موقع ارض الرباط

موقع ارض الرباط
موقع ارض الرباط

الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

طبيعة الباطل ومحنة الحق


دراسات عامة
طبيعة الباطل ومحنة الحق

رضوان محمود نموس

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، الحمد لله الذي فرض على المؤمنين الجهاد وحضهم على البذل والإعداد، فقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }الأنفال60 وقال تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}التوبة36 وقال أيضاً: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ}البقرة217 والصلاة والسلام على خاتم النبيين إمام المرسلين وقائد المجاهدين وعلى آله وصحبه الغر الميامين القائل وخير الهدي هديه: {واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف}([1]) والقائل: {أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة}([2]) والقائل: {بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم}([3]) وبعد ..
فإنه وهم كبير وسراب خطير ذلك الظن الذي يزعم أصحابه أنه يمكن للحق والباطل وللإيمان والكفر أن يتعايشوا على هذه الأرض بسلام وأمان ولا ريب أن هؤلاء مخدوعون أو مخادعون أو أنهم تركوا الحق للباطل وأسلموه الراية ابتداءً، ذلك لأن الكفر لا يستطيع أن يرى الحق، أو يقبله شريكاً إلا إذا أصبح الحق باطلاً وبالتالي لا بد من محاولات طمس الحق، وتغيير لونه وإطفاء نوره، وهنا إما أن يدافع أهل الحق والإيمان عن إيمانهم أو أن يتنازلوا عن هويتهم ويسمحوا للكفر بإطفاء النور، وإسدال ستائر الكفر والعيش معه في أوكار الرذيلة والظلام، أو يتركوا بصيصاً من النور لخداع الناس وتضليل الرأي العام.
وبنظرة سريعة على تاريخ البشرية نرى ما يؤكد مصداقية هذا القول، فمنذ وطأت قدما آدم الأرض عليه وعلى نبينا السلام هبط معه عدوٌ له ولنا وبدأ الصراع الأبدي بين عباد الرحمن وبين الشيطان وقبيله وأتباعه، هذا الصراع الذي تفجر عندما رفض الشيطان الإذعان لأمر الله عز وجل بالسجود لآدم، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ*فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}البقرة 34 – 36
عندها حصل الشيطان اللعين على وعد من رب السموات والأرض بأن ينظر إلى يوم القيامة ليخوض الحرب الطويلة والصراع الدائم ضد آدم عليه السلام وضد أبنائه المخلصين،
{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ* إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ*قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}الحجر 36- 40
وأقسم أن يثيرها معركة شعواء شرسة دون هوادة ويستخدم فيها كافة إمكاناته وقدراته وأسلحته {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}الأعراف 16- 17
ومضى يجند قواته ويحشدها غير غافل عن المعركة الطويلة {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} الإسراء62
وهكذا سار الصراع على الأرض مع إبليس وقبيله ونوابه من أبناء آدم عليه السلام الذين تفوقوا في كثير من الأحيان على سيدهم بأساليب البطش والتنكيل والغدر، والمكائد، وبين عباد الله {... وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }الأنعام121
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}الأنعام112
هابيل ومعه التجربة الأولى أخلص العبودية لله لم يحمل سلاحاً، لم يشاكس أخاه، ولأنه حمل دعوة الحق ومضى، مسالماً في الطريق ولأن الله سبحانه وتعالى هو الحق ومع الحق تقبل قربانه.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}المائدة 27 – 28
وانزوى قابيل مع شيطانه يتحرق غيظاً وحسدا، وبدأت نزوات الباطل تجابه مسيرة الحق، ولأنه لا يملك دفع الحجة بالحجة، ولأن الحق أبلج والباطل لجلج، فقد قرر التصدي لدعوة الحق بالقوة، وسن سنة الباطل ورسم قانون الطغيان.
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}المائدة30
مع نوح عليه السلام تعمقت التجربة أكثر وكونت لديه القرون العشرة التي مر بها داعياً إلى الله مع ما يلاقيه من صدود واستكبار وتعنت وتجبر قناعة راسخة بوجوب محق الكفر وتطهير الأرض من أدرانه {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً* .... قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً* ... وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً}سورة نوح
وتتابع الصراع بين الحق والباطل مع أقوام آخرين وفي بقاع شتى وتكون لدى الحق قناعة راسخة يؤيدها الوحي بأنه لا بد من مفاصلة الكافرين والتميز عنهم، فليس الكفار من جنس المؤمنين، فهما عنصران متنابذان لا يلتقيان إلا بأن يتخلى أحد العنصرين عن خصائصه ومميزاته.
قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}البقرة:120
وقال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ}البقرة105
فعلى المؤمنين أن يتميزوا عن الكفار كما أمرهم ربهم فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}الكافرون 1- 6
وهكذا فعل إبراهيم عليه السلام {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}الممتحنة4
ولا يكفي للحق أن يكون حقاً بل لا بد له من قوة تحمي هذا الحق وتردع ذلك الباطل وتضع حداً لعربدته وطغيانه، فالباطل لا يفهم إلا لغة القوة ولهذا قال لوط عليه والسلام { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ }هود80 ولقد جاء في الحديث {فما بعث الله بعده نبياً إلا في ثروة من قومه}([4])
وفي رواية (ذروة من قومه) قال محمد بن عمرو ([5]) الثروة: هي الكثرة والمنعة.
نعم إن الباطل لا يفهم إلا لغة القوة ولا يرى إلا بريق السيوف، ولا يسمع إلا هدير المدافع وهو أصم أعمى عن الحق المسالم، عن الحق الضعيف فهؤلاء قوم شعيب عليه السلام {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ* قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}هود 91- 92
هذه هي قدرة الباطل على الفهم، إنه يفهم القوة المحسوسة فقط ولو رأى ألف ألف حكمة يدوسها بقدمه ولو رأى مخلباً واحداً يرجع إليه أدبه حتى حين.
ولما وعى شاعرنا هذه الحقيقة من خلال القرآن ومما رأى شخصياً، أنشد قائلاً:
هذا تراث المسلمين فبعضه *** يزجى علانية وبعض يسرق
عجز الحماة فنائم متقلب *** فوق الحشية أو مغيظ محنق
القوم صم في السلاح وقومنا *** مستصرخ يعوي وآخر ينعق
إن كنت ذا حق فخذه بقوة *** الحق يخذله الضعيف فيزهق
لغة السيوف تحل كل قضية *** فدع الكلام لجاهل يتشدق
وكن اللبيب فليس من كلماتها *** شرع يداس ولا نظام يخرق
الخيل والرهج المثار حروفها *** والنار والدم والبلاء المطبق([6])
لا رادع للباطل إلا القوة، ولا مانع له إلا الخوف، هذه هي طبيعة الباطل منذ خلق وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهكذا مع كل الرسل والأنبياء يأبى الباطل إلا أن يدس رأسه في التراب ويركب شيطانه لينازل دعوة الحق، ولطالما مني بالهزائم ولا متعظ.
فرعون، ثمود، عاد، أمم شتى أبيدت، زلزلت الأرض بها، أغرقت، أتى عليها جند من السماء، ولكن إبليس وجنوده مصممون على خوض المعركة حتى النهاية وعندما ينظم الباطل نفسه ليجابه الدعاة إلى الله ويفتك بعباد الرحمن، لا بد لأهل الإيمان من أن ينظموا أنفسهم لتبليغ دعوتهم وللوقوف في وجه الباطل ولينفذوا التكليف الإلهي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكونوا بنياناً واحداً يشد بعضه بعضا، فالفوضى لا تجابه التنظيم، والشتات لا يجابه القوة، والبدع لا تصمد أمام الكفر، والجماعات المتفرقة المتناحرة ليس لها لسان يدعو إلى الحق لأنها هي على الباطل ولا تستطيع الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله لأنها هي تتبع الأهواء، من أجل هذا طلب بنو إسرائيل ملكاً ينظمهم ويقودهم إلى الحرب، ويجمع شملهم ويلم شعثهم، ويوحد كلمتهم ويخلصهم من أمراضهم ليجابهوا  الكفر بعد ذلك.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ...*  وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ...}البقرة 246-247
ولكن هل يقاتل هذا القائد المؤمن أعداءه الكفرة بمن معه؟!! أو بمن تأتى له جمعه؟! بغثه وسمينه، بصالحه وطالحه، أم لا بد من تمييز الصف وضبطه وتنقيته من الشوائب، وتصفيته من العكر، قدر الطاقة البشرية والله يدعونا لذلك فيقول: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }آل عمران179
لذلك عمد الملك المؤمن طالوت إلى تنقية صفه {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }البقرة: 249
قال ابن كثير في تفسيره: قال السدي: كان الجيش ثمانين ألفاً فشرب منه ستة وسبعون ألفاً وتبقى معه أربعة آلاف.
وقد روى الطبري بسنده عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر، على عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوزه إلا مؤمن، وروى البخاري عن عبد الله بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن جده عن البراء بنحوه، ولهذا قال تعالى: {فلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}البقرة: 249
نعم شجعهم علماؤهم العاملون الذين كانوا معهم في المعركة ولم يثبطوهم، ويصفوهم بالإرهاب والخوارج والتطرف من مكاتب الإفتاء الحكومية، ولم يحرفوا كلام الله ويدعوا إلى طاعة الطواغيت، وحوار الأديان، والالتزام بقوانين الكفر، والسير تحت راية العلمانية ولم ينعتوهم بالغلاة والتعصب، بل شجعوهم حتى سارت العصبة المؤمنة المتعلقة بالله عز وجل التي عمر قلبها الإيمان فظنت بالله الظن اللائق وعلمت أن النصر من عنده تبارك وتعالى، ودارت الدائرة على الذين كفروا وانكشفت المعركة عن نصر المؤمنين {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يشاء } البقرة: 251
إذا كان هذا مع أناس ظاهرهم الإسلام فما بال أقوام يتحالفون مع الكفار الذين يعلنون كفرهم ليسيروا معهم سوية، أو ليشتركوا معهم في الحكم، بل ليكونوا تحت مظلتهم لأنه لا يسمح للمظلة الإسلامية أن ترتفع في البلاد التي يحكمها حكومات يسمونها إسلامية؛ زعموا!! وآخرون يغيرون اسمهم لأن في اسمهم شيئاً يشير إلى الإسلام وهذا يؤذي آذان قادة الكفر العالمي حتى الاسم الذي يشم منه رائحة إسلام ممنوع.
بل طلب رسمياً من بعض الناس أن لا يقولوا في إعلامهم لفظ مجاهد ويستبدلونها بلفظ مناضل، لأن الجهاد له وقع لا ترتاح له نفوسهم، كل ذلك حتى يتكرم الباطل، بالموافقة على الجلوس مع الحق الذي شوهوه،!! ليست هذه والله سنة المتقين !!
وبعث محمد صلى الله عليه وسلم وكان أمر الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ} المدثر 1-2.
وثار الباطل وارتعد، وأنكر وأرغى وأزبد، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم له رهط وقبيلة قوية.. فما العمل؟
وكان قرارهم اذهبوا إلى أبي طالب يقنعه بالعدول عن دعوته، فقال: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا، فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق([7])
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك أن تشعلوا لي منها شعلة} يعني الشمس([8])
وتنطلق دعوة الإيمان عذبة نقية، الحكمة منطقها، والموعظة الحسنة سبيلها، تطرق أبواب القلوب، وتأخذ بالأيدي إلى النجاة، تدعو الناس إلى الجنة، إلى عبادة الواحد الأحد، إلى الانعتاق من عبادة الطواغيت.
فما كان رد الباطل إلا التجويع والأذى والحرمان والاضطهاد، والتعذيب والتآمر.
نعم .. إنها سنة الطواغيت، كما أخبر بها ورقة بن نوفل عندما جاءه النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها وأخبره الخبر فقال: {هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا}([9])
إنها سنة الباطل في حرب الحق، عليها نشأ وترعرع وشب وصلب، وعليها يعيش وعليها يموت وعليها يبعث، والنار مثواه إن شاء الله.
ولكن دعوة الله ماضية صابرة محتسبة، لم يزدها طغيان الباطل إلا ثباتاً وإيماناً، وبما أن المبطلين لا يستطيعون رؤية الحق، ولو كان هذا الحق وديعاً مسالماً، ولو كان هذا الحق جاء لإنقاذهم وإسعادهم في الدنيا والآخرة، فهم لا يقبلونه، واسمع ردهم عليه:{وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الأنفال32
صورة من صور الباطل، وقد ألقى براقعه وثياب التمويه والتدليس، أظهره الحق على حقيقته عارياً من كل شيء، عارياً من الخلق، عارياً من الفضيلة، عارياً من العقل والمروءة، مشبعاً بالعار والتسلط، والتكبر والتجبر، إن كان هذا هو الحق لا نريده ولا نقبل به، بل إن لم يكن مناط من أن هذا الحق فأمطر عينا حجارة وعذاباً وموتاً أي شيء، ولكن لا نقبل الحق، وليست هذه عقلية كفار قريش فقط، إنها قانون الكفر والباطل ومنهج الضلال والظلم في كل زمان ومكان، وإليك مثال من أقوال أهل الكفر يقول الشيعة في تبيان الفرق بينهم وبين أهل السنة: [إنا لم نجتمع معهم على إله ولا على نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون أن ربهم هو الذي كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيه وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، بل نقول إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا]([10])
نفس المنطق، إذا كان الله الذي أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وكان خليفة محمد أبا بكر لا نؤمن بهذا الرب ولا بهذا النبي، تشابهت قلوبهم !!
إذاً لا بد من القتل؛ من قتل الحق، ووأده، فكانت كلمة الفصل في مؤتمرهم الآثم -وكذلك مؤتمرات الطواغيت- لأبي جهل [أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسطاً فتياً ثم يعطى كل منهم سيفاً صارماً ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة واحدة]([11])
هذا هو جواب الباطل على الكلمة الطيبة، سيل من النبال والرماح والسيوف، هذا رد حقد الكفر على صفاء الإيمان إنها طبيعة الباطل ومحنة الحق، ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ويبدأ عهد جديد وتكون بواكير هذا العهد {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }الحج39
أذن للمؤمنين بمواجهة الباطل بلغته الوحيدة التي لا يفهم سواها فهي الدواء الناجح لذلك الداء، وتنمو العصبة المؤمنة وعين الله ترعاها، وها هي قافلة قريش في الطريق وقوة الباطل تستعد للهجوم وتقسم على مجابهة الحق، ولقد حدد الباطل أهدافه بجلاء ودونما لبس فقال أبو جهل: [والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم عليها ثلاثاً فننحر الجزور ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب]([12])
طعام وخمور ومزامير وخنا وفساد وخيلاء وتكبر؛ هذه هي أهداف الباطل ووسائله وغاياته، فهل يمكن أن تلتقي أو تتقاطع هذه الأهداف مع الحق؟ لا والله.. لقد كان أبو جهل صريحاً واضحاً مع أهدافه، وهي أهداف الطواغيت جميعاً فهل من متعظ؟!!
لم يقبل أبو جهل بالرجوع بل أقسم على الاستمرارية، ومضى أمر الله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }الأنفال7 فطريق الجهاد قد بدأ ولن يتوقف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أشيروا علي أيها الناس} وكان الجواب: { والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا} ([13])
وكان يوم الفرقان يوم أن فرق الله فيه بين الحق والباطل وسيبقى كلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد في عقول وقلوب المؤمنين الصادقين ليتحول إلى إصرار وعزيمة وإرادة، وتمضي مسيرة الجهاد قوية لتطهر الأرض من أدران الجاهلية.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الأنفال39
وتبقى مسيرة الإيمان تغذ السير إلى الله لا يضرها من خالفها، مستنيرة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تحيا بالقرآن وبيمينها السنان إلى أن تلقى الله، فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحديد25
فأخبر أنه أرسل الرسل وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط وذكر انه أنزل الحديد الذي ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي والسيف ينصر  {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} الفرقان31
وقال صلى الله عليه وسلم {لن يبرح هذا الدين قائماً تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة}([14])
وخرج البخاري عن مُعَاوِيَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» قَالَ عُمَيْرٌ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ ([15]).
عصابة وليس عصابات، جماعة وليس جماعات، وما هو مصير هذه العصابة في خضم بحار الجاهلية، إنها تعرف المصير وتسير على بينة من أمرها راضية بالنتائج متوكلة على الله، لا يضرها كيد الكائدين ولا تثبيط المثبطين، ولا غلو الغالين، ولا شطحات الضالين، ولا تنظير القاعدين، ولا فلسفات المنحرفين، ولا تخاذل المتخاذلين بل تقول: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ }التوبة52



[1] -  متفق عليه
[2] - مسند أحمد 4/395
[3] - مسند أحمد 2/5 
[4] -  مسند أحمد /27516
[5] - محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي
[6] - من قصيدة للشاعر أحمد محرم مطلعها : من هيبة يغضي القريض ويطرق *** ويميل فيك إلى السكوت المنطق
[7] - البداية والنهاية: 3/46.
[8] - سلسلة الصحيحة 92.
[9] - صحيح البخاري 3.
[10] - الأنوار النعمانية 2/ 278.
[11] - البداية والنهاية 3/ 176.
[12] - سيرة ابن هشام: 618.
[13] - صحيح مسلم 1779.
[14] - مسلم برقم: 192 
[15] - صحيح البخاري (4/ 207برقم 3641):


0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites

 
x

أحصل على أخر مواضيع المدونة عبر البريد الإلكتروني - الخدمة مجانية

أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا:

هام : سنرسل لك رسالة بريدية فور تسجيلك. المرجوا التأكد من بريدك و الضغط على الرابط الأزرق لتفعيل إشتراكك معنا.