الأجوبة الشرعية على الأسئلة الشامية (14)
رضوان محمود نموس
سؤال أخيكم البتار ما هو حكم من يتم التأكد من أنه أخذ مال التبرعات التي بعثت للمجاهدين عن طريقه، ولم يوصلها واستأثر بها لنفسه راجياً منكم الاستفاضة بشرح الحالات أو إذا كان هناك تنبيه لأول مرة مثلاً أو إن كان يعرف بالصلاح أم أن الحكم عام أسأل الله لكم الثبات وأن يجمعنا على طاعته.
الحمد لله والصلاة على رسول الله وبعد.
أولاً أود لفت الانتباه إلى قضية أساسية: وهي ضرورة التأكد القاطع من أن فلان فعل هذا الفعل. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12]
وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) [الحجرات:6]
وأن لا نسارع في اتهام أحد إلا بعد التأكد القاطع.
أما الحكم الشرعي في هذا الفعل فأقول وبالله التوفيق: هذا الفعل لا يدخل تحت مسمى السرقة, بل تحت مسمى الخيانة؛ والخيانة أنواع ودرجات وجميعها فعل محرم.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27]
وقال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج:38]
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ"([1])
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»([2]).
والخيانة طبع من طبائع اليهود الملازمة لهم، قال الله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) [المائدة:13] فالخائن فيه شبه من اليهود, والخيانة تكون في كل ما يؤتمن عليه الإنسان من مال وعرض ودين وعهد وغير ذلك، وقد خان اليهود أمانتهم في الأموال.
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} آل عمران آية (75) .
كما أنها من صفات المنافقين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ "([3]).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرْبَعُ خِلاَلٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا"([4]).
والواقع أن الخائن متحقق فيه ( الكذب والإخلاف والغدر) فيكاد يكون منافقاً خالصاً والله أعلم.
أما ما هي عقوبة الخائن: فلقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس في الخيانة المالية قطع. (عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ، وَلا مُنْتَهِبٍ، وَلا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ»: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ وَقَدْ رَوَاهُ مُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)([5]).
والخيانة أشكال ولها ظروف وأحوال فيمكن أن تصل إلى حد الردة؛ وذلك عندما تكون الخيانة فيها ولاء أو خدمة للعدو, حتى في الخيانات المالية فهب أن رجلاً جمع التبرعات للمجاهدين أو كلف بإيصالها للمجاهدين فأعطاها أو أعطى قسم منها للدولة الكافرة المحاربة فهذه ردة وحدها القتل.
وهب أنه لم يسلمها للدولة إنما منعها عن المجاهدين حتى لا يشتروا بها سلاح يدافعوا به عن أنفسهم ويقاتلوا الكفار فيمكن أن يصل إلى الردة في هذا أيضاً لأنه عمل على إلحاق الهزيمة في المسلمين.
وتنزل إلى أنه غلبت نفسه عليه فاستأثر بالمال ليوزعه هو على المحتاجين من المتضررين؛ ليكون له مكانة وشهرة.
وفيما بين حالة الردة والحالة الأخيرة حالات كثيرة تقدر كل حالة بقدرها وللمجاهدين أن يأخذوه ويحققوا معه وينزلوا به العقاب الذي يقرره علماؤهم حسب الحالة ووفق اجتهاد العالم دون شطط أو تفريط.
ومن المعلوم أن الخيانة في هذه الحالة عموماً هي ليست خيانة مالية فقط بل محتفة بها قرائن تجعلها خيانة للدين وللأمة ولله ورسوله وللمؤمنين لأن ضررها عائد على الجهاد والأمة جميعاً فهي من صنف الخيانة العظمى.
ولا شك أن هناك فرق بين من يخون الأمانة الفردية والأمانة العائدة لمصلحة الأمة وحتى هذه هناك فروق بين من يخون أمانة في مال كلف بإيصاله لبناء حديقة يلعب بها أطفال المسلمين وبين من خان أمانة في مال أرسل معه لدعم المجاهدين وما يترتب على هذا الجهاد من نصر الدين والمؤمنين أو هزيمتهم لا سمح الله ولا قدر. لذا يجب التأكيد على حكم كل حالة على حدة.
وفي حالات الجهاد كما في سورية الآن إذا لم يكن هناك تعامل مع العدو أو إرادة هزيمة المسلمين فتكون العقوبة دون القتل.
ويبدأ بالمناصحة والتحذير من خطورة الخيانة ومآل الخائنين عند الله.
فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ فِي رَجُلٍ كَانَ يُمْسِكُ بِرَأْسِ دَابَّتِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ: اسْتُشْهِدَ فُلَانٌ فَقَالَ: «إِنَّهُ الآنَ يَتَقَلَّبُ فِي النَّارِ» قِيلَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: «غَلَّ شَمْلَةً يَوْمَ خَيْبَرَ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَخَذْتُ شِرَاكَيْنِ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: «شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ»([6]).
فإن تاب وأناب وأعاد الحقوق فبها ونعمت وإلا فلقيادة المجاهدين إنزال العقوبة المناسبة بحقه واستخلاص الأموال منه وتحذير الناس منه ويمكن أن تكون العقوبة بالتعزير ضرباً أو سجناً أو حجز أمواله أو التشهير به أو التعنيف كل بحسب حاله والله أعلم.
وكتبه رضوان محمود نموس في 25/جمادى الأولى 1433 هـ
[1] - مسند أحمد ط الرسالة (36/ 504) برقم 22170
إسناده صحيح موقوفاً, وقد روي مرفوعاً ولا يصحّ. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب" 3 أخرجه حم 5/252، وابن أبي شيبة في الإيمان ص 27، وابن أبي عاصم في السنة 1/53 كلهم من حديث الأعمش قال: "حدث عن أبي أمامة - رضي الله عنه - وهو منقطع وله شواهد ضعيفة".
وقد روي موقوفا على سعد بن أبي وقاص رواه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 27، وقال الألباني في تعليقه على الكتاب: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
[3] - متفق عليه صحيح البخاري (1/ 16) برقم :33 وصحيح مسلم (1/ 78) برقم 107
[4] - صحيح البخاري (4/ 102) برقم 3178 وصحيح مسلم (1/ 78) برقم 106 - (58)
[6] - مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/ 246) برقم 9505
0 التعليقات:
إرسال تعليق