاً في دنيا ينالها من المشركين أم لا، فهو كافر على كل حال، إلا المكره، وهو في لغتنا: المغصوب. فإذا أكره إنسان على الكفر، أو قيل له: اكفر وإلا قتلناك، أو ضربناك، أو أخذه المشركون فضربوه، ولم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم، جاز له موافقتهم في الظاهر، بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، أي: ثابتاً عليه معتقداً له، فأما إن وافقهم بقلبه، فهو كافر ولو كان مكرهاً. وظاهر كلام أحمد: أنه في الصورة الأولى، لا يكون مكرهاً حتى يعذبه المشركون، فإنه لما دخل عليه يحيى بن معين وهو مريض، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فما زال يعتذر ويقول حديث عمار، وقال الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} [سورة النحل آية: 106]، فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر، فقال يحيى: لا يقبل عذراً. فلما خرج يحيى، قال أحمد: يحتج بحديث عمار، وحديث عمار: "مررت بهم وهم يسبونك، فنهيتهم فضربوني"، وأنتم، قيل لكم: نريد أن نضربكم. فقال يحيى: والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك.
ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين الشارحين صدورهم بالكفر، وإن كانوا يقطعون على الحق، ويقولون: ما فعلنا هذا إلا خوفاً، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم.
ثم أخبر تعالى: أن سبب هذا الكفر والعذاب، ليس بسبب الاعتقاد للشرك، أو الجهل بالتوحيد، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الآخرة، وعلى رضى رب العالمين فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 107] ، فكفّرهم تعالى، وأخبر أنه لا يهديهم مع كونهم يعتذرون بمحبة الدنيا. ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين لأجل استحباب الدنيا على الآخرة، هم الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأنهم الغافلون. ثم أخبر خبراً مؤكداً محققاً: أنهم في الآخرة هم الخاسرون.
الدليل الخامس عشر: قوله تعالى عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20] ، فذكر تعالى عن أهل الكهف أنهم ذكروا عن المشركين أنهم إن قهروكم وغلبوكم، فهم بين أمرين: إما أن يرجموكم أي: يقتلوكم شر قتلة برجم، وإما أن يعيدوكم في ملتهم ودينهم، {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} أي: وإن وافقتموهم على دينهم، بعد أن غلبوكم وقهروكم، فلن تفلحوا إذا أبداً؛ فهذا حال من وافقهم بعد أن غلبوه، فكيف بمن وافقهم وراسلهم من بعيد، وأجابهم إلى ما طلبوا من غير غلبة ولا إكراه، ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون؟!
الدليل السادس عشر: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج آية: 11]، فأخبر تعالى: أن من الناس من يعبد الله على حرف، أي: على طرف، فإن أصابه خير أي: نصر وعز وصحة، وسعة وأمن وعافية ونحو ذلك، اطمأن به، أي: ثبت، وقال: هذا دين حسن، ما رأينا فيه إلا خيراً، وإن أصابته فتنة، أي: خوف ومرض وفقر ونحو ذلك، انقلب على وجهه، أي: ارتد عن دينه، ورجع إلى أهل الشرك. فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة، سواء بسواء؛ فإنهم قبل هذه الفتنة، يعبدون الله على حرف، أي: على طرف، ليسوا ممن يعبد الله على يقين وثبات، فلما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم، وأظهروا الموافقة للمشركين، وأعطوهم الطاعة، وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين، فهم معهم في الآخرة كما هم معهم في الدنيا، فـ {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج آية: 11] ، هذا مع أن كثيراً منهم في عافية، ما أتاهم من عدو، وإنما ساء ظنهم بالله، فظنوا أنه يديل الباطل وأهله على الحق وأهله، فأرداهم سوء ظنهم بالله، كما قال تعالى:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة فصلت آية: 23] .
وأنت، يا من منّ الله عليه بالثبات على الإسلام، احذر أن يدخل في قلبك شيء من الريب، أو تحسين هؤلاء المرتدين، وأن موافقتهم للمشركين وإظهار طاعتهم رأياً حسناً، حذراً على الأنفس والأموال والمحارم! فإن هذه الشبهة، هي التي أوقعت كثيراً من الأولين والآخرين في الشرك بالله، ولم يعذرهم الله بذلك، وإلا فكثير منهم يعرفون الحق، ويعتقدونه بقلوبهم، وإنما يدينون لله بالشرك، للأعذار الثمانية التي ذكرها الله في كتابه، أو لبعضها؛ فلم يعذر بها أحداً ولا ببعضها، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] .
الدليل السابع عشر: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الآمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 25-28]. فذكر تعالى عن المرتدين على أدبارهم، أنهم من بعدما تبين لهم الهدى ارتدوا على علم، فلم ينفعهم علمهم بالحق مع الردة، وغرهم الشيطان بتسويله وتزيين ما ارتكبوه من الردة. وهكذا حال هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة، غرهم الشيطان فأوهمهم أن الخوف عذر لهم في الردة، وأنهم بمعرفة الحق ومحبته والشهادة به لا يضرهم ما فعلوه، ونسوا أن من المشركين من يعرفون الحق ويحبونه ويشهدون به، ولكن يتركون متابعته والعمل به محبة للدنيا، وخوفاً على الأنفس والأموال، والمآكل والرياسات. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الآمْرِ} [سورة محمد آية: 26] ، فأخبر تعالى أن سبب ما جرى عليهم من الردة، وتسويل الشيطان والإملاء لهم، هو قولهم للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، فإذا كان من وعد المشركين، الكارهين لما أنزل الله، طاعتهم في بعض الأمر، كافراً، وإن لم يفعل ما وعدهم به، فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما أنزل الله من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والطواغيت والأموات، وأظهر أنهم على هدى، وأن أهل التوحيد مخطئون في قتالهم، وأن الصواب في مسالمتهم والقبول بباطلهم؟! فهؤلاء أولى بالردة من أولئك
الذين وعدوا المشركين بطاعتهم في بعض الأمر. ثم أخبر تعالى عن حالهم الفظيع عند الموت، ثم قال: {ذَلِكَ} أي: الأمر الفظيع عند الوفاة، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 28]. ولا يستريب المسلم أن اتباع المشركين، والدخول في جملتهم، والشهادة أنهم على حق، مما يسخط الله، وكراهة رضوانه، وإن ادعوا أن ذلك لأجل الخوف؛ فإن الله ما عذر أهل الردة بالخوف من المشركين، بل نهى عن خوفهم. فأين هذا ممن يقول: ما جرى منا شيء ونحن على ديننا؟!
الدليل الثامن عشر: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [سورة الحشر آية: 11] ، فعقد الله تعالى الأخوة بين المنافقين والكفار، وأخبر أنهم يقولون لهم في السر: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، أي: لئن غلبكم محمد صلى الله عليه وسلم وأخرجكم من بلادكم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً} أي: لا نسمع من أحد فيكم قولاً، ولا نعطى فيكم طاعة، {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} أي: إن قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم لننصرنكم، ونكون معكم. ثم شهد الله: إنهم لكاذبون في هذا القول. فإذا كان وعد المشركين في السر بالدخول معهم، ونصرهم والخروج معهم إن جلوا، نفاقاً وكفراً، وإن كان كذباً، فكيف بمن أظهر ذلك صادقاً، وقدم عليهم ودخل في طاعتهم، ودعا إليها ونصرهم، وانقاد لهم وصار من جملتهم، وأعانهم بالمال والرأي؟! هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفاً من الدوائر، كما قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [سورة المائدة آية: 52] . هكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة، فإن عذر كثير منهم هذا هو العذر الذي ذكره الله عن الذين في قلوبهم مرض، ولم يعذرهم الله به، قال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [سورة المائدة آية: 52-53]. ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة المائدة آية: 54] ، فأخبر تعالى أنه لا بد عند وجود المرتدين، من وجود المحبين المجاهدين; ووصفهم بالذلة والتواضع للمؤمنين، والعزة والغلظة والقسوة على الكافرين، بضد من كان تواضعه وذله ولينه، للكافرين، وعزته وغلظته على أهل التوحيد والإخلاص؛ فكفى بهذا دليلاً على كفر من وافقهم، وإن ادعى أنه خائف، فقد قال تعالى: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 54] ؛ وهذا بضد من يترك الصدق والجهاد خوفاً من المشركين. ثم قال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة المائدة آية: 54] أي: في توحيده، صابرين على ذلك ابتغاء وجه ربهم، لتكون كلمة الله هي العليا، {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية:54] أي: لا يبالون بمن لامهم وآذاهم في دينهم، بل يمضون على دينهم مجاهدين فيه، غير ملتفتين للوم أحد من الخلق، ولا لسخطه ولا لرضاه، وإنما همتهم وغاية مطلوبهم رضى سيدهم ومعبودهم، والهرب من سخطه؛ وهذا بخلاف من كانت همته وغاية مطلوبه: رضى الكافرين ورجاءهم والهرب مما يسخطهم، فإن هذا غاية الضلال والخذلان. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة المائدة آية: 54] ، فأخبر الله تعالى: أن هذا الخير العظيم، والصفات الحميدة، لأهل الإيمان الثابتين على دينهم عند وقوع الفتن، ليس بحولهم ولا بقوتهم، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء، كما قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة آية: 105] . ثم قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [سورة المائدة آية: 55] . فأخبر الله تعالى خبراً بمعنى الأمر، بولاية الله ورسوله والمؤمنين، وفي ضمنه النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين، ولا يخفى أي الحزبين أقرب إلى الله ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فالمتولي لضدهم واضع للولاية في غير محلها، مستبدل بولاية الله ورسوله والمؤمنين، المقيمين للصلاة المؤتين للزكاة، على ولاية أهل الشرك والأوثان والقباب. ثم أخبر تعالى: أن الغلبة لحزبه ومن تولاهم، فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56]
الدليل التاسع عشر: قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة الحديد آية: 22] ، فأخبر تعالى: أنك لا تجد من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يواد من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، وأن هذا مناف للإيمان مضاد له، لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار؛ وقد قال تعالى في موضع آخر: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} [سورة التوبة آية: 23] . ففي هاتين الآيتين: البيان الواضح أنه لا عذر لأحد في الموافقة على الكفر خوفاً على الأموال والآباء، والأبناء والإخوان، والأزواج والعشائر، ونحو ذلك مما يعتذر به كثير من الناس. إذا كان لم يرخص لأحد في موالاتهم، واتخاذهم أولياء بأنفسهم، خوفًا منهم وإيثاراً لمرضاتهم، فكيف بمن اتخذ الكفار الأباعد أولياء وأصحاباً، وأظهر لهم الموافقة على دينهم، خوفاً على بعض هذه الأمور، ومحبة لها؟! ومن العجب، استحسانهم لذلك، واستحلالهم له، فجمعوا مع الردة استحلال الحرام.
الدليل العشرون: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة آية: 1] أي: أخطأ الصراط المستقيم، فأخبر تعالى: أن من تولى أعداء الله، وإن كانوا أقرباء وأصدقاء، فقد ضل سواء السبيل، أي: أخطأ الصراط المستقيم، وخرج عنه إلى الضلال؛ فأين هذا ممن يدعي أنه على الصراط المستقيم، لم يخرج عنه؟ فإن هذا تكذيب لله، ومن كذب الله فهو كافر، واستحلال لما حرم الله من ولاية الكفار، ومن استحل محرماً فهو كافر. ثم ذكر تعالى شبهة من اعتذر بالأرحام والأولاد، فقال: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الممتحنة آية: 3] ، فلم يعذر الله تعالى من اعتذر بالأرحام والأولاد، والخوف عليهما، ومشقة مفارقتهما، بل أخبر أنها لا تنفع يوم القيامة، ولا تغني من عذاب الله شيئاً، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [سورة المؤمنون آية: 101] .
الدليل الحادي والعشرون: من السنة ما رواه أبو داود وغيره، عن سمرة ابن جندب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله] ([2]).، فجعل صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من جامع المشركين، أي: اجتمع معهم وخالطهم وسكن معهم، فهو مثلهم؛ فكيف بمن أظهر لهم الموافقة وآواهم وأعانهم؟ فإن قالوا: خفنا، قيل لهم: كذبتم. وأيضاً، فليس الخوف بعذر كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [سورة العنكبوت آية: 10]؛ فلم يعذر الله تبارك وتعالى من يرجع عن دينه عند الأذى والخوف، فكيف بمن لم يصبه أذى ولا خوف، وإنما جاء إلى الباطل محبة له وخوفاً من الدوائر؟ والأدلة على هذا كثير، وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته. وأما من أراد الله فتنته وضلالته، فكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [سورة يونس آية: 96-97] . فنسأل الله الكريم المنان: أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، برحمته وهو أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد.([3]).


[1] - الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، رحمه الله
هو: الحافظ المحدث الفقيه المجتهد، الثقة أوحد الحفاظ، الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد سنة 1200 هـ.
كان آية في العلم والحلم، والحفظ والذكاء، له المعرفة التامة في الحديث ورجاله، وصحيحه وحسنه وضعيفه، والفقه والتفسير والنحو. وكان في معرفة رجال الحديث يسامي أكابر الحفاظ، وضرب به المثل في زمنه بالذكاء، أخذ العلم عن أبيه، والشيخ حمد بن معمر، وعن عميه الشيخ حسين، والشيخ علي، والشيخ حسين بن غنام، والشيخ عبد الله بن فاضل، والشيخ عبد الرحمن بن خميس، والشيخ عبد الله الغريب، وأجازه الشيخ: محمد بن علي الشوكاني.
برع في الفنون، كانت له اليد الطولى في الحديث ورجاله؛ يروى عنه أنه كان يقول: أنا برجال الحديث أعرف مني برجال الدرعية. لم ير شخص حصل له من الكمال والعلوم، والصفات الحميدة، التي لم يحصل بها الكمال لسواه، على صغر سنه.
صنف شرح كتاب التوحيد لجده، فمن بعده عيال عليه؛ ولكنه لم يكمله، وله حاشية على شرحه، والدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك، كان طلبة العلم يحفظونها عن ظهر قلب، ورسالة في عدد الجمعة لم ينسج على منوالها، وأجوبة فرقناها على حسب الترتيب، ومن وقف على كلامه، شهد له بالشهامة والجودة، والذكاء والحفظ، وحسن الفهم.
أخذ عنه العلم عدد كثير من أهل الدرعية وغيرهم، منهم الشيخ محمد بن سلطان وغيره. وكان رحمه الله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم؛ فلا يتعاظم رئيسا في الأمر والنهي، ولا يتصاغر ضعيفا أتى إليه يطلب فائدة.
اخترمته المنية في عنفوان شبابه، نمي به رحمه الله عند إبراهيم باشا فقتله، أكرمه الله بالشهادة، سنة 1233?، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى.
[2] - أبو داود: الجهاد (2787)
[3] - مختصراً من الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8 / 121) بتصرف يسير

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites

 
x

أحصل على أخر مواضيع المدونة عبر البريد الإلكتروني - الخدمة مجانية

أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا:

هام : سنرسل لك رسالة بريدية فور تسجيلك. المرجوا التأكد من بريدك و الضغط على الرابط الأزرق لتفعيل إشتراكك معنا.