الجماعة 9
رضوان محمود نموس
نتابع في هذه الحلقة أقوال العلماء حول افتراق الأمة وبقاء الجماعة على الحق
¨ الإمام ابن تيمية:
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم {تفترق أمتي ثلاث وسبعين فرقة } فأجاب:
الحمد الله، الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد كسنن أبي داود والترمذي وغيرهم ولفظه { افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة } وفي رواية قالوا { يا رسول الله من الفرقة الناجية ؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي } وفي رواية قال { هي الجماعة يد الله على الجماعة }.
ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أ هل السنة والجماعة وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم أما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة.... فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر, وطاعته في كل ما أمر, وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة, ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة, كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك كان من أهل البدع والضلال والتفرق، وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة ([1]) الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعاً لها تصديقاً وعملاً وحباً وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم, وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وما تنازع فيه الناس من مسائل.... فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه وما كان منها مخالفاً للكتاب والسنة أبطلوه ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس فإن اتباع الظن جهل واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم.
ومما ينبغي أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة... فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه... وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط ثم عبد الله بن المبارك وهما إمامان جليلان من أجلاء المسلمين قالا: أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهمية ؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنين والسبعين فرقة.
ومنهم من يكفرهم كلهم - أي كل أهل البدع - وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين.
وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة ([2]) ونحو ذلك ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع.
والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهمية المحضة الذين ينكرون الصفات وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى ولا يباين الخلق ولا له علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة بل القرآن مخلوق وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار وأمثال هذه المقالات. )([3]).
[ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا لمجرد الاجتهاد كمــا قال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم }([4]) وقال { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}([5]) وقال { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}([6]) فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ بل مع نوع بغي، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة وكان ذلك من أصول السنة وهذا مذهب أهل السنة والحديث وأئمة أهل المدينة من فقهائهم وغيرهم.
ومن الفقهاء من ذهب إلى أن ذلك يكون مع وجود العلم التام من أحدهما والبغي من الآخر فيجب القتال مع العادل حينئذ.
ومن أصول هذا الموضع أن مجرد وجود البغي من إمام أو طائفة لا يوجب قتالهم بل لا يبيحه، كانوا لا يبدؤون البغاة بقتال حتى يجعلوهم صائلين عليهم وإنما يكون ذنبهم ترك واجب مثل الامتناع عن طاعة معين والدخول في الجماعة فهذه الفرقة إذا كانت باغية وفي قتالهم من الشر أعظم من مجرد الاقتصار على ذلك، كان القتال فتنة وكان تركه هو المشروع وإن كان المقاتل أولى بالحق وهو مجتهد.
وعامة ما تنازعت فيه فرق المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب فيه المجتهد المصيب, وفيه المجتهد المخطئ, ويكون المخطئ باغياً, وفيه الباغي من غير اجتهاد وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر.
وكل ما أوجب فتنة أو فرقة فليس من الدين، سواء كان قولاً أو فعلاً ولكن المصيب العادل عليه أن يصبر عن الفتنة, ويصبر على جهل الجهول وظلمه, إن كان غير متأول وذلك محنة وابتلاء في حق ذلك المظلوم، فإذا صبر على ذلك واتقى الله كانت العاقبة له كما قال تعالى { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً}([7]) وقال تعالى { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } ([8]).
فأمر سبحانه بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى وذلك تنبيه على الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين أو غير متأولين.
وقد قال سبحانه { ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } ([9]).
فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان.
ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر الصبر، فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر.
فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في عمله يؤمر بالصبر، فإذا لم يصبر ترك المأمور.
وأمور القلوب لها أسباب كثيرة ولا يعرف كل أحد حال غيره من إيذاء له بقول أو فعل قد يحسب المؤُذَى إذا كان مظلوماً لا ريب فيه أن ذلك المؤذِي محض باغ عليه ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن ويكون مخطئاً في هذين الأصلين إذ قد يكون المؤذِي متأولاً مخطئاً وإن كان ظالماً لا تأويل له فلا يحل دفع ظلمه بما فيه فتنة بين الأمة وبما فيه شر أعظم من ظلمه, بل يؤمر المظلوم هاهنا بالصبر فإن ذلك في حقه محنة وفتنة, والله سبحانه وصف الأئمة بالصبر واليقين فقال {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}([10]) وذلك أن المظلوم وإن كان مأذوناً له في دفع الظلم عنه بقوله تعالى { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}([11]).
فذلك مشروط بشرطين:
أحدهما: القدرة على ذلك.
والثاني: ألا يعتدي.
فإذا كان عاجزاً أو كان الانتصار يفضي إلى عدوان زائد لم يجز وهذا هو أصل النهي عن الفتنة.
والبدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة فيقال أهل السنة والجماعة كما يقال أهل البدعة والفرقة. وإنما المقصود هنا التنبيه إلى وجه تلازمهما.
وتجد أئمة أهل العلم من أهل البدعة والفرقة يصنفون لأهل السيف والمال من الملوك والوزراء في ذلك ويتقربون إليهم بالتصنيف فيما يوافقهم كما صنف الكرخي كتاب تحليل النبيذ, وكما صنف ابن فورك كتاباً في مذهب ابن كلاب, وكما صنف أبو المعالي - الجويني - (النظامية) و (الغياثي) لنظام الملك, وكما صنف الرازي كتاب (الملخص في الفلسفة) لوزير وقته زهير, وكتاباً في (أحكام النجوم) لملك وقته علاء الدين, وكتاباً في (السحر وعبادة الأوثان) لأم الملك، وكما صنف السهروروي الحلبي المقتول (الألواح العمادية)([12]) لعماد الدين قره أرسلان)]([13]).
وللحديث صلة
[1] - المقصود بأهل الحديث والسنة هم الذين يتبعون الحديث والسنة كمالك وأحمد والشافعي وسفيان الثوري والبخاري وغيرهم وكل من سار على طريقهم وليس الجماعات الحديثة التي تسمي نفسها أهل الحديث وهم أنفسهم متفرقون مختلفون إلى شيع وأحزاب وجماعات يقلدون شيوخهم تارة وحكوماتهم تارة أخرى ويوالون على الاسم والحزب لا على العمل والاتباع.
[2] - أي الشيعة الذين يفضلون علياً رضي الله عنه على أبي بكر وعمر وعثمان، أما الشيعة الذين أسسوا مذهبهم في تكفير الصحابة والبراءة منهم وأن الأئمة منصوص عليهم من الله وما هو مدون في كتب الشيعة الحاليين فلا شك في كفرهم، قال ابن القيم في مدارج السالكين 1-362 وأما غالية الجهمية فكغلاة الروافض ليس للطائفتين في الإسلام نصيب ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الاثنين والسبعين فرقة وقالوا هم مباينون للملة.
[3] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 3-345،353.
[4] - آل عمران 19.
[5] - الأنعام 159.
[6] - آل عمران 105
[7] - سورة آل عمران الآية 120
[8] - سورة آل عمران الآية 186
[9] - سورة المائدة الآية 8
[10] - سورة السجدة الآية 24
[11] - سورة الشورى الآية 41
[12] - كيف لو رأى الإمام من يصنف الآن في قبول ولاية الكفار وتأصيل التشريع من دون الله وإلغاء الجزية وتحليل الربا وبيع الخمر والخنزير ونزع الحجاب والدخول في الأحزاب الكافرة وتحليل السينما والموسيقى وتولية المرأة، إرضاء للحكام والغرب الصليبي ومراكز دراساته كي يقال عنه ميسر ويمنح الجوائز وتفتح له القنوات التلفزيونية أبوابها ونوافذها.
[13] - الاستقامة لابن تيمية 1-30،46
0 التعليقات:
إرسال تعليق