الجماعة 18
رضوان محمود نموس
ولما اشتهرت دراسة الفلسفة عند علماء أهل الكلام وهم الأشاعرة والماتريدية، تأثر هؤلاء تأثرا بالغا بالفلاسفة، بل لقد قالوا نفس مقالتهم.
وهذا هو القاضي محمد بن أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المالكي يقول عن الغزالي:[ شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج فما قدر ] وقالوا عنه أيضا:[ بلع الفلسفة ثم أراد أن يتقيأها فلم يستطع ] وقال عنه آخرون [ أمرضه الشفاء] أي كتاب الشفاء لابن سينا.
فتلقفَ هؤلاء كلام الفلاسفة وصاغوه على أسلوبهم وهذه المرحلة الثالثة للقانون، فقال الجويني في كتابه الإرشاد:[ إعلموا وفقكم الله أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلا ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعا، وإلى ما يدرك سمعا ولا يتقدر إدراكه عقلا، وإلى ما يجوز إدراكه سمعا وعقلاً.... فإذا ثبتت هذه المقدمة فيتعين بعدها على كل معتن بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية، فإن صادفه غير مستحيل بالعقل وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طرقها لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها، فما هذا سبيله فلا وجه إلا القطع به، وأن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة ولم يكن مضمونها مستحيلا في العقل وتثبت أصولها قطعا ولكن طريق التأويل يجول فيه فلا سبيل إلى القطع، ولكن المتدين يغلب على ظنه بثبوت ما دل الدليل السمعي على ثبوته وإن لم يكن قاطعا، وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مخالفا لقضية العقل فهو مردود قطعا، لأن الشرع لا يخالف العقل ولا يتصور في هذا القسم ثبوت سمع قاطع ولا خفاء به ]([1]).
القانون في مرحلة الغزالي:
لقد قدّمنا عن تأثر الغزالي بالفلاسفة وابن سينا على وجه الخصوص حتى بحقده على العرب فقال بن سينا مثلا:[ ولو ألقي هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين والأجلاف لتسارعوا إلى العناد ]([2]).
وها هو الغزالي يقول:[ والعقل مبلغ العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري فيه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس والرؤية من العين، فكيف لا يشرّف وكيف يستراب به والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل حتى إن أعظم البهائم بدنا وأشدها ضراوة وأقواها سطوة إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه ولذلك ترى الأتراك والأكراد وأجلاف العرب وسائر الخلق مع قرب منزلتهم من رتبة البهائم يوقرون الشيوخ بالطبع ]([3]).
وما قال الغزالي هذا الكلام إلا تقليدا أعمى لابن سينا مع أنه يكفره، ولكن البعض أجَروا عقولهم ويريدون أن يخضعوا القرآن والسنة لهذه العقول المأجّرة.
سقنا هذه الفقرة كإشارة لتأثر الغزالي وغيره من علماء الكلام بآراء الفلاسفة والآن ننظر كيف صار القانون بمرحلته الرابعة على يد الغزالي.
لقد سأل أبو بكر بن العربي المالكي أسئلة فأجاب عنها بما سمّاه بالقانون فقال:[ أسئلة أكره الخوض فيها والجواب، لأسباب عدة لكن إذا تكررت المراجعة أذكر قانونا كليا ينتفع به في هذا النمط وأقول:
بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر، والخائضون فيه تحزبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول، وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق.
والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلا، والمنقول تابعا، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل المنقول أصلا، والمعقول تابعا، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل كل واحد أصلاً ويسعى في التأليف والتوفيق بينهما. فهم إذن خمس فرق:
الفرقة الأولى: هم الذين جرّدوا النظر إلى المنقول، وهم الواقفون على المنزل الأول من منازل الطريق القانعون بما سبق إلى أفهامهم من ظاهر المسموع، فهؤلاء صدقوا بما جاء به النقل تفصيلاً وتأصيلاً، وإذا شوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر المنقول وكلفوا تأويلا امتنعوا وقالوا: إن الله قادر على كل شيء. فإذا قيل لهم مثلاً: كيف يرى شخص الشيطان في حالة واحدة في مكانين، وعلى صورتين مختلفتين ؟ قالوا: إن ذلك ليس عجبا في قدرة الله، فإن الله قادر على كل شيء، وربما لم يتحاشوا أن يقولوا: إن كون الشخص الواحد في مكانين في حالة واحدة مقدور لله تعالى.
والفرقة الثانية: تباعدوا عن هؤلاء إلى الطرف الأقصى المقابل لهم، وجردوا النظر إلى المعقول، ولم يكترثوا بالنقل، فإن سمعوا في الشرع ما يوافقهم قبلوه، وإن سمعوا ما يخالف عقولهم زعموا أن ذلك صوره الأنبياء، وأنه يجب عليهم النزول إلى حد العوام، وربما يحتاج أ ن يذكر الشيء على خلاف ما هو عليه. فكل ما لم يوفق عقولهم حملوه على هذا المحمل. فهؤلاء غلوا في المعقول حتى كفروا، إذ نسبوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الكذب لأجل المصلحة.
ولا خلاف بين الأمة أن من جوز ذلك على الأنبياء صلوات الله عليهم يجب حز رقبته. وأما الأولون فإنهم قصروا طلبا للسلامة من خطر التأويل والبحث، فنزلوا بساحة الجهل، واطمأنوا بها. إلا أن حال هؤلاء أقرب من حال أولئك، فإن تخلص هؤلاء عن المضايق بقولهم: إن الله على كل شيء قدير، ونحن لا نقف على كنه عجائب أمر الله، ومخلص أولئك بأن قالوا: إن النبي إنما ذكر ما ذكره على خلاف ما علمه للمصلحة. ولا يخفى ما بين المخلصين من الفرق في الخطر والسلامة.
والفرقة الثالثة: جعلوا المعقول أصلا، فطال بحثهم عنه وضعف عنايتهم بالمنقول، فلم تجتمع عندهم الظواهر المتعارضة المتصادمة في بادئ الرأي، وأول الفكر المخالفة للمعقول، فلم يقعوا في غمرة الإشكال، لكن ما سمعوه من الظواهر المخالفة للمعقول جحدوه وأنكروه وكذبوا راويه، إلا ما يتواتر عندهم كالقرآن أو ما قرب تأويله من ألفاظ الحديث، وما شق عليهم تأويله جحدوه حذرا من الإبعاد في التأويل.فرأوا التوقف عن القبول أولى من الإبعاد في التأويل، ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطر في رد الأحاديث الصحيحة المنقولة عن الثقات الذين بهم وصل الشرع إلينا.
والفرقة الرابعة: جعلوا المنقول أصلاً، وطالت ممارستهم له فاجتمع عندهم الظواهر الكثيرة، وتطرفوا من المعقول ولم يغوصوا فيه، فظهر لهم التصادم بين المنقول والظواهر في بعض أطراف المعقولات. ولكن لما لم يكثر خوضهم في المعقول، ولم يغوصوا فيه، لم يتبين عندهم المحالات العقلية، لأن المحالات بعضها يدرك بدقيق النظر وطويله الذي ينبني على مقدمات كثيرة متوالية، ثم انضاف إليه أمر آخر وهو: أن كل ما لم يعم استحالته حكموا بإمكانه. ولم يعلموا أن الأقسام ثلاثة: قسم علم استحالته بالدليل، وقسم علم إمكانه بالدليل، وقسم لم يعلم استحالته ولا إمكانه. وهذا القسم الثالث جرت عادتهم بالحكم بإمكانه، إذ لم يظهر لهم استحالته،وهذا خطأ، كمن يحكم باستحالته إذا لم يظهر إمكانه، بل من الأقسام ما لم يعلم إمكانه ولا استحالته، إما لأنه موقف العقل وليس في القوة البشرية الإحاطة به، وإما لقصور هذا الناظر خاصة وعدم عثوره على دليله بنفسه وفقده لمن ينبهه عليه.
ومثال الأول من حس البصر: قصور الحس البصري عن أن يعرف عدد الكواكب أنه زوج أو فرد، وأن يدرك عظم الكواكب مع بعدها على ما هي عليه.
ومثال الثاني، وهو القصور الخاص: قصور حس بعض الناس عن أن يدرك منازل القمر وظهور أربع عشر منها في كل حال، وخفاء أربع عشر مقابل درج المنازل في الغروب والشروق، وغير ذلك مما وقف عليه بعض الناس بحس البصر دون بعض. كذلك يتطرق إلى إدراك العقل مثل هذا النوع من التفاوت. وهؤلاء لما قل خوضهم في المعقولات لم يكثر عندهم المحالات فكفوا مؤونة عظيمة في أكثر التأويلات، إذ لم ينتبهوا للحاجة إلى التأويل كالذي لم يظهر له أن كون الله بجهة محال، إذ استغنى عن تأويل الفوق والاستواء وكل ما يشير إلى الجهة.
والفرقة الخامسة: هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول، الجاعلة كل واحد منهما أصلاً مهمّاً، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقا، ومن كذب العقل فقد كذب الشرع، إذ بالعقل عرف صدق الشرع ولو لا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي، والصادق والكاذب، وكيف يكذب العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل.
وهؤلاء هم الفرقة المحقة. وقد نهجوا منهجاً قويماً، إلا أنهم ارتقوا مرتقى صعباً، وطلبوا مطلبا عظيماً، وسلكوا سبيلاً شاقاً، فلقد تشوفوا إلى مطمعٍ ما أعصاه، وانتهجوا مسلكاً ما أوعره. ولعمري أن ذلك سهل يسير في بعض الأمور، ولكن شاق عسير في الأكثر.
نعم، من طالت ممارسته للعلوم وكثر خوضه فيها يقدر على التلفيق بين المعقول والمنقول في الأكثر بتأويلات قريبة، ويبقى لا محالة عليه موضعان: موضع يضطر فيه إلى تأويلات بعيدة تكاد تنبو الأفهام عنها، وموضع آخر لا يتبين له فيه وجه التأويل أصلاً، فيكون ذلك مشكلاً عليه من جنس الحروف المذكورة في أول السور إذا لم يصح فيها معنى بالنقل. ومن ظن أنه سلم عن هذين الأمرين فهو إما لقصوره في المعقول وتباعده عن معرفة المحالات النظرية، فيرى ما لا يعرف استحالته ممكناً، وإما لقصوره عن مطالعة الأخبار ليجتمع له من مفرداتها ما يكثر مباينتها للمعقول. فالذي أوصيه به ثلاثة أمور:
أحدها: أن لا يطمع في الإطلاع على جميع ذلك، وإلى هذا الغرض كنت أسوق الكلام، فإن ذلك في غير مطمع، وليتل قوله تعالى:{ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } الإسراء 85.
ولا ينبغي أن يستبعد استتار بعض هذه الأمور على أكبر العلماء فضلاً عن المتوسطين. وليعلم أن العالم الذي يدّعي الاطلاع على مراد النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ذلك فدعواه لقصور عقله لا لوفوره.
والوصية الثانية: أن لا يكذّب برهان العقل أصلاً، فإن العقل لا يكذب، ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع، إذ به عرفنا الشرع. فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي الكاذب، والشرع شاهد بالتفاصيل، والعقل مزكي الشرع ؟.
وإذا لم يكن بد من تصديق العقل لم يمكنك أن تتمارى في نفي الجهة عن الله، ونفي الصورة. وإذا قيل لك:" إن الأعمال توزن " علمت أن الأعمال عرض لا يوزن فلا بد من تأويل. وإذ سمعت " أن الموت يؤتى به في صورة كبش أملح فيذبح " علمت أنه مؤول، إذ الموت عرض لا يؤتى به، إذ الإتيان انتقال ولا يجوز على العرض. ولا يكون له صورة كصورة كبش أملح، إذ الأعراض لا تنقلب أجساماً. ولا يذبح الموت، إذ الذبح فصل الرقبة عن البدن، والموت ما له رقبة ولا بدن، فإنه عرض أو عدم عند من يرى أنه عدم الحياة. فإذن لا بد من التأويل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق