دراسات في الحاكمية(1)
رضوان محمود نموس
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (
) يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا % يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (.
وإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار، أجارنا الله والمسلمين منها، ومن مسبباتها، ودواعيها ودعاتها.
قال الله تعالى: ) وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (([1]).
إفراد الله بالحكم ركن من أركان التوحيد
فكما أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت فهو الحَكَم, وكما أنه يكفر من يقول إن فلاناً يخلق مع الله, فكذلك يكفر من يقول إن لفلان الحق في الحكم مع الله. والآيات التي تثبت أن الحكم لله وحده كثيرة جداً؛ بل إن القرآن كله يقرِّر هذه الحقيقة الأساس وهو أن الحكم لله.
قال تعالى: ) إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ أَمَرَ ألا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (([3]).
وقال تعالى: ) إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (([4]).
وقال تعالى:) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (([5]).
وقال تعالى:) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (([6]).
وقال تعالى: ) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ(([7]).
وقال تعالى: ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا % وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا % فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا % أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَولا بَلِيغًا % وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا % فلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (([8]).
وقال الله تعالى: ) فلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ولا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ %..... وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُون َ% أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ % يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين (َ([9]).
وقال تعالى:) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (([10]).
وقال الله تعالى: ) وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (([11]).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: { مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ }([12]).
والدلالة فيه أن الذين يفعلون ما لا يؤمرون به من قبل الرسل ويخالفون الرسل يُجَاهَدُون, ومن لا يُجَاهِدهم ولا حتى بقلبه ينتفي عنه الإيمان, فانتفاء الإيمان عن من يخالفون الرسل من باب أولى.
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَقِيتُ عَمِّي وَمَعَهُ رَايَةٌ فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ: {بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَه }([13]).
والعبرة فيه كما قال ابن تيمية أن تخميس المال دل على أنه كفر بفعله ولم يفسق, لأنه لم يحرم ما حرم الله ورسوله.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به }([14]).
ولقد نقل عدد كبير من العلماء الإجماع على كفر من حكم بغير ما أنزل الله.
قال ابن تيمية: [ والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه, أو حرم الحلال المجمع عليه, أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً باتفاق الفقهاء ] ([15]).
وقال: [ إن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى ] ([16]).
وقال ابن كثير: [ فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ] ([17]).
وقال ابن عبد البَر: [ وقد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا أنزله الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر ] ([18]).
وقال محمد بن المرتضى اليماني،: [ وثانيهما إجماع الأمة على تكفير من خالف الدين المعلوم بالضرورة والحكم بردته إن كان قد دخل فيه ] ([19]).
وقال محمد أنور شاه الكشميري: [ وثانيهما إجماع الأمة على تكفير من خالف الدين المعلوم بالضرورة والحكم بردته ] ([20]).
وقال الشيخ عبد الله القلقيلي في الفتاوى الأردنية: [ من المجمع عليه بين المسلمين أن من استحل محرماً علمت حرمته بالضرورة من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين فقد كفر، يستتاب فإن تاب وإلا كان حكم القتل الذي هو حكم المرتد، وإن هذا هو حكم من استحل المحرمات وإن لم يفعلها ] ([21]).
وقال ابن باز: [ أجمع علماء الإسلام على كفر من استحل ما حرمه الله أو حرم ما أحله الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة ومن تأمل كلام العلماء في جميع المذاهب الأربعة في باب حكم المرتد اتضح له ما ذكرنا ] ([22]).
ولقد أجمع علماء الأصول في مباحثهم عن الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه على أن الحُكْمَ هو: "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع" ([23]).
وأما عن الحاكم: فلم يختلف المسلمون في أن مصدر جميع الأحكام التكليفية والوضعية هو الله سبحانه وتعالى، بعد البعثة وبلوغ الدعوة، سواء كان ذلك بطريق النص من كتاب أو سنة أم بواسطة الفقهاء والمجتهدين، لأن المجتهد مُظهِرٌ للحكم وليس مُنشِئَاً له من عنده ؛ لهذا قالوا: الحكم هو خطاب الله تعالى... وقالوا: لا حكم إلا لله، أخذاً من قوله تعالى: ) إن الحكم إلا لله (.
كما أجمع الفقهاء جميعاً على أن من رد أو دفع شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله الثابتة يصبح بهذا الفعل مرتداً وتجري عليه أحكام المرتدين([24]).
وقام عدد كبير وكبير جداً من العلماء يتعذر إحصاؤهم بالكتابة في هذا الموضوع. نذكر بعضاً منهم بما يسمح به المقام.
[2]- سورة الأنعام: 57.
[3]- سورة يوسف: 40
[4]- سورة يوسف: 67.
[6]- سورة القصص: 88.
[7]- سورة غافر: 12.
[8]- سورة النساء: 60 - 65.
[9]- سورة المائدة: 44 – 51.
[23]- يراجع مثلا الأحكام للآمدي (1 / 49), حاشية البناني على شرح جمع الجوامع (1 / 40), شرح العضد (1 / 220), التلويح على التوضيح (1 / 13), غاية الوصول شرح لب الأصول ص / 6, حاشية الأزميري على مرآة الأصول (1 / 31), فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (1 / 54), المنهاج للبيضاوي مع الأسنوي (1 / 38), إرشاد الفحول (1 / 56).
[24]- يراجع في هذا كتاب المرتد في جميع كتب الفقه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق