عندما يكون العالم موظفاً عند الطاغوت
رضوان
محمود نموس(أبو فراس)
روي عن ابن مسعود أَنه قال: ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العِلْم
بالخَشْية؛ قال الأَزهري: ويؤيد ما قاله قولُ الله عز وجل: إِنما يخشى اللَّهَ من
عباده العُلَماءُ. وقال بعضهم: العالِمُ الذي يَعْملُ بما يَعْلَم، قال: وهذا يؤيد
قول ابن عيينة.
وعن الوظيفة قال في لسان العرب وظف: الوَظِيفةُ من كل شيء: ما يُقدَّر له
فـي كل يوم من رِزق أَو طعام أَو علَف أَو شَراب، وجمعها الوَظائف والوُظُف. و
وَظَف الشيءَ علـى نفسه و وَظَّفَه توظِيفاً: أَلزمها إِياه.
والأَجيرُ: المستأْجَرُ، وجمعه أُجَراءُ. والاسم منه: الإِجارةُ، و الأُجْرَةُ:
الكراء، تقول: استأْجرتُ الرجلَ، فهو يأْجُرُنـي أَي يصير أَجيري. و أْتَجَر علـيه
بكذا:
وهنا يمكننا أن نفرق بين العالم والأجير الموظف, فالعالم هو من يستخدم علمه
الذي وهبه إياه الله تعالى؛ في مرضاة الله, والحمية عن الحق, ونصح المسلمين,
والنضال دون الدين أن يقتحم عرينه, أو تشوه مفاهيمه, أو ينقل مناره وصواه, أو يُعتدى
على حماه, فلهذا يكون العالم هو أشدّ الناس خشية لله, قال تعالى: {إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} وقال
الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ
الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم }.
أما من يؤجّر نفسه وعلمه للطاغوت, فهو عبد أو موظف وأجير, يخدم من اكتراه, ويسعى
بهوى مولاه, بل أسوأ أنواع الأجراء؛ ويعتبره سيده من سقط المتاع, لأنه باع الذي لا
يباع, فضيع دينه ومتبعيه وضاع, فهو أسوأ من بائعات الهوى وبائعي الشرف؛ لأنه لقاع
الهاوية انجرف, فجرم أولات وأولئك يعود عليهن وعليهم, وإن كان له آثار على المجتمع,
وجرم بائع الدين, يعود خطره على العالمين, فَغَشَّ الأمة ودينها ودنياها, وحاضرها
ومستقبلها وأُخراها, وضلَّل الجهلة والعوام, وأعطى حجة للمغرضين والطغام, وساهم مع
جنود إبليس, في الغواية والتدليس, وكان عوناً للكافرين, وحرباً على المؤمنين, تأسى
بأحبار النصارى ويهود, وما صان لله ورسوله عهود, وقد ذمّ الله تعالى أمثال هؤلاء فقال:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون}.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: [هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب
الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه
وسلم وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره فإذا أرسله الله تابعوه
فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف
والحظ الدنيوي السخيف فبئست الصفقة صفقتهم وبئست البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير
للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ويسلك بهم مسلكهم فعلى العلماء أن
يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح ولا يكتموا منه شيئا
فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار".
وهنا مجرد أن كتموا, أما إذا حرَّفوا وبدَّلوا, ولَووا أعناق النصوص وغيّروا,
وسايروا الكافرين والمرتدين, ونصروهم وهاجموا المؤمنين المجاهدين, فمن الدين قد
خرجوا, وفي الزندقة قد ولجوا, وأصبحوا جزءً من منظومة الحرب على الإسلام, وبوقاً
لأهل الكفر والإجرام, وأحلوا أعراض أنفسهم ودماءهم, والنار مثوىً لهم.
خطورة
انحراف العلماء
غدا العابثون كثرًا, والعبيد أكثر, وكل منهم يريد تطويع الدين لرغبة سيده,
يتعاملون مع دين رب العالمين؛ وكأنه معجون أو طين, يشكلونه حسب رغبة الطواغيت المرتدين, أو القوى
الدولية من الكافرين, ينفذون أمر القوى الآمرة أو الدافعة, لذلٍّ أو لجبنٍ خالع,
أو لهوىً ومصالح ومطامع, وهؤلاء وأمثالهم قال الله تعالى فيهم: {وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا
أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ
وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [الأنعام: 70] والمتتبع لفقهاء
الطواغيت وشيوخ القنوات, يرى العجب العجاب, وممكن أن يستصغر جرائم عبد الله بن أبي
وأبي عامر الفاسق, ويراها أدق من الشعر؛ أمام جبال جرائم علماء الطواغيت وشيوخ
القنوات, وعملاء القوى العالمية دعاة الاعتدال المتأمرك, فهؤلاء امتزج عندهم الهوى
والعمالة, والنفاق, والماسونية وعبادة الطاغوت والشقاق, والجهل والتجاهل والتغابي
المريع, والتنطع والتعالي والتعالم الفظيع, والتخنث الفكري والظلم والفجور, والحيف
والميل والجور, والتباهي والتزاهي والغرور, وتكبر المصيبة وتزداد, ويلفح هجيرها
الأكباد, عندما يكون الخلط والتلبيس, والدجل والتدليس, من رجال يشار إليهم
بالبنان, وأسلموا ألسنتهم إلى الشيطان, ليحلل ويحرم باسمهم, ويرمي العباد والدين
عن كتفهم, وأصل الفتوى توقيع عن رب العالمين, فزوَّروها وأصدروها كما تريد
الشياطين, فهل يعلم هؤلاء أي جريمة اقترفوا, وبأي ثوبٍ التحفوا, ولمن خانوا, ولمن
دانوا, وما هو مصيرهم, يوم تسكت ألسنتهم وتتكلم جوارحهم.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ
الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ "([1]).
وعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ تَحْتَ
مِنْبَرِ عُمَرَ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ أَخْوَفَ
مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ.([2]).
وعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ» - أَوْ قَالَ: - " إِنَّ
رَبِّي زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ
مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا ، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ
الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا
يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَلَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى
أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي: يَا
مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً، فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَلَا أُهْلِكُهُمْ
بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَلَا أُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى
أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ
بَيْنِ أَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ بِأَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ
يُهْلِكُ بَعْضًا، وَحَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا، وَإِنَّمَا
أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي
أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقُومُ
السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى
تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي
كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ
النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى
الْحَقِّ «ظَاهِرِينَ» لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ
اللَّهِ"([3]).
وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ،
حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ
ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ ذَكَرْتَ
الدَّجَّالَ غَدَاةً، فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي
طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَقَالَ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، ...)([4]).
ثم بين الحديث الآخر أي شيء يخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته
غير الدجال وأكثر من الدجال؛ فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ
عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِنَ الدَّجَالِ أئِمَة مضلين"([5]).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غير الدجال أخوفني عليكم) هكذا هو في
جميع النسخ والمعنى غير الدجال أخوف مخوفاتي عليكم, أي أخاف عليكم أكبر وأكثر
الخوف من غير الدجال؛ أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون, معناه أن الأشياء
التي أخافها على أمتي أحقها بأن تُخاف الأئمة المضلون, فغير الدجال وهم الأئمة
المضلون؛ أشد موجبات خوفي عليكم, وقال النووي في شرحه على مسلم [وَأَمَّا مَعْنَى
الْحَدِيثِ أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلُّونَ مَعْنَاهُ
أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَخَافُهَا عَلَى أُمَّتِي أَحَقُّهَا بِأَنْ تُخَافَ
الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ ]([6]).
وهؤلاء في أحسن أحوالهم خَلَفٌ لضال بني إسرائيل, أو من أشار إليه التنزيل,
في قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا
فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ
شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ
تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ *مَنْ يَهْدِ
اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ *
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ
كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 175 - 179]
قال ابن كثير:[ وأجمعوا على أن بلعام بن باعورا أعان الجبارين بالدعاء على
موسى... ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها في التوراة. واختلف في تعيين الذي أوتي الآيات.
فقال ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن باعوراء, ويقال ناعم, من بني إسرائيل في
زمن موسى عليه السلام, وكان بحيث إذا نظر رأى العرش. وهو المعني بقوله "واتل
عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا" ولم يقل آية, وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف
محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث أنه كان أول من صنف كتابا في أن
"ليس للعالم صانع". قال مالك بن دينار: بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك
مدين ليدعوه إلى الإيمان; فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى; ففيه نزلت هذه
الآيات. وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده
حيث قال: ... حدثنا جندب البجلي في هذا المسجد أن حذيفة يعني بن اليمان رضي الله
عنه حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ
القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ
منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك" قال: قلت يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال
"بل الرامي" هذا إسناد جيد.]([7]).
وقال ابن الجوزي: [ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين
ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك وربما رخَّصوا لهم فيما لا رخصة
لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضا فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه:
الأول: الأمير يقول لولا أني على
صواب لأنكر عليّ الفقيه وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي.
والثاني: العامي أنه يقول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله فإن
فلانا الفقيه لا يبرح عنده.
والثالث: الفقيه فإنه يفسد دينه بذلك وقد لبس إبليس
عليهم في الدخول على السلطان فيقول إنما ندخل لنشفع في مسلم وينكشف هذا التلبيس
بأنه لو دخل غيره يشفع لما أعجبه ذلك وربما قدح في ذلك الشخص لتفرده بالسلطان ومن
تلبيس إبليس عليه في أخذ أموالهم فيقول لك فيها حق ومعلوم أنها إن
كانت من حرام لم يحل له منها شيء, وان كانت من شبهة فتركها أولى.]([8]).
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى
يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا
أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ
عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ([9])
"
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: {لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ
عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَوَاكَلُوهُمْ
وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ {
عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ } قَالَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ
مُتَّكِئًا فَقَالَ لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى
الْحَقِّ أَطْرًا }([10]).
واجب
العلماء
إن الواجب المتحتِّم على العلماء هو الصدع بالحق, وعدم خشية الخلق, فالرزق
مقسوم, والأجل محتوم, والجبن عار, والخيانة إلى النار, والسكوت على الباطل خيانة
للميثاق, فإن كان عن رضى فهي مشاركة في الجريمة وشقاق, {وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
[النساء: 115]
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ سيد الشهداء حمزة
بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله.}([11]).
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: [أَجْهَلُ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ مَا
يَعْلَمُ, وَأَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ, وَأَفْضَلُ النَّاسِ
أَخْشَعَهُمْ لِلَّهِ] ([12]).
قال ابن المبارك: [أخبرنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه يقول: أتي
برجل من أفضل أهل زمانه إلى ملك يفتن الناس على أكل لحوم الخنازير, فلما أتي به
أعظم الناس مكانه, وهالهم أمره, فقال له صاحب شرطة الملك ائتني بجديٍ تزكيه تذبحه
مما يحل لك أكله فأعطنيه, فإن دعا بلحم الخنزير أتيتك به فكله, فذبح جديا فأعطاه
إياه, ثم أتى به الملك فدعا بلحم الخنزير فأتاه صاحب الشرطة بلحم الجدي؛ الذي كان
أعطاه إياه, فأمره الملك بأكله فأبى, فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه ويأمره أن يأكله
ويريه أن اللحم الذي دفعه إليه, فأبى أن يأكله, فأمر به الملك صاحب الشرطة أن
يقتله, فلما ذهب به قال ما منعك أن تأكل وهو اللحم الذي دفعت إلي أظننت أني أتيتك
بغيره, قال: لا قد علمت انه هو؛ ولكني خفت أن يفتتن الناس بي, فإذا أريد أحدهم على
أكل لحم الخنزير قال قد أكله فلان؛ فيستن بي فأكون فتنة لهم. فقتل رحمة الله عليه]([13]).
قال الإمام ابن تيمية: [وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله, وأنزل به
كتبه, وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله, والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على
العلماء, فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل, ويؤمن به ويبلغه ويدعو إليه, ويجاهد عليه,
ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع الباطنة والظاهرة
بكتاب الله وسنة رسوله, غير متبعين لهوى من عادة, أو مذهب أو طريقة أو رئاسة:]([14]).
وقال النووي:[ إذ الحق لا يدفعه
باطل الشبهات، والسنن الثابتة لا يسقطها فاسد التأويلات، ومع كون هذه المسألة ليس
فيها التباس, فربما خفي حكمها عن بعض الناس، ممّن قصر فهمه، وقل بأحكام الشرع علمه،
وقد أوجب الله على العلماء أن ينصحوا له فيما استحفظهم، ويبذلوا الجهد فيما قلدهم،
وينهجوا للحق سبل نجاتهم، ويكشفوا للعوام عن شبهاتهم، لاسيما فيما يعظم خطره،
ويبين في الدين ضرره، ومن أعظم الضرر؛ إثبات قول يخالف مذهب السلف من أئمة
المسلمين]([15]).
قال ابن حزم:[ إذ يقول الله تعالى على لسان نبيه صلى
الله عليه وسلم ليبينه للناس ولا يكتمونه ومن لبس الحقائق فقد كتمها]([16]).
ليعلم
المفتي عمَّن يوقع؟!!.
قال الإمام ابن القيم:[ فصـل: ما يشترط فيمن يوقع عن الله ورسوله: ولما كان
التبليغُ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدقَ فيه، لم تصلح مرتبة
التبليغ بالرواية والفُتْيَا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالماً بما يبلغ،
صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حَسَنَ الطريقةِ،
مرضِيَّ السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه
وأحواله؛ وإذا كان مَنْصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنْكَر فضله، ولا
يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض
والسموات؟
فحقيق بمن أقِيمَ في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عُدَّته، وأن يتأهب له أُهْبَتَه،
وأن يعلم قَدْرَ المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصَّدْع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب
الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ} [النساء: 127] وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالة؛ إذ يقول
في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء:
176] وليعلم المفتِى عمن ينوب في فَتْوَاه، ولْيُوقِنْ أنه مسؤول غداً ومَوْقُوف
بين يدي الله.]([17]).
وقال رحمه الله:[ ...ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى؛ فإن فَتْوَاه شريعة
عامة تتعلق بالمستفتي وغيره. وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم
عليه وله؛ فالمفتي يفتي حكماً عاماً كلياً أنَّ مَنْ فَعَلَ كذا ترتب عليه كذا،
ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاء معيناً على شخص معين، فقضاؤه خاص
مُلْزِم، وفتوى العالم عامة.]([18]).
وقال الإمام ابن الصلاح في أدب المفتي:[ بيان شرف مرتبة الفتوى وخطرها
والتنبيه على آفاتها وعظيم غررها ليعلم المقصر عن ماذا قصر, والمتجاسر عليها أنه
على النار يجرأ ويجسر, وليعرف متعاطيها المضيع شروطها أنه لنفسه يضيع ويخسر... عن أبي
الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال إن العلماء ورثة الأنبياء فأثبت للعلماء خصيصة فاقوا بها سائر الأمة وما
هم بصدده من أمر الفتوى يوضح تحققهم بذلك وغائبا ولذلك قيل في الفتيا إنها توقيع
عن الله تبارك وتعالى.... وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال من أفتى الناس
في كل ما يستفتونه فهو مجنون وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه وروينا عن أبي حصين
الأسدي أنه قال إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله
عنه لجمع لها أهل بدر. ... وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه سئل عن مسألة فسكت
فقيل له ألا تجيب رحمك الله فقال حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب.
وروينا عن أبي بكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول لا
أدري وذلك فيما قد عرف الأقاويل فيه.
وبلغنا عن الهيثم بن جميل قال شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة
فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري وعن مالك أيضا أنه ربما كان يسأل عن خمسين
مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكان يقول من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب
فيها أن يعرض نفسه على الجنة أو النار وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب فيها
وعنه أنه سئل عن مسألة فقال لا أدري فقيل له إنها مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال ليس
في العلم شيء خفيف أما سمعت قوله جل ثناؤه إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا فالعلم كله
ثقيل وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة وقال إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم تصعب عليهم مسائل ولا يجيب أحد منهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه قال مع ما
رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة فكيف بنا الذين قد غطت الخطايا والذنوب
قلوبنا.
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنهما أنه كان لا يكاد يفتي فتيا ولا يقول شيئا
إلا قال اللهم سلمني وسلم مني.
وجاء عن أبي سعيد عبد السلام بن
سعيد التنوخي الملقب بسحنون إمام المالكية وصاحب المدونة التي هي عند المالكيين
ككتاب الأم عند الشافعيين أنه قال: أشقى الناس من باع آخرته بدنياه وأشقى منه من
باع آخرته بدنيا غيره قال ففكرت فيمن باع آخرته بدنيا غيره فوجدته المفتي يأتيه الرجل
قد حنث في امرأته ورقيقه فيقول له لا شيء عليك فيذهب الحانث فيتمتع بامرأته ورقيقه
وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا....وفيما رواه أبو عمر بن عبد البر الحافظ بإسناده
عن مالك قال أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي فقال له
ما لبكائه فقال له أمصيبة دخلت عليك فقال لا ولكن استفتي من لا علم له وظهر في
الإسلام أمر عظيم قال ربيعة ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق رحم الله
ربيعة كيف لو أدرك زماننا وما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وحسبنا الله ونعم الوكيل.]([19]).
تغيير
الفتوى من أجل الطواغيت!
[وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أن يشرح ما ذكره
نجم الدين ابن حمدان من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته, بغير دليل ولا تقليد أو
عذر آخر, فأجاب هذا يراد به شيئان أحدهما أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من
غير تقليد لعالم آخر أفتاه, ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك, ومن غير عذر شرعي
يبيح له ما فعله, فانه يكون متبعا لهواه, وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد, فاعلا
للمحرم بغير عذر شرعي, فهذا منكر, وهذا المعنى هو الذي أورده الشيخ نجم الدين, وقد
نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما, ثم يعتقده
غير واجب ولا حرام, بمجرد هواه, مثل أن يكون طالبا لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له, ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقدها
أنها ليست ثابتة, أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الأخوة تقاسم الحد فإذا
صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الأخوة أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور
المختلف فيها كشرب النبيذ المختلف فيه ولعب الشطرنج وحضور السماع أن هذا ينبغي أن
يهجر وينكر عليه فإذا فعل ذلك صديقه اعتقد ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر
فمثل هذا ممكن في اعتقاده حل الشئ وحرمته ووجوبه وسقوطه بحسب هواه هو مذموم بخروجه
خارج عن العدالة.]([20]).
وقال رحمه الله:[ والرسول هو الواسطة والسفير بينهم وبين الله عز وجل فهو
الذي يبلغهم أمر الله ونهيه ووعده ووعيده وتحليله وتحريمه فالحلال ما حلله الله
ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله وليس لأحد أن يخرج
عن شيء مما شرعه الرسول وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به ويجب
على المجاهدين الجهاد عليه ويجب على كل واحد إتباعه ونصره.... ومتى ترك العالم ما
علمه من كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان
مرتدا كافرا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة قال تعالى {المص (1) كِتَابٌ
أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ
وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ }
[الأعراف: 1 - 3] ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله
ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره كان مستحقا لعذاب الله بل عليه أن يصبر وإن
أوذي في الله فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم قال الله تعالى:
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3] وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ
قَرِيبٌ} [البقرة: 214] وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع
فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم تخالف ما حكم به فعلى هذا أن يتبع ما علم من سنة رسول الله ويأمر
بذلك ويفتي به ويدعو إليه ولا يقلد الحاكم، هذا كله باتفاق المسلمين وإن ترك المسلم
عالما كان أو غير عالم ما علم من أمر الله ورسوله لقول غيره كان مستحقا للعذاب،
قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63] وإن كان ذلك الحاكم قد
خفي عليه هذا النص مثل كثير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم تكلموا
في مسائل باجتهادهم وكان في ذلك سنة لرسول الله تخالف اجتهادهم فهم معذورون لكونهم
اجتهدوا ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولكن من علم سنة رسول الله لم يجز له أن
يعدل عن السنة إلى غيرها قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ
إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا }
[الأحزاب: 36] ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديا منصورا بنصرة الله في
الدنيا والآخرة كما قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر: 51] {وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]]([21]).
المُضَلِّلُون
التضليل نوع من أنواع المكر والخيانة, وامتازت الشياطين بهذا العمل المشين{قَالَ
هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15]
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ
تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62] فلا ينفذ المـُضَلِّلون إلى المـُضَلَّلين إلا من
ثغر الجهل والغفلة, {يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا
(28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ
لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } [الفرقان: 28، 29] وأول عملية تضليل كانت من إبليس قال
الله تعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ
عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] فضلل إبليس آدم عليه
السلام, وزخرف له الأكل من الشجرة التي نُهيَ عنها,
وعلى طريقة إبليس سارت يهود, فضللوا قريشًا عندما سألت قريش يهود عن
الإسلام, كما وصفهم سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا سَبِيلًا } [النساء: 51] فزينوا لهم كفرهم وقالوا لهم أنتم أهدى من
المسلمين سبيلا.
وعلى هذا الطرق سار علماء الطواغيت والقنوات, فبدلاً من أن تكون رسالتهم
الحضّ على الجهاد, لقمع أهل الكفر والعناد, كانت تأييدًا للكافرين, والنيل من
المجاهدين, والدعاء عليهم ووصفهم بكل قبيح, والثناء على الطواغيت والإسفاف في
المديح, مما يؤدي لاحتقار العلماء ومن ثَمَّ العلم, وفتح الأبواب لمن في قلبه مرض,
وإثارة الشبهات, لأهل التخلف والضلالات, وتسويق منهج الكفار, ومهاجمة نهج الأبرار,
وتمييع المفاهيم بحجة التجديد, ومواكبة الكفر لاختراع إسلام جديد, فتصاب من أثرهم
الناشئة والمجتمعات, بأمراض وعاهات, أقلها الانقسام والانفصام, والتشتت والحطام,
وانتشار الفوضى الفكرية, والفرق البدعية, من المرجئة والجهمية, ودعاة الديمقراطية,
والدولة المدنية, وما شابه ذلك من دعوات الجاهلية, وتجتمع هذه الضلالات الردِّية,
بدعوى الثقافات السياسية, تريد أن تزحزح العقائد والأصول, من القلوب والعقول, وإحلال
فكر ضال منحول, وتهيئة الأجواء, لأطروحات الأعداء,
ويدَّعون العمل لخير الدين، ويريدون تلقيحه بأفكار الكافرين, ويهدموا منهج
السنة والكتاب, ويبنوا صرح الأهواء والضباب، ويخيّل إليهم تضليلهم أنهم مصلحون, وهم المفسدون ويعلمون، ويزعمون أنهم مستقلون,
وهم عبيد للشيطان يخدمون, جلهم انتحل عقيدة الماسون, يتفننون في التزلف للحكام, والهجوم
على أسود الإسلام, همُّهم تشويه الحق وتزويق الباطل, وأورعهم على العقيدة صائل,
فهم قد زينوا البطلان حتى *** كسوه
ثوب حق خادعينا
وأمـا الحـق فاتهـمـوه حــتى *** كسوه ثوب بطلان ضغينا
وحقيق بمن اتقى وخاف من الله النكَال, أن يحذر استحلال محارم الله بالمكر
والاحتيال، وأنه تعالى الله أن يسري عليه خديعة التظاهر والأقوال, وأن المعاذير
الكاذبة, والتبريرات الغامضة، والمغالطات التائهة, أمرها مكشوف, وأن برج أوهامهم
منسوف,
فأهل السنة لهم بالمرصاد, يبينوا ما هم عليه من ضلال وعناد, ومصيرهم إلى ما
ينتظرهم وبئس المهاد.
ولقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
منهم فعن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ،
يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ، وَلَا
آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ، وَلَا
يَفْتِنُونَكُمْ([22]).
[قال الإمام أحمد في خطبة كتابه في الرد على الجهمية: الحمد لله الذي
جعل في كل زمان فترة من الرسل, بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى,
ويصبرون منهم على الأذى, يحيون بكتاب الله الموتى, ويبصرون بكتاب الله أهل العمى,
فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه, وكم من تائه ضال قد هدوه, فما أحسن أثرهم على الناس,
وما أقبح أثر الناس عليهم, ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين, وانتحال المبطلين,
وتأويل الجاهلين, الذين عقدوا ألوية البدعة, وأطلقوا عنان الفتنة, فهم مختلفون في
الكتاب, مخالفون للكتاب, متفقون على
مخالفة الكتاب, يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم, يتكلمون
بالمتشابه من الكلام, ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم, فنعوذ بالله من فتن
المضلين]([23]).
وقال الإمام ابن القيم في وصف المضللين: [ومنهم من مخالطته الهلك كله,
ومخالطته بمنزلة أكل السم, فإن اتفق لأكله ترياق, وإلا فأحسن الله فيه العزاء, وما
أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله, وهم أهل البدع والضلالة, الصادون عن سنة
رسول الله, الداعون إلى خلافها, الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا, فيجعلون
البدعة سنة, والسنة بدعة, والمعروف منكرا, والمنكر معروفا, إن جردت التوحيد بينهم
قالوا تنقصت جناب الأولياء والصالحين, وإن جردت المتابعة لرسول الله قالوا أهدرت
الأئمة المتبوعين, وإن وصفت الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو
ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين, وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف
ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا أنت من المفتنين, وإن اتبعت السنة
وتركت ما خالفها قالوا أنت من أهل البدع المضلين, وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت
بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا أنت من المبلسين, وإن تركت ما أنت عليه واتبعت
أهواءهم فأنت عند الله تعالى من الخاسرين, وعندهم من المنافقين, فالحزم كل الحزم في
التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم, وأن لا تشتغل بإعتابهم ولا باستعتابهم,
ولا تبالي بذمهم ولا بغضبهم فإنه عين كمالك كما قال الشاعر: وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي
بأني كامل
وقال آخر: وقد زادني حبا لنفسي أنني *** بغيض إلى كل امرئ غير طائل]([24])
وقال الإمام ابن تيمية: [وهذا شأن المنافقين الذين يجادلون بكتاب الله تعالى
كما في الحديث موقوفا على عمر ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكما في حديث
عبد الملك بن عمير عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول إني أخاف عليكم ثلاثا وهي كائنة زلة العالم وجدال منافق بالقرآن
ودنيا تفتح عليكم ... وعن ميمون ولفظه حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل
منافق عليم، ورووا عن عمر بن الخطاب أنه قال أخوف ما أخاف على هذه الأمة الذين
يتأولون القرآن على غير تأويله] ([25]).
وقال الإمام ابن القيم: [ومنهم أشباه الذئاب, ومنهم أشباه الثعالب التي يروغ
كروغانها, وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحمر تارة, وبالكلب تارة, وبالأنعام
تارة, وتقوى هذه المشابهة باطنا حتى تظهر في الصورة الظاهرة ظهورا خفيا يراه
المتفرسون, ويظهر في الأعمال ظهورا يراه كل أحد, ولا يزال يقوى حتى تعلو الصورة
فنقلب له الصورة بإذن الله وهو المسخ التام, فيقلب الله سبحانه وتعالى الصورة
الظاهرة على صورة ذلك الحيوان كما فعل باليهود وأشباههم, ويفعل بقوم من هذه الأمة
ويمسخهم قردة وخنازير, فسبحان الله كم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر, وقلب ممسوخ
وقلب مخسوف به, وكم من مفتون بثناء الناس عليه, ومغرور بستر الله عليه, ومستدرج
بنعم الله عليه, وكل هذه عقوبات وإهانة, ويظن الجاهل أنها كرامة, ومنها مكر الله
بالماكر, ومخادعته للمخادع, واستهزاؤه بالمستهزئ, وإزاغته لقلب الزائغ عن الحق,
ومنها نكس القلب حتى يرى الباطل حقا والحق باطلا, والمعروف منكرا والمنكر معروفا,
ويفسد ويرى أنه يصلح, ويصد عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعى إليها, ويشتري الضلالة
بالهدى وهو يرى أنه على الهدى, ويتبع هواه وهو يزعم أنه مطيع لمولاه, وكل هذا من
عقوبات الذنوب الجارية على القلوب, ومنها حجاب القلب عن الرب في الدنيا والحجاب
الأكبر يوم القيامة, كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين
قلوبهم, فيصلوا إليها فيروا ما يصلحها ويزكيها, وما يفسدها ويشقيها, وأن يقطعوا
المسافة بين قلوبهم وبين ربهم, فتصل القلوب إليه فتفوز بقربه وكرامته, وتقرّ به
عينا وتطيب به نفسا, بل كانت الذنوب حجابا بينهم وبين قلوبهم, وحجابا بينهم وبين
ربهم وخالقهم, ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ, والعذاب في الآخرة قال
تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [طه: 124] وفسرت المعيشة الضنك بعذاب
القبر, ولا ريب أنه من المعيشة الضنك والآية تتناول ما هو أعم منه وإن كانت نكرة في
سياق الإثبات فإن عمومها من حيث المعنى فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض
عن ذكره, فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه, وإن تنعم في الدنيا بأصناف
النعم, ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي يقطع القلوب, والأماني الباطلة
والعذاب الحاضر ما فيه, وإنما يواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا
والرياسة, إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر, فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر, فإنه
يفيق صاحبه ويصحو, وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا كان صاحبه في عسكر
الأموات, فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله, الذي أنزله على رسوله صلى
الله عليه وسلم, في دنياه وفي البرزخ ويوم معاده ]([26]).
فيا سبحان الله العظيم أين عقول هؤلاء, أعميت أبصارهم وبصائرهم, أفلا يرون
ما الناس فيه من العمى والحيرة في الزمان المظلم المدلهم, الذي قد ملكت فيه الكفار
معظم الدنيا, وسار وراءهم الطواغيت المسلطون على بلاد المسلمين, ممن عطلوا شرع الله,
ووالوا عبَّاد الصليب ويهود؛ حفظاً على كراسيهم المهترأة, وهؤلاء الطواغيت هم
الذين يسميهم الموظفون والأجراء (أولياء الأمر), ويدعون إلى طاعتهم, وقتل من خالفهم,
والحكم عليه بالضلال, والبغي والفساد, قُلبت الحقائق, وخُوِّن الأمين, وتكلم
الرويبضة, ولقد جاء في الحديث { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال:َ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ
يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا
الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ
وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ }([27]).
وقد بقي أولي بقية, تجاهد عن هذا الدين, ويشم المؤمنون فيها رائحة الإسلام, فقام
علماء السوء والدعاة إلى الباطل وإقامته, ودحض الحق وأهله بمهاجمة هؤلاء الذين
يذودون عن حياض الأمة, وينكون بعدو الله, ويرفعون راية الجهاد, ثم إن الله تعالى
قد رحم هذه الأمة بإقامة رجال قويت همتهم, وباعوا أنفسهم لله ابتغاء مرضاته, والذود
عن هذا الإسلام, وإصلاح فساد المجتمع ورده إلى الدين القويم جهد الإمكان, يحيون ما
اندرس من فريضة الجهاد في نفوس الناس, ويذكِّرون علماء الطواغيت من سوء العاقبة والإخلاد
إلى الأرض ومتاع الدنيا الزائل, فاستفزهم الشيطان بخيله ورجله ووقفوا إلى جانب الكفار
وعبيدهم من أنظمة الردة ينافحون عنهم, ونسوا الله فنسيهم, ووالوا الطاغوت فأضلهم,
وأدهنوا في دينهم فزاغوا, وإلا فأين الوقوف مع الحق ومنابذة الباطل, والمجاهدون مع
هذا كله قائمون بجملة ذلك, مع قلة الناصر وكثرة الخاذل, والحاسد والشامت, فمثل هؤلاء
الرجال في هذا الزمان وقيامهم بهذا الأمر العظيم الخطير. أيقال لهم محدثون
إرهابيون مخالفون؟! أفلا يستحيي هؤلاء من
الله؟! ولكن أين الحياء؛ لقد مات عند هؤلاء وصلى عليه الناس أربع ركعات وفي رواية
خمس لا ركوع فيهن ولا سجود, فيا أيها التائهون أفيقوا وكيف ينصر دين محمد بن عبد الله
الذي أنزل من السماء, بالطعن على هؤلاء المجاهدين, وكيف يظهر الحق إن لم يخذل
الباطل؟!
لا
تكونوا جنوداً لإبليس
ونود أن نقول لموظفي الطواغيت وأجرائهم, إذا لم تستطيعوا أن تكونوا جنوداً
لله, فلا تكونوا جنوداً لإبليس, وإن لم تستطيعوا قول الحق فلا تقولوا الباطل, وإذا
لم تسمحوا للمَلَك أن ينطق على ألسنتكم فلا تمكنوا الشيطان منها يرتع هناك حيث
يشاء, ويحول ألسنتكم إلى وكالة إعلام تابعة له.
فجنود إبليس يقدمون أهواءهم على القرآن، ويزعمون أن هذا المناسب لتطور
الزمان, ويخاصمون شريعة رب العالمين, ليكونوا من المجددين, ويواجهوا أقوال الصحابة
والسلف بالاستخفاف, ومقررات طواغيتهم بالتبجيل والإتحاف, وما هذا إلا من فساد
القلوب, وتراكم الذنوب, فترى جنود إبليس يحتشدون في أجهزة الإعلام, يشوهون
الإسلام, بفتواهم المتأمركة, وقصصهم المفبركة, وينشرون الفساد في الأرض, ويهجمون
على الجهاد في الطول والعرض. حتى غدا حالهم كما وصفه أحدهم:
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى **** بي الحال حتى صار إبليس من جندي
[عن مكحول عن كعب أن لقمان قال لابنه:
يا بني كن أخرساً عاقلا ولا تكن نطوقا جاهلا, ولأن يسيل لعابك على صدرك وأنت كاف
اللسان عما لا يعنيك, أجمل بك وأحسن من أن تجلس إلى قوم فتنطق بما لا يعنيك, ولكل
عمل دليل, ودليل العقل التفكر, ودليل التفكر الصمت, ولكل شيء مطية, ومطية العقل
التواضع, وكفى بك جهلا أن تنهى عما تركب, وكفى بك عقلا أن يسلم الناس من شرك]([28]).
يقول الإمام ابن القيم في وصف إبليس وتعليماته لجنوده: [ فصل ثم يقول قوموا
على ثغر اللسان, فإنه الثغر الأعظم, وهو قبالة الملك, فأجروا عليه من الكلام ما
يضره ولا ينفعه, وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله, واستغفاره,
وتلاوة كتابه, ونصيحته عباده, والتكلم بالعلم النافع, ويكون لكم في هذا الثغر أمران
عظيمان, لا تبالون بأيهما ظفرتم:
أحدهما التكلم بالباطل, فإنما
المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.
الثاني: السكوت عن الحق, فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس, كما أن الأول أخ
ناطق وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم, أما سمعتم قول الناصح: (المتكلم
بالباطل شيطان ناطق, والساكت عن الحق شيطان أخرس)؟
فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل, وزينوا له
التكلم بالباطل بكل طريق, وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.
واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو
الذي أهلك منه بني آدم, وأكبهم منه على مناخرهم في النار, فكم لي من قتيل وأسير
وجريح أخذته من هذا الثغر؟
وأوصيكم بوصية فاحفظوها لينطق أحدكم
على لسان أخيه من الإنس بالكلمة ويكون الآخر على لسان السامع, فينطق باستحسانها
وتعظيمها والتعجب منها, ويطلب من أخيه إعادتها, وكونوا أعوانا على الإنس بكل طريق,
وادخلوا عليهم من كل باب, واقعدوا لهم كل مرصد.]([29]).
وقال رحمه الله:[ وأما اللفظات: فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة, بأن لا
يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه, فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر:
هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها, وإن كان فيها ربح نظر:
هل تفوت بها كلمة هي أربح منها ؟ فلا يضيعها بهذه, وإذا أردت أن تستدل على ما في
القلوب فاستدل عليه بحركة اللسان فإنه يطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم أبى.
قال يحيى بن معاذ: "القلوب
كالقدور تغلي بما فيها, وألسنتها مغارفها" فانظر إلى الرجل حين يتكلم فإن
لسانه يغترف لك مما في قلبه, حلو وحامض, وعذب وأجاج, وغير ذلك, ويبين لك طعم قلبه
اغتراف لسانه, أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقته
كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه, فتذوق ما في قلبه من لسانه.
وفى حديث أنس المرفوع: "لا
يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه, ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"]([30]).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ:
«تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ»، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ
النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: «الفَمُ وَالفَرْجُ»: وحسنه الألباني([31]).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ
جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ
ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا
أَوْ لِيَصْمُتْ»([32]).
0 التعليقات:
إرسال تعليق