الجماعة 16
رضوان محمود نموس
الأشاعرة والماتريدية:
برز بعد المعتزلة فرقتان ما زالتا ممتدتين إلى الآن عبر تاريخ الإسلام وكلتا الفرقتين قالت بتقديم العقل على النقل.
الأشاعرة:
فرقة تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري، وهو علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ولد سنة 260هـ، وتوفي 324 هـ. أقام على مذهب الاعتزال أربعين سنة وكان مع أبي علي الجبائي حتى أصبح من أئمتهم، ثم ترك الاعتزال ولكن بقي فيه كثيرٌ من لوثة تقديم العقل على النقل وكان يعمد إلى تأويل النصوص والصفات مع ما يتناسب مع عقيدة عبد الله بن سعيد بن كلاّب، ثم انتقل أخيرا إلى طريقة أهل السنة والجماعة وصنف كتابه "الإبانة" وبقيت الفرقة تنسب إليه، وأهم ما يميز الأشاعرة تأويل النصوص بما يتناسب مع معتقداتهم القائمة على تقديم العقل على النقل مع تصوف غير يسير وتأثر بالطريقة الفلسفية وأبرز أئمتهم القاضي أبي بكر الباقلاني وإبراهيم بن علي المشهور بأبي إسحاق الشيرازي وأبو المعالي الجويني وأبو حامد الغزالي وأبو بكر بن العربي والفخر الرازي وابن فورك والآمدي.
وسنتعرض لنقطة واحدة عندهم وهي تقديم العقل على النقل الذي من بسببه تأتي بقية الانحرافات من التأويل إلى رد الأحاديث وما شابه ذلك، فمصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل وقد صرح الجويني والغزالي وأبو بكر بن العربي والآمدي والإيجي والرازي والبغدادي وابن فورك والسنوسي وشرّاح الجوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض، وسنأتي ببعض الأمثلة من كتبهم لإثبات ذلك.
أقوال أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي:[ العلوم الأولية - أي اليقينيات - الضرورية المستفادة إما من الحس أو التجربة أو غريزة العقل ]([1]). [ الوصية الثانية أن لا يكذب برهان العقل أصلا فإن العقل لا يكذب ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع إذ به عرفنا الشرع ]([2]).
ويقول الغزالي في المنخول:[ فصل في ما يستدرك بمحض العقل دون السمع، والقول الضابط في ذلك أن كل ما يمكن إثباته دون إثبات كلام الباري كمعرفة الله تعالى وصفاته وترك استحالة المستحيلات وجواز الجائزات ووجوب الواجبات الفعلية دون التكليفية بأسرها فيستحيل دركه من السمع ]([3]).
[ كل ما يشير إلى إثبات صفة للباري تعالى يشعر ظاهره بمستحيل في العقل نظر. إن تطرق إليه التأويل قُبِل وأُوّل وإن لم يندرج فيه احتمال التأويل تبين على القطع كذب الناقل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسدد أرباب الألباب ومرشدهم فلا يظن أن يأتي بما يستحيل في العقل.
وقوله عليه السلام { يضع الجبار قدمه في النار } مقبول مؤوّل محمول على الكافر المعتل.... وقد علم الرب تعالى متسع النار وما يملأها فكيف افتقر إلى وضع القدم وهلا جعل الحجارة حشوها ومحله على الظاهر نسبة جهل إلى الله تعالى عن قول الظالمين أو الفجرة عن أن يملأ النار... والقول الوجيز إن كل ما لا تأويل له فهو مردود وما صح وتطرق إليه التأويل قبل ]([4]).
وقسّم الغزالي الأنوار إلى أقسام فقال:[ الرابع: نور شريف هو نور محض قائم بنفسه يدرك الأشياء على حقائقها ويدرك نتائجها وهو العقل ]([5]).
ثم يقول:[ فنقول: العقل أولى بأن يسمى نورا، والعقل يدرك غيره ويدرك نفسه ويدرك صفات نفسه إذ يدرك نفسه عاقلا عالما قادرا ويدرك علم نفسه ويدرك علمه بعلمه بنفسه وعلمه بعلمه بعلمه بنفسه إلى غير نهاية... والعقل يعرج في طرقه إلى أعلى السماوات رقيا وينزل في لحظة إلى تخوم الأرض هويا، بل إذا حقت الحقائق انكشف أنه منزه عن أن يحوم بجناب قدسه القرب والبعد الذي يعرض بين الأجسام فإنه أنموذج من بحور الله تعالى ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة وإن كان لا يرقى إلاّ ذروة المساوقة.... والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السماوات وفي الملأ الأعلى والملكوت كتصرفه في عالمه الخاص به ومملكته القريبة أعني بها الخاصة به بل الحقائق كلها لا تحجب عن العقل وإنما حجاب العقل حيث يحجب من نفسه لنفسه... والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها ويستنبط علمها وحكمها وأنها مما حدثت وكيف خلقت ومن كم معنى جُمع الشيء وركب وعلى أي مرتبة في الوجود نزل وما نسبته إلى سائر مخلوقاته وإلى مباحث أخرى يطول شرحها، نرى الإيجاز فيها أولى... والعقل إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعده وهو الأكثر فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينيا صادقا فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة والمعاني الخفية عنده جلية فيقضي فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ والحواس جواسيسه وهي من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ، ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه والعقل يدرك المعقولات والمعقولات لا تتصور أن تكون متناهية ]([6]).
وقال عبد الرحمن بن أحمد الإيجي في كتابه المواقف:
المقصد السابع:[ الدليل إما عقلي بجميع مقدماته أو نقلي بجميعها أو مركب منها والأول العقلي والثاني لا يتصور، إذ صدق المخبر لا بد منه وأنه لا يثبت إلا بالعقل، والثالث هو الذي نسميه بالنقلي ثم مقدماته قريبة قد تكون عقلية محضة وقد تكون نقلية محضة وقد يكون بعضها مأخوذ من العقل وبعضها من النقل، فلا بأس أن يسمى هذا القسم بالمركب والمطالب ثلاثة أقسام. ثم قال: ما يتوقف عليه النقل مثل وجود الصانع ونبوة محمد فهذا لا يثبت إلا بالعقل إذ لو اثبت بالنقل للزم الدور.
المقصد الثامن الدلائل النقلية هل تفيد اليقين ؟ قيل لا لتوقفه على العلم بالوضع والإرادة والأول إنما يثبت بنقل اللغة والنحو والصرف وأصولها تثبت برواية الآحاد وفروعها بالأقيسة وكلاهما ظنيان والثاني يتوقف على عدم النقل والاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير والكل لجوازه لا يجزم بانتقائه بل غايته الظن، ثم بعد الأمرين لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي إذ لو وجد لقدم على الدليل النقلي قطعا، إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع وفيه إبطال للفرع، وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضا لنفسه فكان باطلا ]([7]).
ويقول السنوسي في شرح الكبرى:[ وأما من زعم أن الطريق إلى معرفة الحق الكتاب والسنة ويحرم ما سواهما فالراد عليه إن حجتيهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي، وأيضا فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع عند أخرى.
ويقول: أصول الكفر ستة... سادسا: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية الشرعية والقواطع الشرعية. وصرح متكلموهم أن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشر عوارض، منها: الإضمار والتخصيص والنقل والاشتراك والمجاز... وسلمت بعد هذا من المعارض العقلي، بل من احتمال المعارض العقلي ]([8]).
أقوال الرازي:[ الدليل اللفظي لا يفيد إلا عند تيقن الأمور العشرة، عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ وإعرابها وتصريفها وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والتخصيص بالأشخاص والأزمنة وعدم الإضمار والتأخير والتقديم والنسخ وعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح عليه إذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح في العقل المستلزم للقدح في النقل لافتقاره إليه، وإذا كان المنتج ظنيا فما ظنك بالنتيجة ]([9]).
وقال:[ لو قدرنا قيام الدليل العقلي القاطع على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي فلا خلاف من أهل التحقيق أنه يجب تأويل الدليل السمعي لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى دليل العقل فإما أن يكذب العقل أو يؤول النقل. فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا بالعقل فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه ]([10]).
[1] - مجموعة رسائل الغزالي 3 / 11.
[2] - مجموعة رسائل الغزالي 7 / 127.
[3] - المنخول 62.
[4] - المنخول 286 - 287.
[5] - مجموعة رسائل الغزالي 1 / 96.
[6] - رسائل الغزالي 4 / 5 - 7 رسالة مشكاة الأنوار.
[7] - المواقف للإيجي ص 39 - 40.
[8] - منهج الأشاعرة في العقيدة - د. سفر الحوالي ص 14.
[9] - محصل أفكار المتقدمين والمناظرين للرازي ص 31 - 32.
[10] - نهاية العقول للرازي ورقة 13.
0 التعليقات:
إرسال تعليق