أرواد ومجتهدون أم فسقة وضالون؟! (108)
وطه حسين عينه عمارة
رائداً للصحوة
رضوان
محمود نموس
نتكلم في هذه الحلقة عن طه حسين الذي عينه عمارة رائداً للصحوة الإسلامية
بل والأمة ويقدم هؤلاء على أنهم هم الرواد في الوقت الذي يحاول إهالة النسيان
والجحود على جهود العلماء والرواد الحقيقيين ويصر على تشويه حقائق الإسلام بالباطل.
عمارة هذا الذي وصفه القرضاوي:[بأنه أحد مجددي هذا القرن وأحد الذين هيأهم الله
لنصرة الدين الإسلامي من خلال إجادته استخدام منهج التجديد والوسطية.] حسب ما
نشر موقع الجزيرة وغيره من المواقع المصدر: (الجزيرة نت) 3/11/2010
سادساً امتداح
الجاهلية:
يردُّ
طه على أساتذة الأدب الذين يعتقدون بوجود امرئ القيس وعنترة وابن كلثوم وغيرهم ,
ويدرسون الجاهلية من خلال هذا يقول:
[...
بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا, فأزعم أني سأكتشف لهم طريقاً جديدة واضحة قصيرة سهلة
يصلون منها إلى هذه الحياة الجاهلية... إلى حياة جاهلية قيمة مشرقة ممتعة
مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات ]([1]).
فالحياة الجاهلية التي تعرف عليها طه قيِّمة مشرقة ممتعة من وجهة نظره.
وما ذاك إلا لتطابق بعض الأخلاق السائدة وأخلاق طه, فإنه لم يعجبه من أخلاق
الجاهلية: الشجاعة والكرم والنجدة والإباء ونحو ذلك, لأن هذه الأخلاق متناقضة مع
أخلاقه, ولكن يعجبه منها الكفر والزنا, والفاحشة, والخمور, والفجور. فهذا ما وجده
طه قيِّماً ممتعاً, فأحب من الجاهلية ما انسجم مع خلقه, وردَّ منها وكذَّب ما ناقض
أخلاقه.
ثانياً:
العمل على نشر الرذيلة:
معلم أساسي وبيِّن من معالم حياة طه هو العمل على نشر الرذيلة ما استطاع
لذلك سبيلاً, متبعاً في ذلك تعليمات أساتذته في مدرسة الاستشراق, والمدرسة
الماسونية. وقدم بين يدي مخططه قاعدة إبليسية, جعلها كالقانون, وهي تحرير الأدب من
الدين, ومن العروبة كما قدمنا. وبالتالي ينفلت الأدب من الوازع الديني والأخلاقي
المرتبط به, كما ينفلت من التقاليد والعادات العربية المرتبطة بالدين ارتباطاً
أساسياً, وحتى غير المرتبط منها تحكمه قواعد الشهامة العربية, فإذا أفلت الشعر أو
النثر من هذين العاملين وضع مكانهما الكفر والفجور وتقليد الغرب. وهذا هدف أساسي
من أهداف طه.
يقول
الأستاذ أنور الجندي: [ كان من أكبر أهداف الدكتور طه حسين: إشاعة أدب المجون
والجنس والإباحة, وقد قصد إلى ذلك من ناحيتين:
الأولى:
إحياء ما وجد في الأدب القديم من فنون الجنس عند بعض الشعراء المنبوذين من أهليهم
وأمتهم, ومما جمعه الشعوبي الخاطئ الأصفهاني في كتاب الأغاني.
والثانية: مما عمد
إلى ترجمته من القصص الداعر... هذا هو الهدف من عبارة الحرية التي كان يرددها
دائماً. الحرية بمفهوم الماسونية, وهو من أهلها, وهي الانطلاق وراء الأهواء
والشهوات ]([2]).
ثم
يقول طه عن العصر العباسي: [ كان أبو نواس وأصحابه على فسقهم ومجونهم يتدينون,
ويقيمون الصلاة, ولكنهم كانوا يعبثون في هذا كما يعبثون في غيره, وربما قضوا الوقت
الطويل عاكفين على الفُجر (بضم الفاء), ثم يذكرون الصلاة فيقيمونها, ولعلهم أقاموا
الصلاة في مثل هذا الحال يوماً, وأمَّهم أحد الندماء فغلط وهو يقرأ (قل هو الله أحد), فاستحالت الصلاة من خشوع لله
إلى استهزاء بهذا الإمام الجاهل..., وإذا أردنا مثالاً يختصر هذا العصر ويشخصه
فهذا المثال هو أبو نواس, الذي نتخذ من درسه سبيلاً إلى درس العصر كله.
-ثم
يقول-: اُدرُس هذا العصر درساً جيداً, واقرأ بنوع خاص شعر الشعراء, وما كان يجري
في مجامعهم من حيث تدهشك ظاهرة غريبة, هي ظاهرة الإباحة والإسراف في حرية الفكر
وكثرة الازدراء لكل قديم, سواء كان هذا القديم ديناً, أم خلقاً, أم سياسة, أم
أدباً ]([3]).
ويقول:
[ فقد بينا في هذا الحديث أن هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون عصرهم حقاً, وكانوا أشد
تمثيلاً وأصدق لحياته تصويراً من الفقهاء والمحدثين ]([4]).
فالذي يمثل العصر عند طه هم الزنادقة والفَجَرة. ولقد صدق من قال: (إن
الطيور على أشكالها تقع), ويمكن لطه كما صرح بأن يختزل العصر العباسي بأبي نواس,
وبأنه رمز ذاك العصر, وقد كان أبو نواس رمز الفجور والزندقة والتهتك. ولكن طه
يريده رمزاً للعصر كله. وكما هو حال طه: فقد كان رمزاً للكفر والزندقة والعمالة
والخنا والفجور و.., ولكنه لن يكون رمزاً لمرحلة زمنية, فهو وأبو نواس ومن على هذه
الشاكلة لا يكونون بحال رمزاً لأي زمن؛ بل رمزاً لما أرادوا أن يكونوا له, وهو
الخيانة والعمالة والكفر والزندقة ليس إلا. فطه لم يرَ في العصر العباسي أمثال
الإمام أبي حنيفة, والإمام مالك, والإمام الشافعي, والإمام أحمد رحمهم الله, ولم
يرَ الأئمة من أمثال البخاري, ومسلم, والترمذي, والنسائي, وأبي داود السجستاني,
وأبي دواد الطيالسي, وأمثال سفيان الثوري, والأوزاعي, وسفيان بن عيينة, والصادق,
والكاظم, ومحمد النفس الزكية, والليث بن سعد ووكيع بن الجراح, ومحمد بن أسلم
الطوسي, وعبد الله بن المبارك... الخ.
ولو
مضينا نعدُّ أعلام الفقهاء والعلماء لكتبنا عدة مجلدات. ومن شاء فليراجع تراجم
العلماء في هذا العهد, كما اتصف هذا العهد بفتح عمورية وأنقرة وطرسوس وغيرها,
ونَشَدَ وُدَّ الدولة العباسية زعماءُ أوربا وروسيا.
هذا
العصر الذي يريد طه أن يجعل أبا نواس ممثِّلاً له.
فطه
لم يألف, ولم يرَ, ولم يُسِغ من العصر العباسي المليء بالكنوز والعلماء والأدباء
والأبطال والمحدثين والمفسرين. لم يُسغ من كل هذا إلا أبا نواس وندماءه.
ولقد
قال الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي والذي يغيظ طه اسمه لأن له يدٌ فراسةٌ وفمُ
يكشف به أمثال طه قال ذلك الشاعر:
ومن
يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجد
مراً به الماء الزلالَ
ولقد كتب الأستاذ عبد القادر المازني حول مزاج طه في هذا الشأن فقال: [
وقد لفتني من الدكتور طه حسين في كتابه حديث الأربعاء, وهو مما وَضَع, وقصص
تمثيلية, وهي ملخصة, أن له ولعاً بتعقّب الزناة والفساق والفجرة والزنادقة. وقد
يفكر القارئ أنه أدخل القصص التمثيلية في هذا الحساب. ويقول: إنها ليست له, وهو
اعتراض مدفوع؛ لأن الاختيار يدل على عقل المرء, ويشي بهواه, وأن يختار المرء ما
يوافقه ويرضاه, ويحمله عليه اتجاه فكره, حتى لا يسعه أن يتخطاه, ولست بمازح حين
أنبه إلى ذلك, وها هو حديث الأربعاء..ماذا فيه؟ فيه كلام طويل عن العصر العباسي.
وللعصر العباسي وجوه شتى. وفي وسعك أن تكتب عنه من عدة جهات, ولكن الدكتور طه يدع
كل جانب سوى الهزل والمجون, ويروح يزعم لك أنه عصر مجون ودعارة, وإباحية متغلغلة
إلى كل فرع من فروع الحياة. فلماذا؟ لأية علة يقضي على الجوانب الأخرى لذلك العهد؛
بل قل: لماذا لا يرى في غير الماجنين والخليعين صورة منه, فيقول في صفحة 50 (قد
بينا في ذلك الحديث أن هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون عصرهم حقاً, وكانوا أشد تمثيلاً
وأصدق لحياته تصويراً من الفقهاء والمحدِّثين, وأصحاب الكلام, وأن هؤلاء العلماء على
ارتفاع أقدارهم العلمية ومنازلهم الاجتماعية والسياسية, وعلى أن كثيراً منهم كان
ورعاً مخلصاً طيب السيرة لم يأمنوا أن يكون من بينهم مَن شكَّ, كما شكَّ الشعراء,
ولها كما لها الشعراء, واستمتع بلذات الحياة في عصره كما استمتع الشعراء في
جهرهم).
وهل
يقف الدكتور هنا ويقنع بهذا القدر؟ كلا يا سيدي؛ بل يجري إلى آخر الشوط, ويقول في
الصفحة التاسعة والثلاثين من كتابه:
(خسرت
الأخلاق من هذا التطور, وربح الأدب...وإنما الذي يعنينا الآن أن نلاحظه أن هؤلاء
الناس الذين وصفنا لك ما وصلوا إليه من شكٍّ في كل شيء, وعبث بكل شيء, وإسراف في
المجون واللهو, كانوا يجتمعون ويجتمعون كثيراً, أكثر مما كان يجتمع أسلافهم, وكانت
اجتماعاتهم ناعمة غضة, فيها اللهو, وفيها الترف, كانوا لا يجتمعون إلا على لذة,
إلا على كأس تدار, أو إثم يقترف, وكانت اللذة والإثم حديثهم إذا اجتمعوا يتحدَّثون
فيها شعراً ونثراً...ولم تكن اجتماعاتهم تخلو دائماً من النساء, فقد كان الإماء
الظريفات يأخذن منها بنصيب عظيم)
ثم يقول:(إن القرن الثاني للهجرة على كثرة ما عاش فيه من الفقهاء والزهاد
وأصحاب الشك, والمشغوفين بالجد, إنما كان عصر شك ومجون, وعصر افتتان وإلحاد...,
وإنما أريد أن أشخص حياة هؤلاء الشاكين المسرفين في المجون تشخيصاً لا يجعل إلى
الشك فيه سبيلاً, ثم أريد أن أبيِّن أن هؤلاء الشاكين المسرفين في المجون, إن سخط
عليهم نفر قليل من الفقهاء وأصحاب الزهد, فقد كان الناس جميعاً على اختلاف طبقاتهم
وأهوائهم ومنازعهم, يحبونهم ويميلون إليهم...وإذا كان الناس بهم معجبين وعنهم
راضين, أقول: إذا كان الأمر على هذا النحو فليس عندي شك أن العصر الذي عاش فيه
هؤلاء الشعراء, وهؤلاء الناس الذين كانوا يعجبون بهم لم يكن عصر إيمان ويقين في
جملته, وإنما كان عصر استخفاف, وعصر مجون واستهتار باللذات) ص/184 من كتاب
طه.
وننتقل
إلى قصص الدكتور, ولنبدأ بقوله (فأنا أعترف بأني لا أتخير هذه القصص عفواً, وإنما
أتخير منها بنوع خاص ما يهز العاطفة, ويلذ العقل).
وحسبنا أن نقول دون أن نخشى
اعتراضاً: إنه ما من قصة منها إلا وهي تنطوي على نوع, أو أنواع من الخيانات...و
للقارئ أن يسأل: لماذا لم يؤثر الدكتور طه حسين نحواً آخر من أنحاء الأدب
الغربي؟...لماذا عُني على وجه الخصوص بقصص الزناة والزواني؟.. ألا يرى أن صنيعه
هذا في اختيار هذه القصص كصنيعه في اختيار من كتب عنهم من العباسيين؟ فكما ترك أبا
تمام, والبحتري, والشريف الرضي, ومهيار, والمتنبي, والمعري من فحول الشعراء, ووقع
على أهل المجون والاستهبال, كذلك لم ينتق من كنوز الأدب الغربي إلا هذه القصص
الحافلة بضروب المنكرات ]([5]).
كما أن القصص التي ألفها من أمثال: دعاء الكروان
وغيرها. كلها تدور حول الزنا والخيانة والرذيلة. وعموماً فهذا رأي طه في القرن
الثاني الهجري الذي نبغ فيه الفقهاء, والمحدِّثون, والمفسرون, ودوِّنت فيه أضخم
آثار الأمة العلمية وأهمها من الموسوعات الحديثية, والفقهية, واللغوية, والحضارية.
أما إذا انتقل إلى فرنسا فيقول: [ كل شيء في فرنسا يعجبني ويرضيني: خير
فرنسا وشرها, حلو فرنسا ومرّها, نعيم فرنسا وبؤسها, كل ذلك يروقني ويلذني, وتطمئن
إليه نفسي اطمئناناً غريباً. إني لأحس نفسي تسبق القطار إلى باريس على سرعة
القطار...أما النساء فلهن منطق معقول, هن متجرِّدات بالنهار على الساحل,
متجرِّدات في الليل إذا أقبلن إلى الكازينو, ولكنهن لا يظهرن من أجسامهن ما يظهرن
في النهار, وإنما يظهرن في النهار نصفاً, وفي الليل نصفاً آخر, للنهار الأعجاز
ولليل الصدور ]([6]).
وهكذا كرَّس طه حسين حياته وفكره لنشر الكفر من جهة, ولنشر العوامل
المساعدة على الكفر من فسوق ورذيلة من جهة أخرى, سواء كتب, أو ترجم, أو تحدَّث.
ثالثاً:
الولاء للغرب:
لا
يملُّ طه من العزف على أوتار التغريب, ومن إعلان رأيه وإعجابه بأثينا وفرنسا, وعن
تمنياته أن لو استطاع فصل مصر عن الأمة الإسلامية والعرب, وإلحاقها بأوربا.
فأينما
نظرت في كتبه؛ تزكم أنفك هذه الرائحة, ويؤذي بصرك تسويده للصفحات في هذا السياق,
ويصدمك قوله: [ أنا مفتون في أثينا, ولكن فتنتي بباريس أكبر... كل ما في باريس
يروق لي؛ خيرها وشرها, حلوها ومرها..] إلى آخر هذه الشنشنات. ويسهب في الحديث عن
فلاسفتها ومدارسها, ودور السينما والتمثيل فيها, وأسواقها ونسائها, وملاهيها
وخماراتها, وسفهائها, وزانياتها اللاتي يسمَّيْن بائعات هوى.
وسأسرد لك في هذا المبحث بعضاً من أقواله في فتنته وولائه؛ بل قل وعبادته
للغرب عامة, ولفرنسا خاصة, ما يجعلك تقف على جليَّة أمره, وخبث طوِيَّته, وفساد
منهجه. ولقد سبقني لهذا كتَّاب كُثر كشفوا عن طه الأستار, وأخرجوه من مخابئه
وكهوفه, ووضعوه في شمس الظهيرة؛ ليراه أصحاب البصر والبصائر على حقيقته. أما من
طبع على قلوبهم, وختم على سمعهم, وغشي على أبصارهم, فإنك لن تسمع من في القبور.
فعندما
يحدِّد طه سبيل نهضة مصر يقول:
[ لكن السبيل إلى ذلك ليست في الكلام يرسل إرسالاً,
ولا في المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة, وإنما هي واضحة بينة مستقيمة ليس فيها
عوج ولا التواء, وهي واحدة فذَّة ليس لها تعدد وهي: أن نسير سيرة الأوربيين, ونسلك
طريقهم لنكون لهم أنداداً, ولنكون لهم شركاء في الحضارة؛ خيرها وشرّها, حلوها
ومرّها, ما يحب منها وما يكره, وما يحمد منها وما يعاب. ومن زعم لنا غير ذلك فهو
خادع أو مخدوع ]([7]).
ويقول:
[فلا ينبغي أن يفهم المصري أن بينه وبين الأوربيين فرقاً عقلياً.ولا ينبغي أن يفهم
المصري أن الشرق الذي ذكره "كيبلنج" في بيته المشهور "الشرق شرق
والغرب غرب ولن يلتقيا" يصدق عليه, أو على وطنه العزيز. ولا ينبغي أن يفهم
المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل, وجعل بها مصر جزءاً من أوربا, قد كانت فناً
من فنون التمدّح, أو لوناً من ألوان المفاخرة, وإنما كانت مصر دائماً جزءاً من
أوربا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها ]([8]).
ثم يقول: [ والمصريون مدفوعون دفعاً عنيفاً إلى الحياة الأوربية الحديثة,
تدفعهم إليها المعاهدات والالتزامات, وعقول المصريين وطبائعهم وأمزجتهم, التي لا
تختلف قليلاً ولا كثيراً في جوهرها منذ العهود القديمة جداً عن عقول الأوربيين
وطبائعهم وأمزجتهم ]([9]).
ويقول:
[ وهل الحياة الدستورية النيابية إلا شيء أخذناه من أوربا أخذاً, ونقلناه عنها
نقلاً, فلم نكد نستمتع به حتى اتصل بحياتنا وامتزج بدمائنا, وأصبح حبه غذاء
لنفوسنا, وقواماً لعقولنا, وعنصراً من عناصر ضمائرنا ]([10]).
ثم
يقول: [ ومعنى هذا كله آخر الأمر بديهي يبتسم الأوربي حين ننبئه به, لأنه عنده من
الأوليَّات, ولكن المصري والشرقي العربي يلقيانه بشيء من الإنكار والازدراء, يختلف
باختلاف حظِّهما من الثقافة والعلم, وهو أن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن
تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط, وإن تبادل المنافع على اختلافها
فإنما يتبادل مع شعوب البحر الأبيض المتوسط ]([11]).
ويمضي
طه حسين أبعد من ذلك؛ ليقرر لنا أن مصر لم تطمئن للعرب المسلمين أبداً, بينما
أطمأنت واستراحت للاحتلال اليوناني. فيقول:
[
والتاريخ يحدثنا بأن رضاي -أي رضا مصر- عن السلطان العربي بعد الفتح لم يبرأ من
السخط ولم يخلص من المقاومة والثورة, وبأنها لم تهدأ ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد
شخصيتها المستقلة في ظل ابن طولون, وفي طل الدول المختلفة التي قامت بعده,
فالمسلمون إذن قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة, وهو أن
السياسة شيء والدين شيء آخر, وهذا التصور هو الذي تقوم عليه الحياة الحديثة في
أوربا, فقد تخفَّفت أوربا من أعباء القرون الوسطى, وأقامت سياستها على المنافع
الزمانية, لا على الوحدة المسيحية, ولا على تقارب اللغات والأجناس ]([12]).
ثم
يقول: [ فلما كان فتح الإسكندر للبلاد الشرقية واستقرار خلفائه في هذه البلاد اشتد
اتصال الشرق بحضارة اليونان, واشتد اتصال مصر بهذه الحضارة بنوع خاص وأصبحت مصر
دولة يونانية أو كاليونانية, وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في
الأرض ]([13]).
ولم
يكتفِ طه بهذا القدر؛ بل ذهب شوطاً أبعد يريد فيه إثبات أن أصول الحضارات إغريقية
رومانية, وخاصة الحضارة الإسلامية.
فيقول:
[ لا أستطيع أن أخطف سارتر خطفاً من جذوره إذا ابتغيت لوطني أن ينهض ويلحق بركب
الحضارة على أن أقوده إلى جذور الحضارة العالمية الحاضرة. القائلون بالتراث في
بلادنا لينسون أو يتناسون اليونان, بذلك هم يجهلون أو يتجاهلون, والنتيجة سواء أن
الحضارة العربية الإسلامية في أزهى عصورها نقلت اليونان ]([14]).
ولا
يملُّ طه حسين من العزف على هذا النغم وكثرة الترداد, متَّبعاً القاعدة الإعلامية
الصهيونية "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى تتوهم أن هذا حقيقة".
يقول:
[ لقد كانت فلسفة أرسطاطاليس أساس النهضة العربية الأولى ]([15]).
ويقول:
[ العرب ورثوا عن اليونان ثقافتهم وفلسفتهم, وتأثروا بالنظم البيزنطية في الحكم
والتشريع ]([16]).
ويقول:
[ فلسفة أرسطو أثرت في العقل العربي تأثيراً عظيماً؛ بل خلقت هذا العقل خلقاً
جديداً, وأنجبت من الفلاسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم من الفلاسفة
الذين يزدان بهم تاريخ المسلمين ]([17]).
ويقول: [ فلسفة أرسطاطاليس كان لها الأثر الأكبر في تكوين العقل العربي
الإسلامي ]([18]).
ويقول:[
إن التعليم العالي الصحيح لا يستقيم في بلد من البلاد الراقية, إلا إذا اعتمد على
اللاتينية واليونانية على أنهما من الوسائل التي لا يمكن إهمالها, ولا الاستغناء
عنها, وإنا لا نعرف جامعة خليقة بهذا الاسم في بلد راقٍ خليق بهذا الوصف لا تشترط
اللاتينية واليونانية ]([19]).
فالفكر
اليوناني واللاتيني والإغريقي هو الذي يشكل العقل عند طه, ويؤسِّس الحضارات. ونحن
لا ننكر أنه تأثر بهذا الفكر كل أو غالبية الزنادقة والمارقين من الدين. فلم تظهر
الطوائف الملحدة والكافرة, والأفكار التدميرية المخربة إلا بعد أن ترجمت الكتب
اليونانية. والذين ذكرهم طه مفتخراً بهم وهم (ابن سينا والفارابي وابن رشد) هم
ثالوث الكفر, وأعمدة الإلحاد والزندقة, والفجور والفساد, وعنوان الرذائل في
تاريخنا, ودعك من هؤلاء فأمامنا مثال أقرب ألا وهو طه وصحبه ممن درسوا هذا الفكر
فتزندقوا وارتدوا, ودعوا أقوامهم إلى الردة.
أما
حضارة الرومان فهي حضارة المادة والبطر. وليراجع أحباب طه تاريخ الرومان. وأما
الحضارة الإسلامية, والعقل الإسلامي فقد أنشأهما القرآن ليس إلا. وكانت هذه الحضارة
تنحرف كلما دخل مع مصدر التلقي الوحيد مصادر جاهلية, سواء كانت يونانية أو غير
ذلك. ولم تزدهر حضارة هذه الأمة إلا بالقرآن. فالقرآن هو الذي صنع أجيالاً فتحت
الدنيا, وحطَّمت حضارة المادة, وامبراطوريات البطر التي ما زالت إلا لاعتمادها على
أفكار وفلسفات وضعية, ولن تنهض هذه الأمة إلا بالرجوع إلى الذكر, والمراد به
الوحيان (القرآن والسنة). أما الفكر اليوناني والإغريقي, وأتباعه من أمثال ابن
سينا وابن رشد والفارابي, والمعاصرون الجدد فسيكبكبوا جميعاً, ويُلقَوْن في المكان
المناسب لهم.
فطه كان قد انسلخ من أمته ديناً
ونسباً وفكراً وسلوكاً وعاطفة ومعنىً وشكلاً. فهو حتى عندما يكتب عن الأمة
الإسلامية إنما هو مترجم أو شارح, أو ملخِّص لكلام من يعبدهم من الغرب.
قال أنور الجندي: [ ومن أخطر الأمور التي أشار إليها سكرتيره والتي أثارت
ضجة كبرى: خطؤه في الأسماء العربية, فهو ينقلها نقلاً حرفياً من المصادر الأجنبية,
وقد أخذ عليه قوله "ولكن شجرت بين الفريقين اليمانيين والقيسيين معركة
(مرجرات) السياسية 22فبراير 1934, وقد كانت "مرجرات" هذه الفرنسية هي
"مرج راهط" العربية ]([20]).
ويصف
حاله وحال أمثاله فيقول: [ نحن مع تعلقنا بفرنسا بالفكر والقلب نحافظ على اتفاقنا
الصادق مع إنجلترا, فإنها برَّت بوعدها لنا ]([21]).
فهذا
العابد لأثينا وباريس إنما كان كما وصفه معاصروه سفيراً لفرنسا في مصر ينشر
أفكارها, ويسهر على مصالحها, ويدعو إليها, ويذيع آراءها. وطه لم يكن إلا مذياعاً,
أو سَمِّه صوت فرنسا من "القاهرة" وليس من "مونتي كارلو". فكل
ما بثَّه من أفكار هو من إعداد المستشرقين والجوقة الفرنسية, وكان دوره فيها دور
المذيع. التي تقدم له النشرة ليتلوها
وسنثبت هذا عند كلامنا عند علاقة طه بالاستشراق, ونتيجة لدوره الإذاعي أغدق عليه
الغرب وفرنسا بشكل خاص الأوسمة, والشهادات الفخرية. فقد نال الدكتوراه الفخرية من
جامعة ليون عام 1938, ونال الدكتوراه الفخرية من جامعة مونبيليه عام 1946, ومن
جامعة أكسفورد عام1950, ومن جامعة باريس عام 1950, وحصل على جائزة
"سانتوا" من فرنسا, ونيشان "اللجيون دونو" من درجة
"أوفيسيه", وكان يُدعَى لجميع مؤتمرات المستشرقين, ويُزوَّد بالتعليمات,
ويعود لبثِّ السموم في أبناء قومه.
[14] - مجلة الثقافة العربية العدد التاسع ص / 48- هكذا تكلم طه حسين لآخر
مرة - حوار بقلم / غالي شكري.
0 التعليقات:
إرسال تعليق