في رحاب العلماء(13)
رضوان محمود نموس
شرع الله في نظر المسلمين للكوثري([1])
شرع الله في نظر المسلمين هو القانون الإلهي الذي أدى محمد صلى الله عليه وسلم رسالة ربه بتبليغه للأمة لإسعادهم في معاشهم ومعادهم، فلا يسوغ لمسلم غير مغلوب على أمره أن يستبدل ببعض أحكامه – فضلاً عن أحكامه كلها – إلا في حالة إكراه يبيح النطق بكلمة الكفر، ولا أن يرضى به بديلاً في حال من الأحوال، وهو صالح لتقويم أود الأمة وإصلاح شؤونها في كل زمان وكل مكان، بخلاف القوانين الوضعية فإنها لو صلحت لزمان أو لمكان فلن تصلح لأزمنة أخرى ولأصقاع أخرى، وأين للعقل البشري الإحاطة بجميع مصالح الأمة على اختلاف الأزمنة والأمكنة حتى يقنن قانوناً كهذا فما يبرمه اليوم ينقضه غداً، والله سبحانه قد أحاط بكل شيء علماً فشرعه في نظر المسلم هو المحيط بمصالح عباده في كل زمان وكل مكان، فمن حاول أن يقرب الشرع الإسلامي من قوانين غير إسلامية ويحوره على غرارها فهو مريض القلب أثيم العقل، لا يلقى سوى الدمار والفساد حيث يبغي الرقي والصلاح، ومن فضّل عقله على علم الله وشرعه فليس هو من الإسلام في شيء، وكذلك من ضاق صدراً من شرع المسلمين باعتبار عده غير صالح للزمن الذي هو فيه قال الله تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً )65 النساء.
وقد ذكر الحافظ أبو شامة المقدسي أن نور الدين الشهيد ذلك الملك الصالح الذي قل نظيره في ملوك الإسلام لما ولي الحكم كانت البلاد على أسوأ حالة يتصورها متصور من جميع النواحي ففكر عقلاء الدولة فيما يجب السير عليه في إصلاح شئون البلاد، ورأوا أن مجرد تنفيذ أحكام الشرع عند ثبوت إجرام المجرمين ثبوتاً شرعياً لا يكفي في قمعهم ومنعهم من المضي في إفساداتهم، فلا بد من أخذهم بأحكام قاسية سياسية حتى يستتب الأمن وتصلح الأحوال، فرجوا من العالم الصالح الشيخ عمر الموصلي بالنظر إلى أنه الناصح الأمين عند جلالة الملك قبل توليه الحكم أن يوصل إلى مسامعه ذلك الرأي الحصيف في حسبانهم، فقبل رجاءهم وكتب إلى الملك يوصيه بالضرب على أيدي الأثيمين بأحكام صارمة بدون انتظار إلى ثبوت إجرامهم ثبوتاً شرعياً، وبعد أن قرأ الملك توصية الشيخ كتب على ظهر الورقة ما معناه (( حاشا أن أجازي أحداً بجرم لم يثبت ثبوتاً شرعياً وحاشا أن أتهاون في عقوبة مجرم ثبت جرمه ثبوتاً شرعياً، ولو جريت على ما رسمته التوصية لي لكنت كمن يفضل عقله على علم الله، ولو لم يكن هذا الشرع كافياً في إصلاح شؤون العباد لما بعث به خاتم رسله )) وأعادها إلى الشيخ.
ولما اطلع الشيخ على هذا التوقيع الملكي الحازم بكى بكاءً مراً وقال: يا للخيبة كان الواجب علي أن أقول ما قاله الملك فانعكس الأمر، فتاب من توصيته أصدق توبة، وجرى الملك في تسيير الأمور على ما رسمه الشرع فصلحت البلاد وزال الفساد في مدة يسيرة، وأصبحت تلك الأصقاع بحيث لو سافرت غادة ٌ حسناء وحدها ومعها أثمن الجواهر والأحجار الكريمة من أقصى البلاد إلى أقصاها لما حدثت أحداً نفسه أن يمسها بسوء لا في مالها ولا في عرضها، وقد اكتظت كتب التاريخ بما تم على يد هذا الملك العظيم من الإصلاحات الهامة، ودفع عدوان الصليبيين من أرض الشام بل من أرض مصر أيضاً بتجريد جيش تحت إمرة أحد قواده.
وأحكام الشرع لا تنتهي عجائب أسرارها في الإصلاح وليست هي كأحكام العقول الخاطئة، وها هي الدول الإسلامية لم تسعد دولة منها إلا بمقدار تمسكها بأهداب الشرع، ولا شقيت إلا بنسبة ابتعادها عن أحكام الشرع ولنا ألف دليل ودليل على ذلك من التاريخ الإسلامي، وقد نطق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بكلمة حكيمة جداً حيث قال (( ما ترك الناس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه )).
وهي حقيقة ملموسة في جميع أدوار التاريخ، وقد صدق الشاعر الذي قال لعبد الملك بن مروان:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
ومثل هذا الممزق المرقع مثل من يمزق سراويله الساترة لسوأته لترقيع موضع من جبته.
وأحكام الشرع هي ما فهمه الصحابة والتابعون وتابعوهم من كتاب الله وسنة رسوله على موجب اللسان العربي المبين، وعمل الفقهاء إنما هو الفهم من الكتاب والسنة، وليس لأحد سوى صاحب الشرع دخل في التشريع مطلقاً، ومن عد الفقهاء كمشرعين وجعلهم أصحاب شأن في التشريع فقد جهل الشرع والفقه في آن واحد، وفتح من جهله باب التقول لأعداء الدين كما هو مشهود وأما المتأخرون من الفقهاء فليس لهم إلا أن يتكلموا في نوازل جديدة لا أن يبدوا آراء في الشرع على خلاف ما فهمه من النصوص رجال الصدر الأول الذين هم أهل اللسان، المطلعون على لغة التخاطب بين الصحابة قبل أن يعتورها تغيير وتحوير، والمتلقون للعلم عن الذين شهدوا الوحي، فما فهموه من الشرع فهو المفهوم، وما أبعدوه عن أن يكون دليلاً بعيد عن أن يتمسك به، وإنما يكون الكلام فيما لم يتكلموا فيه أو اختلفوا في حكمه، ومن تخيل حاجة الإسلام إلى مثل ذلك المصلح الألماني في النصرانية فقد أساء المقارنة بين الإسلام الذي نصوصه محفوظة كما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين النصرانية التي تاريخ كتبها المحرفة لا يدع مجالاً للترقيع، فمن يلهج بالإصلاح في الإسلام من أغمار هذا العصر فقد جمع إلى تلك الإساءة الجهل بتاريخ الدين الإسلامي وتاريخ الكنيسة لكن صدق من نطق ( لتتبعن سنن من كان قبلكم..)
ويأسف المسلم كل الأسف من وجود أناس في أزياء العلماء تحملهم شهوة الظهور على التظاهر بمظهر الاستدراك على فقهاء الصدر الأول وعلى محاولة ابتداع أساليب بها يحرفون الكلم عن مواضعه ويجعلون الشرع الواضح المنهاج الصريح الأحكام يتقلب مع الزمن، وذلك لأجل التقرب إلى الذين لا يضمرون للإسلام خيراً، تراهم يقولون: عندنا العرف وعندنا المصلحة بهما كم تتغير الأحكام وكم لنا من هذا القبيل، يريدون بذلك أن يجعلوا شرع الله متقلباً مع الزمن ومع الظروف كأدمغتهم المتميعة القابلة لكل شكل مع كل ظرف، نعم يوجد في فلاسفة الغربيين اللادينيين من يبغي ديناً يتقلب مع الزمن، ولكن بغيته هذه ليست إلا شبكة يريد أن يوقع فيها مقلدتهم من أبناء الشرق الأغرار المتفلسفين.
وليس للعرف في الشرع إلا ما بينه علماء المذاهب في كتب القواعد وكتب الأصول والفروع من مثل حمل الدرهم في العقود على الدرهم المتعارف في البلد، وكذا الرطل، وكون المشروط عرفاً كالمشروط لفظاً، .... وليس في شيء منها عد عرف طائفة شرعاً مشروعاً حتى يظن أن عمل أهل المدينة في عهد الفقهاء السبعة ليس بالعمل المتوارث طبقة عن طبقة عن النبي صلى الله عليه وسلم اغتراراً بتقولات بعض الماجنين، فإذا تعورف في بلد احتساء الشاي البارد([2]) وغشيان الحانات فهل يجعل ذلك ذريعة إلى إباحة هذا أو ذاك، فليتق الله المرجفون في محاولاتهم تغيير الشرع باسم العرف، ولا يتسع المقام للتوسع في ذلك بأكثر من هذا بل الأمر يحتاج إلى كتاب خاص.
ومن جملة أساليبهم الزائفة في محاولة تغيير الشرع بمقتضى أهوائهم قول بعضهم: إن مبنى التشريع في المعاملات ونحوها المصلحة فإذا خالف النص المصلحة يترك النص ويأخذ بالمصلحة، فيا للخيبة ممن ينطق لسانه بمثل هذه الكلمة ويجعلها أصلاً يبني عليه شرعه الجديد، وما هذا إلا محاولة نقض الشرع الإلهي بتحليل ما حرمه الشرع باسم المصلحة، فسل هذا الفاجر ما هي المصلحة التي تريد بناء شرعك عليها، إن كانت المصلحة الشرعية فليس لمعرفتها طريق غير الوحي حتى عند المعتزلة الذين يقال عنهم أنهم يحكمون العقل، كما تجد ذلك مفصلاً في (المعتمد شرح العمد لأبي الحسين البصري المعتزلي ) وفي نقل نصه طول، راجع ( الشامل للإتقاني )، وإن كنت تريد المصلحة الدنيوية على اختلاف تقدير المقدرين فلا اعتبار لها في نظر المسلم عند مخالفتها للنص الشرعي، إذ العقل كثيراً ما يظن المفسدة مصلحة بخلاف الشرع، وأما المصلحة المرسلة وسائر المصالح المذكورة في كتب الأصول وكتب القواعد ففيما لا نص فيه، باتفاق بين علماء المسلمين فلا يتصور الأخذ بها عند مخالفتها لحجج الشرع.
وأول من فتح باب هذا الشر شر إلغاء النص باعتباره مخالفاً للمصلحة هو النجم الطوفي فإنه قال في شرح حديث (لا ضرر ولا ضرار) ( إن رعاية المصلحة مقدمة على النص والإجماع عند التعارض ).
وهذه كلمة لم ينطق بها أحد من المسلمين قبله ولم يتابعه بعده إلا من هو أسقط منه، والقول ( بأن إجراء ذلك في المعاملات دون العبادات باعتبار أن العبادات حق للشارع، والمعاملات إنما وضعت أحكامها لمصالح العباد وكانت هي المعتبرة ) فرق بدون فارق، لأن لله أن يأمر بما شاء فيما شاء من غير فارق بين أن يكون أمره في العبادات أو المعاملات، وهو الذي أباح أنواعاً من البيوع وحرم أنواعاً منها وكذا السلم والصرف والإجارة وغيرها من أبواب الفقه، فإذا راج هذا المكر من هذا المضل تسري خديعته في الأبواب كلها ويكون شرع الله أثراً بعد عين، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، ومن الذي ينطق لسانه بأن المصلحة قد تعارض حجج الله من الكتاب والسنة والإجماع، والقول بذلك قول بأن الله لا يعلم مصالح عباده فكأنهم أدرى بها حتى يتصور أن تعارض مصالحهم للأحكام التي دلت عليها أوامر الله المبلغة على لسان رسوله، سبحانك هذا إلحاد مكشوف، ومن أعار سمعاً لمثل هذا التقول فلا يكون له نصيب من العلم ولا من الدين، وليست تلك الكلمة غلطة فقط من عالم حسن النية تحتمل التأويل، بل فتنة فتح بابها قاصد شر ومثير فتن.
وعن هذا الطوفي يقول ابن رجب في ( طبقات الحنابلة ): لم يكن له يد في الحديث، وفي كلامه تخبيط كثير، وكان شيعياً منحرفاً عن السنة، ولقد كذب هذا الرجل وفجر فيما رمى به عمر، وذكر بعض شيوخنا عمن حدثه أنه كان يظهر التوبة ويتبرأ من الرفض وهو محبوس، وهذا من نفاقه فإنه لما جاور في آخر عمره بالمدينة صحب السكاكيني شيخ الرافضة ونظم ما يتضمن السب لأبي بكر ذكر ذلك عنه المٌطري حافظ المدينة ومؤرخها أ هـ.
وقال ابن مكتوم: اشتهر عنه الرفض والوقوع في أبي بكر رضي الله عنه وابنته عائشة رضي الله عنها.... ومن شعره:
كم بين من شك في خلافته وبين من قيل إنه الله
يعني أبي بكر وعلياً رضي الله عنهما، فهل هذا مما يصدر ممن في قلبه إيمان.
وكان يقول عن نفسه:
حنبلي رافضي ظاهري أشعري إنها إحدى الكبر
راجع ترجمته من طبقات ابن رجب والدرر الكامنة وشذرات الذهب، أفمثل هذا الزائغ يتخذ قدوة في مثل هذا التأصيل الذي يرمي إلى استئصال الشرع، ولا يغترن القارئ الكريم بتلقيب بعض المهملين إياه بالإمام النجم الطوفي فإننا في زمن نرى من لا يصلح أن يكون إماماًً في مسجد حارته يلقب بالإمام الحجة، والى الله عاقبة الأمر كله ([3]).
[1] - محمد زاهد الكوثري: (1296-1371هـ) محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري، فقيه حنفي جركسي الأصل له اشتغال بالأدب والسير تفقه في جامع الفاتح في الأستانة، ودرس فيه وتولى رياسة التدريس، ثم مفتياً للخلافة اضطهده الاتحاديون خلال الحرب العالمية الأولى، ولما سيطر الكماليون على البلاد هاجر إلى مصر وتنقل بين مصر والشام، ثم استقر في مصر. له تراجم للإمام زفر، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، والبدر العيني، والطحاوي، وله مقالات عديدة نشرت في كتاب مقالات الكوثري. توفي رحمه الله في التاسع عشر من ذي القعدة سنة 1371هـ بحي العباسية من ضواحي القاهرة.
[2]- كناية لبعضهم عن الخمر تستراً
[3] - مقالات الكوثري ص90 وما بعدها
0 التعليقات:
إرسال تعليق