من معالم الوسطية (1)
رضوان محمود نموس
جاء في كتاب الحوار لكونفوشيوس أن أحد
تلاميذه سأله: (بأي شيء يبتدئ سياسته إن تولى حكم الإمارة ؟) فقال: (لا بد من
تصحيح الأسماء) فدهش التلميذ من هذا الجواب, ووقع من نفسه موقع العجب . فقال
كونفوشيوس: (إذا لم تكن الأسماء صحيحة لا يوافق الكلام حقائق الأشياء, وإذا لم يكن
الكلام موافقاً للحقائق وقع الخلط في اللغة وفسدت الأمور فلا تزهر الآداب ..
ويضطرب التفكير, ولا تنزل العقوبات على من يستحقها, وإذا لم تنزل العقوبات على من
يستحقها لا تعرف الرعية كيف يحركون أيديهم وأرجلهم. ولذلك يرى الرجل الكامل أن من
الضروري أن توافق الأسماء مسمياتها ليمكن أن يتكلم بها وأن يعمل بما يتكلم, والرجل
الكامل الخلق لا يستهين بكلامه , ولا يهمل في تعبيره. وعنايته بتعيين الألفاظ جزء من عنايته بأن يكون الشخص الكامل على
تمام المعرفة بنفسه وبحقائق الأشياء فهو يحث على المعرفة الصحيحة ويعتبرها جزءاً
غير قابل للانفصام من منهاجه الخلقي فيعتبر من كمال الفضيلة للرجل حسن إدراكه
للأمور وقدرته على فهم ما يلقى بين يديه من المسائل من غير أن يدفعه الغرور إلى
الضلال]([1]).
وبالمقابل
عرفوا السفسطة: (يعنى بها الكلام الذي فيه تمويه للحقائق, مع فساد في المنطق مع
صرف الذهن أيضا عن الحقائق والأحوال الصحيحة أو المقبولة في العقل, وتضليل الخصم
عن الوجهة الصحيحة في التفكير.)
وكثر في هذا
الزمان التلاعب بالأسماء والمسميات والمصطلحات والتضليل وممارسة (البروباغندا).
ومن هذه الأسماء التي يحاولون التلاعب بها (الوسطية) فيحللون بيع الخمر والخنزير
وأكل ما فيه نسبة ضئيلة منه تحت اسم (الوسطية), ويحللون الموسيقى والرقص والتمثيل
تحت اسم (الوسطية), ويفتون بكشف وجه وشعر المرأة تحت اسم (الوسطية), ويبيحون شراء
المساكن بالربا تحت اسم (الوسطية), ويفتون بقتال المسلمين والانخراط في الجيش
الأمريكي تحت اسم (الوسطية), ويترحمون على أئمة الكفر ولا يذكرون شهداء الإسلام
تحت اسم (الوسطية), ويوادون الطواغيت ويثنون عليهم تحت اسم (الوسطية), ويشرعنون
الديمقراطية والدولة المدنية وقبول (الآخر) أي الكافر تحت اسم (الوسطية), ويقبلون
بولاية الكافر والمرأة تحت اسم (الوسطية), ويعلنون أنهم لن يطبقوا الشريعة تحت اسم
(الوسطية), ويرخصون لدور الدعارة والخنا تحت اسم (الوسطية), ويعلنون أنهم مع فرنسا
ضد المسلمين في مالي تحت اسم (الوسطية), وأنشأوا الصحوات في العراق والمجالس
المحلية في اليمن تحت اسم (الوسطية), ويجلسون مع الكاسيات العاريات العاهرات في
المقابلات الصحفية تحت اسم (الوسطية), ولا يعترضون على البنوك الربوية تحت اسم
(الوسطية), ويلغون الجزية تحت اسم (الوسطية), ويحلون رابطة المواطنة محل رابطة
العقيدة تحت اسم (الوسطية), ويدعون إلى التعددية السياسية وتعددية المناهج تحت اسم
(الوسطية), ويقولون الحرية قبل تطبيق الشريعة تحت اسم (الوسطية), ويريدون إلغاء حد
الردة تحت اسم (الوسطية).
فما هي
الوسطية هل هي كما يتصورون حقاً؟.
هل هي نقطة
الوسط الحسابي بين الكفر والإيمان؟.
هل هي نقطة
الوسط بين حكم الله وحكم الطاغوت؟.
هل هي مودة
الكفار والركون إليهم والتحالف معهم وتبني أطروحاتهم؟.
هل هي إلغاء
حد الردة؟.
هل هي
استبدال المواطنة بالجزية؟.
هل هي هدم الحواجز بين الكفر والإيمان؟.
هل هي مذهب
أم كلثوم (كل الناس حلوين).؟.
هل هي
التشريع من دون الله؟.
هل هي
التراضي على أحكام وضعية وعدم الحكم بما أنزل الله؟.
هل هي تسليم
البلاد لطوائف الكفر والردة حتى يطمئنوا؟.
إن أصحاب
الأطروحات السابقة يزعمون أن ما يدعون إليه هو وسطية الإسلام المعتدل فهل أطروحاتهم
تمت للإسلام بصلة؟.
ما هي
الوسطية التي حددها الإسلام؟.
وماذا عنى
الإسلام بالوسطية؟.
سأبين ذلك
في عجالة وربما عدنا للبحث بشكل أوسع:
عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ
شِمَالِهِ خُطُوطًا، ثُمَّ قَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ
السُّبُلُ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ {وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَلَمْ
يُخْرِجَاهُ» المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 348) 3241
فالوسطية هي
سبيل الله هي السير وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما فهمها أصحابه
رضوان الله عليهم, وترك الكتاب والسنة للأهواء أو ما يسمونه عقول هو اتباع للسبل
التي على رأس كل منها شيطان يدعوا السالكين ويرغبهم بهذا السبيل, وهذه السبل هي
التي ستكّون الفرق التي نهى الله عنها.
عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بني إسرائيل حَذْوَ
النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً
لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بني إسرائيل تَفَرَّقَتْ
عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ
وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً»، قَالُوا:
وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»: سنن
الترمذي ت شاكر (5/ 26) 2641
وهنا يتضح معنى
الوسطية أكثر وهو الطريق التي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
رضوان الله عليهم وما خلا ذلك فهو الفرق الهالكة, ولو سمت أنفسها وسطية أو
اعتدالية, فالله تعالى يرد على أمثال هؤلاء بقوله سبحانه: { إِنْ هِيَ إِلا
أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ
سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ
جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [النجم: 23] و {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [يونس: 36]
فمن سلَّم لله ولرسوله صلى الله عليه
وسلم، وعمل بما ورد في القرآن وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقائد
والشرائع فهو من أهل هذه الوسطية والاعتدال والخير، وكلّ من تعدى حدود الشرع أو
قصَّر عن القيام بها فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب عدوانه أو تقصيره. ولقد وصف
الله تعالى هؤلاء المتجاوزون والمخالفون بقوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ
اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ } [القصص: 50]
وقال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]
قال ابن القيم: «فدين الله بين الغالي
فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم
يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً وهي الخيار العدل،
لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور، والتفريط،
والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها؛ فخيار الأمور أوساطها»([2]).
بل الإسلام قَصْدٌ بين الأديان فهو
منزه عن غلو النصارى وتقصير يهود، والسنَّة قصد بين أهل البدع فلا فيها غلو
الخوارج ولا تقصير وتمييع الإرجاء، بل في كل باب من أبواب العقيدة والشريعة هي وسط
بين مفْرِطٍ ومُفَرِطّ ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وكذلك الاجتهاد هو
بذل الجهد في موافقة الأمر،. قال بعض السلف: " ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان
فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة- وهي الإفراط- ولا يبالي بأيهما ظفر
زيادة أو نقصان ولأجل هذا أمرنا الله بلزوم الصراط المستقيم، وأن نسأله كل صلاة أن
يهدينا إليه. في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الفاتحة: والصراط
المستقيم هو غير صراط المغضوب عليهم (يهود) وغير صراط الضالين (نصارى) ونهى الله
عن تعد الحدود ومجاوزتها، والتقدم بين يدي الله ورسوله حتى لا يزاد في دين الله
بالأهواء.
وعدم الوقوف عند حدود الشريعة أنتج في
الأمة صنوفا من البدع وضروبا من الغلو وألوانا من الخروج على الدين ما كان لها أن
توجد لولا مجاوزة هذه الحدود. فأصاب الدين وأهله من المبتدعة والغلاة شر كثير.
والإفراط والتفريط آفتان لا يخلص منهما
في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك
أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم. وهذان
المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير.
ومما ينبغي الانتباه إليه ما انتشر في
الكتابات المعاصرة من جعل «الوسطية» حالة تقوم على التلفيق والتوفيق بين الكفر
والإسلام كما في دعوة التقريب بين العلمانية والديمقراطية والإسلام، والعلمانية
والديمقراطية هي من صراط الضالين والمغضوب عليهم والإسلام هو الصراط المستقيم,
فكيف تستقيم دعوى الوسطية لمن يدعو إلى صراط المغضوب عليهم والضالين؟؟!!!.
ومن الوسطية التي يدعون إليها القبول
بولاية الكافر والمرأة وهي من صراط الضالين والمغضوب عليهم.
والتحاكم إلى الصندوق والشعب هو من
صراط الضالين والمغضوب عليهم وصراط الله المستقيم يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]
ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44]
ويقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا
لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]
فكيف يدعي الوسطية من يدعو إلى حكم
الشعب والصندوق؟؟!!!!.
ومن الوسطية التي يدعون إليها الالتزام
بالشرائع الدولية وهي من صراط الضالين والمغضوب عليهم فكيف تستقيم دعوى الوسطية
لمن يدعو إلى صراط المغضوب عليهم والضالين؟؟!!!.
ومن الوسطية التي يدعون إليها إحلال
رابطة المواطنة مكان رابطة العقيدة وهي من صراط الضالين والمغضوب عليهم.
ومن الوسطية التي يدعون إليها إلغاء
الجزية ويقولون مواطنون لا ذميون وهي من صراط الضالين والمغضوب عليهم.
ومن الوسطية التي يدعون إليها حرية
تبديل الدين وإلغاء حد الردة وهي من صراط الضالين والمغضوب عليهم فكيف تستقيم دعوى
الوسطية لمن يدعو إلى صراط المغضوب عليهم والضالين؟؟!!!.
ومن الوسطية التي يدعون إليها تداول
السلطة والمناهج وهي من صراط الضالين والمغضوب عليهم.
ومن الوسطية التي يدعون إليها إلغاء
جهاد الطلب وهي من مطالب أهل صراط الضالين والمغضوب عليهم.
ومن الوسطية التي
يدعون إليها نبذ المجاهدين والتشنيع عليهم وشتمهم والدعاء عليهم وإخبار الطواغيت
عنهم وعن أخبارهم, وهذا كله مطالب لأهل صراط الضالين والمغضوب عليهم, فكيف تستقيم
دعوى الوسطية لمن يدعو إلى صراط المغضوب عليهم والضالين؟؟!!!.
ومن هذه الوسطية التي يدعون إليها الترخصات
المذمومة التي أساسها اتباع الهوى بتتبع الأقاويل الشاذة والمخالفة للدليل، والتي
قال فيها بعض العلماء: «من تتبع الرخص تزندق».
وأصحاب دعوى
(الوسطية) المزعومة يقولون {إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} ودعوى
التوفيق منهجٌ قديم سلكه المنافقون أوَّلاً كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا قِيلَ
لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُم
مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ
أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 61 - 62] ، ودرج على طريقتهم
طوائف من المبتدعة، القدامى والجدد منهم أصحاب دعوى (الوسطية).
قال ابنُ أبي
العزّ في هذه الآية: «أخبر أنّ المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره، وأنهم إذا
دُعوا إلى الله والرسول وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله صدوا صدوداً، وأنهم
يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقاً كما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة
وغيرهم: إنما نريد أن نحسن الأشياء بحقيقتها، أي ندركها ونعرفها ونريد التوفيق بين
الدلائل التي يسمونها العقليات وهي في الحقيقة جهليات، وبين الدلائل النقلية
المنقولة عن الرسول، أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة، وكما يقوله كثير من
المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن والتوفيق بين
الشريعة وبين ما يدَّعونه من الباطل الذي يسمونه حقائق، وهي جهل وضلال، وكما يقوله
كثير من المتملكة والمتأثرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها
وبين الشريعة ونحو ذلك؛ فكل من طلب أن يحكم في شيء من أمر الدين غير ما جاء به
الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمعٌ بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه فله
نصيب من ذلك، بل ما جاء به الرسول كافٍ كاملٌ يدخل فيه كل حق»([3]).
ومن هؤلاء اليوم أصحاب مسايرة الغرب
والنظام العالمي الجديد والهيئات الدولية والأمم المتحدة ولا يذكرون الله وكأنه
عندهم غير موجود ولا قادر نعوذ بالله من ذلك قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ } [الزمر: 67]
ومنهم حاله كمن
وصفهم الله تعالى بقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا *
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]
إن كثيراً منهم ونتيجة لبعده عن الله
يشعر بالضعف والهزيمة والهوان والصغار, فيبحث عن حلول الجبناء ويخترع قواعد
للتوفيق والتلفيق بين الحق والباطل, بين منهج الله ومناهج الأرض بين الصراط
المستقيم وصراط الضالين والمغضوب عليهم.
قال ابنُ القيم:
«هذه القواعد الفاسدة هي التي حملتهم على تلك التأويلات الباطلة؛ لأنهم رأوها لا
تلائم نصوص الوحي، بل بينها وبينها الحرب العوان، فأجهدوا أنفسهم، وكَدُّوا
خواطرهم في الصلح، وزعموا أن ذلك إحسان وتوفيق؛ وكأن الله ـ سبحانه ـ أنزل هذه
الآيات في شأنهم: {{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ
يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا
إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ
قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء63-60] ([4])
فالوسطية هي السير على النهج الأول
باتباع القرآن والسنة وفهمهما كما فهمهما الصحابة,
عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا،
فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ لَهَا الأَعْيُنُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا
الْقُلُوبُ، قُلْنَا أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ
مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا. قَالَ: " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ
يَرَى بَعْدِي اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ،
وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،
وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ " مسند أحمد ط الرسالة (28/ 373) 17144 وفي
رواية للنسائي في السنن (3/ 188) 1578 وَشَرُّ
الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ
ضَلالَةٌ، وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ»
فأمر بالتمسُّك بسنَّة خلفائه كما أمر
بالتمسُّك بسنته، صلى الله عليه وسلم وأخبر أنَّ المحدثات بدع وضلالة، قال الله
تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100].
وقال تعالى: { وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ
مَصِيرًا }[النساء: 115].
ولا يُراد بمصطلح "السنة" هنا المعنى الفقهي أو الأصولي، وإنما المراد به الطريقة
العامَّة والنهج النبوي وفهم النصوص وفق فهم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه
رضوان الله عليهم في العلم والعمل.
قال ابن
القيم:
العِلْمُ
قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ ** قَالَ الصَّحَابَةُ هُمْ أُولُو العِرْفَانِ
مَا
العِلْمُ نَصْبُكَ لِلخِلافِ سَفَاهَةً ** بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْلِ فُلانِ
وقال ابن
مسعود - رضي الله عنه -: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتَّبع ولا نبتدع، ولن نضلَّ
ما تمسَّكنا بالأثر"؛ [أخرجه اللالكائي].
وقال الإمام
مالك: "ولن يأتي آخِر هذه الأمَّة بأهدى مما كان عليه أولها". وقال أيضًا: "ولا يصلح آخِر هذه الأمة إلا
بما أصلح أولها".
فالسُّنَّة
وهدي السلف هو الوسطية الموصلة إلى رضوان الله، وهو الطريق الذي رسمه النبي صلى
الله عليه وسلم. ولا يُتنكب عن هذا الطريق إلا ضال بأحد سببين.
الأمر الأول: الجهل.
قال الله
تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ
خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا
اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ
مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } [الأحقاف: 21 -
23]
قال الله
تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى
اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ
وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29]
والأمر
الثاني: الهوى. قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
[الأعراف: 176]
{أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ
بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية: 23]
ونعوذ بالله من غاشيات الجهل وعواتي الهوى وشراء { الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ
الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44] ونسأله أن
يوفقنا للسير على النهج الوسط نهج الكتاب والسنة وسلف الأمة ويجنبنا الردى والضلال
إنه على كل شيء قدير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق