أرواد ومجتهدون أم فسقة وضالون؟! (30)
رضوان محمود نموس
نتابع في هذه الحلقة عن محاولة محمد عمارة سحب الإسلاميين إلى العلمانية وتهوين الأمر باختراع بدعي يظن أنه ينطلي على أحد حتى لو كان مغفلاً وهو استخدام مصطلح تمييز الدين عن الدولة بدلاً من فصل الدين عن الدولة. عمارة هذا الذي وصفه القرضاوي:[بأنه أحد مجددي هذا القرن وأحد الذين هيأهم الله لنصرة الدين الإسلامي من خلال إجادته استخدام منهج التجديد والوسطية.] حسب ما نشر موقع الجزيرة وغيره من المواقع المصدر: (الجزيرة نت) 3/11/2010
ونعود لموضوعنا وهو محاولة تلبيس محمد عمارة على الإسلاميين بتفريقه بين لفظي الفصل والتمييز, وسنستشهد بقول أحد العلمانيين الذين أعجبهم فعل محمد عمارة.
يقول شبلي العيسمي (وهو درزي, كان أميناً عاماً لحزب البعث): [ثم يخرج الدكتور محمد عمارة بطرح يقود إلى نتيجة أخرى وهي أن الإسلام يتضمن المعاني الأساسية للعلمانية وهو بذلك يقرها على مضامينها الإيجابية ويعترف بأنها تحتوي على ما هو جيد ومفيد وكأنه بذلك يرفض استخدام كلمة العلمانية مع الإقرار بمحتواها وهو إذ ينطلق من نظرة واعية ومتحررة في فهم الإسلام فإن ما وصل إليه بقوله: "وما الذين يختارون العلمانية أو الذين يسعون إلى الدولة الدينية إلا مقلدون "، يبدو أنه هروب ذكي من العلمانية الصريحة والأخذ بما ترمي إليه بالاستناد إلى تفسيرات دينية ومن ثم إعطاء مضمونها الصيغة الإسلامية وهو إذ يحاول أيضاً أن يخرج بنظرية أو بحل لمشكلتي العلمانية والدولة الدينية بقوله "هذا الموقف الوسط هو الذي نسميه (التمييز) وليس (الفصل) أو (الوحدة) بين الدولة والدين، فالتمييز هو المصطلح الأصح والأدق للتعبير عن هذه العلاقة بينهما "... ثم إن مصطلح التمييز الذي اعتبره الدكتور عمارة حلاً للمسألة العلمانية والإسلام ينطوي على نزعة وسطية توفيقية على طريقة ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشريعة أي بين الفلسفة والدين أو أنها توحي بحل وسط يقرب مما يسمى بالمنزلة بين المنزلتين على حد تعبير المعتزلة ولكن بعضهم يرى في ذلك نوعاً من التلفيق أو اللعب على الألفاظ، أما نحن فنرى فيه اجتهاداً مفيداً في استبعاد الدولة الدينية ] ([1]).
والحقيقة أن شبلي العيسمي كان أكثر وضوحاً من محمد عمارة فهو يقول عن العلمانية: [ هي نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض كل صورة من صور الإيمان الديني والعبادة الدينية ] ([2]).
أما محمد عمارة فهو في كتاباته يصور العلاقة بين الدولة والدين علاقة تمييز ويحاول عرض هذا التمييز بأنه أخف من مصطلح الفصل علماً أن التمييز هو أشد أنواع الفصل، وكتاباته في هذا المجال هي عين العلمانية, وذات العلمانية, وحقيقة العلمانية اللادينية.
فمحمد عمارة مثلاً يصر على أن حروب الردة ليست دينية؛ بل هي سياسية فيقول: [ نحن إذا تأملنا موقف أبو بكر الصديق من قتال القبائل التي بقيت على إسلامها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لكنها امتنعت عن تسليم زكاة أموالها.... إذا تأملنا هذا الموقف وجدناه نموذجاً جيداً للتعبير عن طبيعة العلاقة بين الدين والدولة في نهج الإسلام، فالذي رفضته هذه القبائل وارتدت عنه لم يكن دين الإسلام... وكانوا في هذا الموقف مرتدين عن وحدة الدولة والتوحيد القومي ] ([3]).
ثم يقول [ فكانت بيعة العقبة هذه عقداً سياسياً وعسكرياً واجتماعياً ] ([4]).
المهم أنه ليس عقداً دينياً. ثم يحدِّد لنا شكل الدولة في الإسلام فيقول:
[ أ - يكون الحاكم الأعلى في المجتمع - الدولة - نائباً عن الأمة.
ب- كما يكون في الأساس منفذاً للقانون الذي يضعه مجتهدو الأمة وأهل الخبرة بشؤونها وبالشورى والرأي والنظر في إطار كليات الدين ومثلها العليا ووصاياها العامة، أي أن الأمة هنا مصدر السلطات شريطة أن تتقيد سلطاتها بالوصايا الدينية المتمثلة في النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة طالما بقيت هذه النصوص محققة لمصلحة الأمة في مجموعها -ويقصد عمارة بمجموع الأمة المسلمين والنصارى واليهود والمرتدين- وإلا قدمت المصلحة على هذه النصوص.
ج- فللدين مدخل في الدولة لكنه لا يرقى إلى مستوى الوحدة كما أن علاقتهما لا تنزل إلى مستوى الفصل بينهما وإنما هو التمييز بين الدين والدولة... ولذلك فإننا نستطيع أن نقول إن موقف الحضارة العربية الإسلامية هذا كان هو التطبيق في مجال السياسة والدولة لموقف الإسلام الدين الذي ينكر وجود سلطة دينية لبشر خارج نطاق الموعظة والإرشاد والذي لم يحدد في الحكم في الدولة نظماً محددة ومفصلة ولم يضع نظريات ثابتة ودائمة ولم يسن قوانين جامعة وشاملة ] ([5]).
ثم يقول: [ ففي الإسلام قليلة هي آيات الأحكام في القرآن الكريم وأقل منها آيات الحدود هذه وتلك مع الأحاديث الصحيحة التي تمثل السنة التشريعية إنما تمثل في الجوهر والأساس فلسفة التشريع القانوني وإطار الاجتهاد البشري الذي أوكل إليه الإسلام إبداع القوانين وتطويرها وتغييرها وفقاًَ لمصلحة الأمة... فتعبير القوانين الإلهية لا يجوز إطلاقه على فقه المعاملات واجتهادات الفقهاء لأن هذا الفقه وهذه الاجتهادات هي قانون وضعي إسلامي أما الوضع الإلهي في الشريعة التي هي النهج والمقاصد وفلسفة القانون وليس فقه المعاملات الذي هو قانون الأمة وثمرة إبداعها وعبقريتها في ميدان التشريع ] ([6]).
ويصف منهجه هذا بأنه [ العدل بين الظلمين، الحق بين الباطلين، والاعتدال بين التطرفين ] ([7]).
ويقرر في كتابه (الإسلام بين التنوير والتزوير) على أولوية العقل فيقول: [ ومن هنا كانت الاستنارة بالإسلام. تقرأ النقل بالعقل, وتُحَكِّم العقل بالنقل ] ([8]).
فمختصر مذهب محمد عمارة:
لا يوجد دولة دينية.
المرتدون كانوا مسلمين وردتهم كانت سياسية.
بيعة العقبة كانت سياسية.
ليس للإسلام سلطة خارج الوعظ والإرشاد.
الأمة مصدر السلطات.
حق التشريع للأمة.
المصلحة مقدمة على النصوص حتى لو كانت قطعية الثبوت قطعية الدلالة.
إحلال الأمة محل الله. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً
ثم سمى كل هذا (عدل بين ظلمين وحق بين باطلين واعتدال بين تطرفين), ويأبى عليه عدله وإسلامه وإيمانه وكونه مفكراً مسيلمياًُ مجدداً للردة المسيلمية يأبى العلمانية, وفصل الدين عن الدولة, فلذلك سماه التمييز, أي التمييز بين الدين والدولة.
ويحضرني بهذه المناسبة حوار إذاعي بين مهرب وسياسي كبير، والمهرب - وهو الذي ينقل أشياء من دولة لأخرى غير مرخص باستيرادها- قال فيه السياسي الكبير للمهرب إنك تدمر اقتصاد البلاد بالتهريب. فقال المهرب للسياسي: أنا مهرب, وأطلق على نفسي اسم مهرب، ولكن هناك مهربين كبار وكبار جداً, ويطلقون على أنفسهم أسماءً وألقاباً مهمة.
وهنا أقول: إن مصيبتنا بالعلمانيين اللادينيين الواضحين أقل سوءاً وشراً من مصيبتنا بهذه النابتة التي ظهرت في العصر الحديث وتطلق على أشخاصها لقب (مفكر إسلامي)، وتصر وسائل إعلام الدول اللامنتمية والإعلام الرديف لها على التأكيد على هذا المسمى. فأولئك علمانيون ويسمون أنفسهم علمانيين, وهؤلاء أيضاً علمانيون -لادينيون كفار مرتدون- ولكنهم يسمون أنفسهم (المفكرون الإسلاميين) أي (مجددينات), و يريدون أن يحرفوا الدين عن بعض مواضعه, فيقولون إن أصل الدين لا يتدخل بالسياسة, وإن وضع القوانين من حق البشر, والمرتدين مسلمون, وليس للإسلام إلا حق الوعظ, والناس هم الذين يقننون لأنفسهم سياسياً, واقتصادياً, واجتماعياً, و.. و.. الخ.
وبهذا الصنيع فرغوا الإسلام من مضمونه واستبدلوا بالمضامين الإسلامية المضامين العلمانية - اللادينية - وسموها بعد ذلك إسلامية زوراً وبهتاناً وإفكاً, فارتكبوا بذلك عدة جرائم:
- جريمة الكذب على الله, ورسوله صلى الله عليه وسلم, وعلى جماعة المسلمين.
- جريمة تزوير الدين.
- جريمة العلمانية اللادينية، التي تُقصِي الدين عن مسرح الحياة.
- جريمة تضليل الأمة.
- جريمة خيانة الأمة, والعمالة لمعسكر إبليس, وغيرها من الجرائم المترتبة على ما سبق.
ويشاركهم في كل هذا الإعلام الذي يُسَّوِقهم, ويروج بضاعتهم؛ والذي يسمي شياطينهم مجددين. بل زادوا ذلك فلسفة وتحذلقاً, وقاموا بما يسمى عملية الركل إلى الأعلى، فأحالوا الإسلام إلى لجنة مركزية عليا, دوره منحصر في إطار وضع الأطر العامة والوصايا والوعظ والإرشاد، وزعموا أن هذا من تعظيم الدين ورفعه عن مستوى السياسة، فأبعدوه عن التنفيذ والتقنين والحكم على جميع أفعال المكلفين, وعن كونه منهجاً عاماً وعملياً ودستور حياة لجميع البشر, وأحالوا الأشياء الهامة من التنفيذ والتقنين ووضع المنهج إلى البشر, وقالوا إن الإسلام أعلى من ذلك، فلئِن ظن هؤلاء أن مثل هذه الألاعيب تنطلي على المسلمين فإنما يخادعون أنفسهم.
قال الله تعالى: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون % فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون % وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون % أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ % وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ %وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ % اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ % أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }([9]).
وكما فعل عمارة بتقسيم العلمانية, ومحاولاته إلباسها لباس الإسلام فقد قسَّم العيسمي العلمانية: إلى علمانية ملحدة, وعلمانية محايدة. فيعرف العلمانية المحايدة بقوله:
[ العلمانية لا تلغي الدين أو الممارسة الدينية كما تخرج الممارسة الدينية من الحيز الاجتماعي والسياسي كي تعيدها إلى إطارها الوحيد في الحيز الشخصي، والعلمانية ليست نقيض التعصب الديني فالتعصب الديني عندما يقتصر على الإيمان وعلى العلاقة بين الفرد وربه فإنه حق للفرد، أما عندما يتحول إلى قاعدة للتنظيم الاجتماعي والممارسة السياسية فإنه يصبح وسيلة قمع استبدادية غير عقلانية، وبالاستناد إلى هذه المفاهيم يطلق بعضهم على العلمانية اسم المعتدلة وسنطلق عليها نحن اسم العلمانية المحايدة من باب التمييز لها عن العلمانية المتطرفة أو الملحدة وفق العقيدة الماركسية ولأنها تضمن حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية بدافع التطبيق لمبادئ الديموقراطية وليس بدافع الإيمان أو عدم الإيمان بدين معين ] ([10]).
إذاً فالعلمانية غير الملحدة أي المحايدة أو المعتدلة أو... الخ, التي يدعو لها محمد عمارة, أو يدعو للتفاهم معها, ويصور الخلاف معها بأنه في دائرة الخطأ والصواب, أو دائرة الاجتهاد: هي علمانية تعزل الدين عن كل شيء. وإذا فكر المتدين بعمل اجتماعي فهو استبدادي, وهي إذا سمحت للمسلم بأن يصلي مثلاً فهي تفعل هذا من منطلق الديموقراطية، وليس الإيمان أو عدمه، ثم يصور هذا بأنه خلاف في الاجتهاد.
وعلى نفس طريقة محمد عمارة يدندن الدكتور محمد أحمد خلف الله حيث يقول:
[ نستطيع أن نؤكد أن القرآن الكريم وأن النظام الإسلامي الذي أنشأه القرآن الكريم وأن نظام الحكم الذي أوجده العقل البشري أيام الصحابة من الأنصار والمهاجرين نظام علماني أو على أقل تقدير نظام لا يعارض العلمانية ولا ينكرها ] ([11]).
ومعنى كلام خلف الله - الذي يؤكد محمد عمارة على أنه مسلم -: أن القرآن لا ديني، فلا أدري كيف ينسجم هذا الكلام، أم أن هناك كائنات لا تدري ما تقول؟!! ولكن قال الله تعالى: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا }- سورة الفرقان: 44.
[2] - المصدر السابق, ص / 15.
[3] - نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام محمد عمارة. طبع دار الرشاد 1997/ ص 45.
[4] - نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام محمد عمارة. طبع دار الرشاد 1997, ص / 48.
[5] - نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام محمد عمارة. طبع دار الرشاد 1997، ص / 59 – 61.
[6] - نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام محمد عمارة. طبع دار الرشاد 1997, ص / 131.
[7] - نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام محمد عمارة. طبع دار الرشاد 1997، ص / 113.
[9] - سورة البقرة: 9 - 16.
[10] - العلمانية والدولة الدينية, ص /51 – 52.
[11] - مجلة الطليعة العربية -العدد 129. تاريخ 28/10/1985م- مقال لمحمد أحمد خلف الله عن “الإسلام وعلمانية الدولة ".
0 التعليقات:
إرسال تعليق